كورونا والمحبة الأولى
الهدى 1225 نوفمبر 2020
على قدر مساوئ فترة كورونا وتأثيراتها السلبية على كل الأصعدة، إلا أن البعض قد استفاد منها في نواحي أخرى كثيرة مثل القراءة والاطلاع، أو التركيز في أمور معينة، أو مراعاة بعض الأمور المهملة، أو توطيد العلاقات الداخلية مع أفراد الأسرة، أو افتقاد الاصدقاء وغيرهم تليفونيًا خاصة ممن لم تتح الفرصة للاتصال بهم قبل ذلك،
أو أنها كانت فرصة للبعض لتطوير الذات، وتنمية بعض المهارات، أو إنجاز بعض الأعمال، وبالتأكيد أيضًا كانت لدى بعض الناس بمثابة جرس إنذار للحث على التوبة وتغيير الاتجاهات والمسارات الخاطئة، وأيضًا كانت لدى البعض بمثابة منبه يوقظهم ويُذكّرُهم بمحبتهم الأولى التي تركوها وهجروها لفترات طويلة، وسنتحدث هنا في هذا المقال بنعمة الرب عن هذه الفئة لنعرف ما هي المحبة الأولى؟ وما هي خصائصها؟ وأيضًا ما هي علامات ترك المحبة الأولى؟ وكيفية الرجوع إليها؟
أولًا يجب أن نعلم أن لفظة «المحبة الأولى» توحي بالدرجة السامية والرفيعة للمحبة، وهى تعبر عن المحبة التي قيل عنها أنها قوية كالموت، كما تعبر أيضًا عن مقدار الدفء العاطفي، والحميمية، والالتصاق بالحبيب، وسواء كان المقصود بها المحبة لله أو المحبة للآخرين، فاللوم الموجه إلى ملاك كنيسة أفسس (أفسس 2 : 4) أنه قد ترك هذه المحبة الأولى.
ونلاحظ أن المحبة الأولى عادة ترتبط بالأيام الأولى في جدة العلاقة مع المحبوب، وعندما نتحدث عن العلاقة مع المسيح، والتي تصاحبها دائمًا الفرحة الغامرة، والمشاعر الصادقة، خاصة في الأيام الأولى منذ قبول المسيح كمخلص شخصي للحياة، لذلك يقول المرنم عند رجوعه وتوبته: «رُدّ لي بهجة خلاصي» لأن الإنسان المؤمن في هذه الأيام الأولى يتمتع بمحبة المسيح التي لا يستطيع شيء أن يفصله عنها، لا شدة، ولا ضيق، ولا عري، ولا…، فما أعظم المحبة التي تميز تلك العلاقة، كما نستطيع أيضًا أن نلاحظ معًا خصائص هذه المحبة وهى كالتالي:
1) محبة تاعبة:
حيث يقول الروح لملاك كنيسة أفسس: «أنا عارف أعمالك وتعبك» (رؤيا 2: 2)، ويقول كاتب العبرانيين أيضًا: «لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب محبتكم التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم» (عبرانيين 6: 10).
لذلك فمن يقول إنه يحب المسيح فلابد أن يتعب لأجله، ولأجل نمو عمله، وامتداد ملكوته، وتمجيده في كل شيء، فالخدمة التي يصاحبها التعب هى نتيجة المحبة الحقيقية، والعمل الذي يصاحبه الجهاد والمثابرة فهو نتيجة أيضًا للمحبة القوية، فيقول: «بولس جاهدتُ الجهاد الحسن…» وهناك أمثلة أخرى كثيرة جدًا في الكتاب لأناس قدموا محبة تاعبة للرب مثل: «تريفينا وتريفوسا التاعبتان في الرب» (رومية 16: 12).
2) محبة صابرة:
فالمحبة الأولى ترتبط بالصبر، فهي التي تجعل المؤمن يصبر في الضيقات والشدائد، فالمحبة «تصبر على كل شيء» (1كورنثوس 13: 7)، ويقول الروح أيضًا لملاك نفس الكنيسة: أنا عارف أعمالك و… صبرك» (رؤيا 2: 4)، فالصبر دون كلل أو ملل دليل المحبة الصادقة، لكن لا أحد ينكر أن الحياة لا تخلو من الآلام والمتاعب والصعوبات المختلفة حيث أن «كل الخليقة تئن وتتمخض معًا» لكن الله يعطي لأولاده المعونة المناسبة لاحتمال الآلام، وأيضًا يملأ قلوبهم بالتعزية والرجاء فيستطيعوا أن يصبروا، ويتحملوا، وينتظروا الرب بلا تذمُّر.
مثال: بولس الذي قال: «بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات» (2كورنثوس 6: 4).
3) محبة باذلة:
فالمحبة الأولى هي محبة باذلة مضحية، وأكبر مثال على هذه المحبة هو محبة المسيح «الفائقة المعرفة» حيث قال عنها المسيح نفسه: «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» (يوحنا 15 : 13)، وأيضًا «لأن ابن الانسان لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس 10 : 45 )
فهكذا كانت محبة المسيح محبة باذلة ومضحية، وهكذا أيضًا كل من يحب محبة حقيقية يجب أن يبذل ويضحي من أجل من يحبه، فهناك من يضحي بوقته، أو جهده، أو ماله، أو… تعبيرًا عن المحبة الصادقة، فهل تعبر عن محبتك للرب بأن تبذل وتضحي من أجله؟
علامات ترك المحبة الاولى:
كما أن للمحبة الأولى خصائص وعلامات هكذا أيضًا من يترك المحبة الأولى فتظهر عليه بعض العلامات، ومن هذه العلامات نذكر:
1) ترك الاجتماعات:
فيقول كاتب العبرانيين: «غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب» (عبرانيين 10: 25).
فتجد الشخص الذي كان مواظبًا على حضور الاجتماعات الروحية بلهفة، ملتصقًا بالكنيسة، ومحبًا للشركة مع باقي أعضاء الجسد الواحد، تجده قد ترك كل ذلك بسهولة مقدمًا الكثير والكثير من الأعذار، أليس هذا دليلًا على ترك المحبة الأولى سواء للرب أو لإخوته؟ لذلك فعلينا أن نرجع لمحبتنا الأولى ولا نترك اجتماعنا أو كنيستنا.
2) اهمال الخدمة:
الخدمة الحقيقية بدوافع نقية مرتبطة بالمحبة الاولى، لكن عندما يترك الشخص محبته الأولى تجده لا يضع الخدمة في مكانها الصحيح في قائمة أولوياته، أو قد يستمر البعض في الخدمة لكن بدوافع غير نقية، يعلمها ويحكم فيها الله وحده، لكن على كل حال تكون النتيجة العامة إهمال في الخدمة الحقيقية للرب، لذلك يقول السيد المسيح له كل المجد: «لأن الحصاد كثير أما الفعلة فقليلون، فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده» (لوقا 10: 2). أليس من المؤسف أن يكون الفعلة المُرسلون إلى الحصاد مهملين؟ لذلك علينا جميعًا أن نلاحظ أنفسنا ونرجع إلى محبتنا الأولى ونخدم بأمانة كما للرب وليس للناس.
3) ضعف العطاء:
يرتبط العطاء بالمحبة الأولى، فتجد الانسان المحب يعطي بسخاء دون حساب من وقته ومن جهده ومن ماله، فالبُخل لا يعرف طريقه إليه، فيقول بولس عن عمل نعمة الله في كنائس مكدونية: «فاض وُفُور فرحهم وفقرهم العميق لغنى سخائهم، لأنهم أعطوا حسب الطاقة، أنا أشهد، وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم» (2كورنثوس 8: 2 – 3). ويُعلمنا الكتاب أنه «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أعمال 20: 35). لكن من يترك محبته الأولى تجده قد تحول عن سخائه وعن تقديره السابق لقيمة العطاء، مقدمًا أيضًا الكثير والكثير من الأعذار، لذلك ليساعدنا الرب أيضًا أن نعبر عن محبتنا للرب بأن بسخاء مسرورين.
لذلك فالدعوة لنا أن نرجع إلى محبتنا الأولى، مُتحذرين من الاستمرار في تركها، منتفضين من كل ضعف، عاملين وتاعبين في عمل الرب، باذلين ومضحين من أجله كما بذل هو نفسه، وضحى من أجلنا، وصابرين أيضًا على الضيق والألم برجاء، مواظبين على اجتماعنا، متمسكين بخدمتنا، معطين بسرور وسخاء.