الإصلاح الديني والتعليم: عقيدة الاختيار والإرسالية إلى أقصى الأرض
الهدى 1260 – 1263 سبتمبر – ديسمبر 2024
لا توجد عقيدة يُساء فهمها وشرحها وتطبيقها، خاصَّة من قِبَل مُعارضيها، أكثر مِن عقيدة الاختيار. واحدةٌ من أكبر الاعتراضات هي الادِّعاء أنَّ الإيمان بتلك العقيدة يؤدِّي بالضَّرورة إلى وقف الكرازة وتعطيل الإرساليَّة. فيدَّعي مُعارضو عقيدة الاختيار أنَّه إن كان الله قد اختار الذين سيخلصون منذ الأزل، فلماذا نكرز ولماذا نسعى لتوصيل رسالة الإنجيل لغير المؤمنين، ففي النِّهاية سوف يأتي الله بمختاريه للخلاص بنا أو من دوننا.
لا يمكننا في هذا المقال شرح كافَّة تفاصيل تلك العقيدة وتطبيقاتها الإيجابيَّة[1]، ولا شرح كلّ مُغالطات رجل القشّ[2] التي يستخدمهما مُعارضيها أثناء شرحهم إيَّاها لدَحضها. سوف نكتفي هنا بالرَّدِّ باختصار على الزَّعم القائل بأنَّ الإيمان بعقيدة الاختيار يقلِّل من الالتزام أو الاحتياج أو الحماسة للكرازة والإرساليَّة. سنقوم بذلك عن طريق تقديم حُجج كتابيَّة وأخرى تاريخيَّة. ولكن قبل الخوض في ذلك، أودّ التَّأكيد أنَّ هناك من يؤمنون بالاختيار المسبَق ويسيئون بالفعل تطبيق هذه العقيدة بتجاهل الكرازة. بالطَّبع هذا يحزِن أيَّ مؤمن حقيقي، ولا يمجِّد الله صاحب السِّيادة. كما أؤكِّد أنَّه في الوقت نفسه هناك من لا يؤمنون بالاختيار المسبَق ويجتهدون في الكرازة والإرساليَّة. ولهؤلاء الأحبَّاء، رغم رؤيتي لعدم قبولهم للتَّعليم الكتابي الواضح في كلمة الله الخاصّ بعقيدة الاختيار غير المشروط، إلَّا أنَّني أشكر الرَّبَّ من أجلهم، على غيرتهم في خلاص النُّفوس واجتهادهم في الكرازة والإرساليَّة. الآن، دعونا نلتفت إلى الحُجج الكتابيَّة التي تؤكِّد أنَّ الإيمان بعقيدة الاختيار لا يمنع، بل بالعكس يحفِّز، الكرازة والإرساليَّة.
الحُجج الكتابيَّة
أوَّلاً، نقرأ في (يوحنا ١٠) تأكيد المسيح أنَّ بعضًا لن يؤمنوا لأنَّهم ليسوا من خرافه أو مُختاريه: «٢٥ أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلْأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِٱسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. ٢٦ وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. ٢٧ خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. ٢٨ وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ، وَلَا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي.» في عدد ٢٦، يؤكِّد المسيح لهذه المجموعة من اليهود بشكل خاصّ أنَّ سبب عدم إيمانهم هو أنَّهم «ليسوا من خرافه». لاحظ أنَّه لم يقُل «ولكنَّكم لستُم من خرافي لأنَّكم لستم تؤمنون». فإن كان قد قالها بهذه الطَّريقة، لكان المقصود هو أنَّ عدم الإيمان (أوَّلًا) هو لكونهم ليسوا من خرافه (ثانيًا). ولكن ما قاله المسيح هو تأكيد مختلف، وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، أي لأنَّهم ليسوا من خرافه (أوَّلًا) أو ليسوا من مختاريه، فلن يؤمنوا (ثانيً). في الحقيقة هذا ما أكَّده المسيح في أماكن أخرى، «اَلَّذِي مِنَ ٱللهِ يَسْمَعُ كَلَامَ ٱللهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱللهِ» (يوحنا ٨: ٤٧).
لكن في المقابل أكَّد المسيح في (يوحنا ١٠: ٢٧) أنَّ الخراف حتمًا سوف تسمع صوته: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي». لماذا ستسمع لصوته؟ لأنَّه هو يعرفها معرفة، يعرفها معرقة حقيقيَّة علائقيَّة: «وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي». فكلمة معرفة هنا لا تعني مجرَّد المعرفة الذِّهنيَّة (فهو يعرف الجميع)، لكن معرفة العلاقة الشَّخصيَّة (انظُر، متَّى ٧: ٢٣؛ إرميا ١: ٥؛ مزمور ١: ٦). بطريقة أخرى، كلّ من عرفهم المسيح قبلًا، هم نفسهم خراف المسيح الذين بذل نفسه لأجلهم بشكل خاصّ (١٠: ١١). وكلّ خراف المسيح من اليهود أو الأمم (١٠: ١٤-١٦)، سوف يسمعون لصوته ويؤمنوا به ويتبعونه، وهو نفسه سيعطيهم حياة أبديَّة ولن يهلكوا أبدًا (ع ٢٨).
الأمر نفسه يتَّضح في صلاة المسيح. فلهذا السَّبب نفسه صلَّى المسيح لأجل تلك الخراف بشكل خاصٍّ، والذين أطلَق عليهم في أماكن أخرى في إنجيل يوحنا «الذين أعطاني الآب». فنجده في (يوحنا ١٧: ٩) يصلِّي «مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِأَنَّهُمْ لَكَ». (لاحظ أنَّ الذين أعطاهم الآب للابن –خراف المسيح– والذين يصلِّي لأجلهم الابن وحدهم بشكل خاصّ لا يشملون الرّسل فقط بل كلّ المؤمنين أيضًا، ع ٢٠). نعم، صلَّى المسيح لأجل هؤلاء من دون الآخرين، مثلما كان يصلِّي رئيس الكهنة لأجل شعب محدَّد من دون بقيَّة الشُّعوب.
لكن.. هل صلاة المسيح لأجل من أعطاهم الآب إيَّاه وحدهم منعته من الكرازة للجميع؟ هل قوله لبعضٍ إنَّهم لن يأتوا للإيمان لأنَّهم ليسوا من الله (٨: ٤٧) أو أنَّهم لن يؤمنوا لأنَّهم ليسوا من خرافه (١٠: ٢٦) منعه من تقديم دعوته للكلّ؟ كلَّا. ففي إنجيل يوحنا نفسه نجد المسيح عدَّة مرَّات يقدِّم الدَّعوة للجميع. على سبيل المثال، نقرأ في (يوحنا ٧: ٣٧) «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ ٱلْعَظِيمِ مِنَ ٱلْعِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى قَائِلًا: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. ٣٨ مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ». كان ليسوع وحده معرفة فائقة خاصَّة بمن هم المختارون ومن غير المختارين (انظر، يوحنا ١٣: ١٠). ولا تذكر كلمة الله أحدًا كرز بالطَّريقة التي قدَّمها يسوع مُعلنًا لبعضٍ أنَّ سبب عدم إيمانهم هو أنَّهم ليسوا من الخراف، أو ليسوا من الله. لكن حتَّى هذه المعرفة الخاصَّة التي للمسيح لم تمنعه من تقديم دعوة الخلاص لجميع الذين يسمعونه.
ما رأينا في إنجيل يوحنا متكرِّر في أماكن أخرى في الأناجيل. أكتفي بمثل آخر من الأناجيل نجد فيه الحديث عن سيادة الله الكاملة في الخلاص من جهة، ودعوة الخلاص العامَّة المقدَّمة للجميع من جهة أخرى. أحد أشهر أقوال المسيح التي نجد فيها دعوة للجميع ليأتوا وينالوا الخلاص نجدها في (متى ١١: ٢٨) «تَعَالَوْا إِلَيَّ يا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ». لكنَّنا كثيرًا ما نتغافل سياق الأعداد السَّابقة مباشرة، حيث يؤكِّد المسيح أنَّ الآب نفسه بحسب مسرَّته «يخفي» و»يعلن» أسرار ملكوت الله (ع ٢٥-٢٦؛ راجع أيضًا أفسس ١: ٤-١٣). كما أنَّ العدد السَّابق مباشرة للدَّعوة العامَّة المقدَّمة للجميع، يؤكِّد فيه المسيح سيادته سيادة حيث إنَّ أرادته الذَّاتيَّة هي التي تمثِّل العنصر الحاسم في معرفة أيّ شخص بالله الآب: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلِٱبْنَ إِلَّا ٱلْآبُ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلْآبَ إِلَّا ٱلِٱبْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلِٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (ع ٢٧). ورغم وضوح هذا النَّص، ومن أقوال أخرى في إنجيل متَّى عن سيادة الله في الاختيار (راجع متَّى ٢٢: ١٤)، إلَّا أنَّ ذلك الإنجيل ينتهي بأمر المسيح للتَّلاميذ بالذِّهاب في الإرساليَّة إلى كلِّ الأمم حاملين رسالة الإنجيل (متَّى ٢٨: ١٩-٢٠). فالإيمان أنَّ خراف المسيح وحدهم هم من سيسمعون صوته ويخلصون برسالته، يجب إن لا قود التَّلاميذ إلى التَّخاذل في طاعة دعوته للذَّهاب برسالة الإنجيل إلى العالم أجمع، بل على العكس، يجب أن يحفِّزهم للذِّهاب واثقين في قدرة الرَّبّ لخلاص أشرّ الأشرار والمعاندين.
ثانيًا، اتَّبع بولس خًطى المسيح في التَّعليم والممارسة. حيث علَّم عن عقيدة الاختيار غير المشروط بوضوح، لكنَّه علَّم عن مسؤوليَّة كلّ الخطاة في أن يقبلوا الرِّسالة بالإيمان، ومسؤولية المؤمنين في الصَّلاة والكرازة للجميع. لم يحاول بولس الرسول أن يحلّ المعضلة الفلسفيَّة: كيف يكون الاختيار الإلهي أزلي وغير مشروط، وفي الوقت نفسه يكون الإنسان مسؤولًا عن الإيمان والصَّلاة والكرازة. فهِم أنَّ هناك سرّ يفوق الإدراك (تثنية ٢٩: ٢٩). وأنَّ كلَّ تعليم إلهي له نفعه، حتَّى وإن كنَّا لا نستطيع أدراك كلّ أبعاده.
لذلك، وضع بولس إصحاحه الأهمّ بخصوص الإرساليَّة والكرازة (رومية ١٠)، بين إصحاحَين يُعتبران من أهمّ الإصحاحات التي تتحدَّث عن سلطان الله في الاختيار (رومية ٩، ١١). لاحظ الأمور التَّالية في تلك الإصحاحات:
يؤكِّد بولس حزنه الشَّديد على عدم إيمان أنسبائه حسب الجسد (٩: ١-٥).
يؤكد أنَّ مِن وسط أنسبائه حسب الجسد الذين رفضوا الرِّسالة (إسرائيل العِرقي) هناك بقيَّة (إسرائيل الحقيقي) آمنوا برسالة المسيح وتحقَّقت فيهم كلّ وعود الله، هؤلاء هم المختارون بسيادة الله المطلَقة (٩: ٦-٢٩).
يلوم غير المؤمنين من إسرائيل (العِرقي) لأنَّهم مسؤولين عن عدم إيمانهم (٩: ٣٠-٣٣).
بعد أن أكَّد سلطان الله في الاختيار، يؤكِّد بولس أنَّه يقوم بدوره باستمرار في الصَّلاة لأجل خلاص أناس من شعبه (١٠: ١- ٤). فمعرفته بسلطان الله واختياره غير المشروط، لم تمنعه، بل حفَّزته للصَّلاة لأجل خلاصهم.
يؤكد أهمِّيَّة الكرازة، وأنَّه من دونها لن يخلص أحد (١٠: ١٣-١٥).
يعود إلى الحديث عن سلطان الله في الاختيار غير المشروط (١١: ٥-٦).
لم تكن عقيدة بولس وحدها، بل ممارسته أيضًا تؤكِّد أنَّ سلطان الله في الخلاص والتَّأكُّد من وجود مختارين في مدينة معيَّنة، لا يقود إلى التَّخاذل في الصَّلاة والكرازة، بل على العكس يُشجِّع عليهما معطيًا اليقين التَّام أنَّ الله لا يعرِض الخلاص فحسب على النَّاس، بل في الواقع هو الضَّامن والقادر أن يُخلِّص شعبه من خطاياهم. فعندما واجه بولس بعض المعارضة في إرساليَّته في كورنثوس، نقرأ في أعمال ١٨، أنَّ المسيح ظهر له في رؤيا قائلًا: «لَا تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلَا تَسْكُتْ، ١٠ لِأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلَا يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لِأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ ٱلْمَدِينَةِ». هذا التَّأكيد على وجود شعب لله (مختارين)، لم يقود بولس إلى الذِّهاب إلى مدينة أخرى قائلًا، «سوف يأتي الرَّبّ بهذا الشَّعب بي أو من دوني، فدَعني أذهب إلى مكان آخر». بل على العكس، نقرأ أنَّ ردّ فعله كان، «١١ فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ ٱللهِ.» باختصار، لقد شجَّع سلطان الله بولس على أداء دوره.
لذلك، نستنتج من كلمة الله أنَّ الله عيَّن المختارين، وأيضًا عيَّن الطَّريقة التي سيأتي بها أولئك المختارون إلى الخلاص، أي الصَّلاة والكرازة بالإنجيل (2تيموثاوس ٢: ١٥؛ ٤: ٥). لأجل هذا ثابر تلاميذ المسيح في خدمتهم «لِأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ، لِكَيْ يَحْصُلُوا هُمْ أَيْضًا عَلَى ٱلْخَلَاصِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، مَعَ مَجْدٍ أَبَدِيٍّ.» (٢تيموثاوس ٢: ١٠).
الحُجج التَّاريخيَّة
لا شكَّ أنَّ عقيدة الاختيار مثل باقي العقائد طبَّقها بعضٌ على مدار التَّاريخ بشكل غير كتابي. على سبيل المثال، أخذ الكلفنيِّين-المفرطين (hyper-Calvinists)[3] عقيدة الاختيار عذرًا لعدم استعدادهم لدفع ثمن التَّضحية لكي تصل رسالة الإنجيل للهالكين. لذلك، قاوم كثيرٌ من المُصلحين تعليم الكلفنيِّين-المفرطين[4]. لكن على صعيد آخر، عند قراءة تاريخ الإرساليَّة المسيحيَّة نجده حافل بالأمثلة لأشخاص آمنوا بسلطان الله في الخلاص والاختيار، وفي الوقت نفسه، على مثال بولس، أفنَوا حياتهم لكي يصل الإنجيل إلى من لم يسمعوا به (رومية ١٥: ٢٠). على سبيل المثال، نذكر وليم كاري (١٧٦١-١٨٣٤) المبشِّر الشَّهير إلى الهند والذي يعتبر أب حركة الإرساليَّة الحديثة، وجون إليوت (١٦٠٤- ١٦٩٠) وديفيد برينرد (١٧١٨-١٧٤٧) اللَّذان أفنيا حياتهما لكي يصل الإنجيل إلى قبائل الهنود الحُمر في أميركا، واللَّذان قد حرَّكت قصَّة حياتهما آلاف المسيحيِّين حول العالم لإفناء حياتهم في إرساليَّة المسيح.
بالإضافة إلى هؤلاء، هناك مرسلين كثيرين مثل جورج ويتفيلد؛ جوناثان إدورادز؛ دافيد لفينجستون؛ هنري مارتن؛ وصموئيل زويمر وآخرين آمنوا بعقيدة الاختيار غير المشروط، وآمنوا بل ومارسوا أيضًا مسؤوليَّة شعب الرَّبّ في أخذ الإنجيل إلى أقصى الأرض.
ولأنَّه دائمًا ما يُقال عن جون كلفن إنَّه كان مولعًا بعقيدة الاختيار[5]، وإنَّه هو مَن بدأها ونشرها[6]، وإنَّ إيمانه هذا جعله لا يهتمّ بالإرساليَّة، لذلك سأختم بالحديث عن جهود جون كلفن في الإرساليَّة[7]: أسَّس كلفن أكاديميَّة جنيفا ١٥٥٩م. كان قبلها (حوالي ١٥٥٥م) قد بدأ بالفعل في تدريب كثيرين في الوعظ بكلمة الله وأرسالهم إلى فرنسا. في أكاديميَّة جنيفا تمَّ تدريب كثيرين على تفسير الكتاب المقدَّس؛ اللَّاهوت؛ الأخلاق المسيحيَّة؛ والوعظ والتَّعليم. في هذا الوقت، كان هناك اضطهاد على كلّ من يُعلِّم كلمة الله بأمانة في فرنسا، لذلك امتلأت جنيفا بكثيرٍ من اللَّاجئين الفرنسيِّين. في بداية الخدمة في الأكاديميَّة، كان هناك ١٦٢ طالبًا معظمهم فرنسيِّين، وبعد ستِّ سنوات تضاعَف العدد إلى عشرة أضعاف. وبين عامي ١٥٥٥ و ١٥٦٢ أرسل كلفن ١٤٢ رجلًا إلى فرنسا، للكرازة ولتأسيس هيئات تُعَلِّم الكتاب المقدَّس، وكنائس تعظ برسالة الإنجيل. كانت يد الله معهم ففتنوا فرنسا، إلى درجة أنَّ جان ماكر، أحد الخُدَّام آنذاك، كتب إلى كلفن رسالة يقول فيها، «إنَّ النَّار قد اشتعلت في كلِّ أنحاء المملكة، وكلُّ مياه البحر لن تستطيع أن تطفئ حركة الإصلاح هذه».
ورغم ذلك الاضِّطهاد الشَّديد الذي واجهه هؤلاء المرسَلين استمرُّوا في إعلان رسالة الإنجيل من دون توقُّف، حتَّى إنَّ الكنيسة المصلَحة نمَت من خمس كنائس عام ١٥٥٥ في كلِّ فرنسا، إلى مئة كنيسة بحلول عام ١٥٥٩. والأعظم من ذلك، أنَّه في خلال ثلاث سنوات، أي بحلول عام ١٥٦٢، ازدادت حركة الهوجونتس (مصلحي فرنسا) لتضمّ ٢١٥٠ كنيسة بسبب خدمة الـ١٤٢ مُرسَل الذين أرسلهم كلفن. أدَّى ذلك لارتفاع تعداد الكنيسة المصلحة في فرنسا إلى حوالي ٣ مليون (من مجموع ١٥ أو ١٦ مليون مواطن فرنسي). وقد تراوح عدد الحاضرين في بعض تلك الكنائس بين ٦٠٠٠ و٩٠٠٠ شمل هذا العدد من المتحوِّلين حوالي نصف الرِّجال الأغنياء في فرنسا، كما أنَّ بعض الكهنة الكاثوليك[8] صاروا تابعين لحركة إصلاح (الهوجونتس) وصاروا مهتمِّين بإصلاح الكنيسة[9].
سأل بيرثود، الذي كتب عن الإرساليَّة وقت كلفن: «كيف يمكن للواحد أن يعطي إجابة لحقيقة كون الوعظ بالعقائد التي تبدو منهِكة للبشر مثل عقيدة الاختيار، وعقيدة الفساد الكلِّي للبشر –والتي يعتبرها كثيرٌ من الإنجيليِّين في أيَّامنا هذه كعقائد مضادَّة للتَّحفيز على الكرازة الفعالة –ورغم ذلك، أنتجت واحدة من أعظم النَّهضات الفائقة في تاريخ الكنيسة؟ حتَّى إنَّ الوعظ الذي كان في زمن الإصلاح لم ينتج عنه فقط تجديد عدد لا حصر له من الرِّجال والنَّساء وتحوُّلهم إلى إيمانٍ يطالبهم ببذل كلّ شيء في حياتهم، بل بالإضافة لذلك، أنتج تجديدًا كُلِّيًّا في الثَّقافة؛ المجتمع؛ العادات السِّياسيَّة لكثير من القطاعات في الحضارة الأوربيَّة، الأمر الذي لم نشهده منذ ذاك الزَّمان إلى الآن.»[10]
حقًّا، تقود دراسة كلمة الله وقراءة التَّاريخ إلى استنتاج أنَّ معرفتنا أنَّ الله سيخلِّص مختاريه، إن كان يجب أن تُشعل فينا الحماسة للخدمة رغم كلّ الإحباط، والكرازة لأقسى الأرض، واثقين أنَّ الله هو ضامن ثمار هذه الخدمة، وأنَّه هو وحده سيأخذ كلَّ المجد من تلك الثِّمار. ليُعطِنا الرَّبُّ قلب الرَّسول بولس الذي قال في نهاية حياته لتلميذه تيموثاوس، «لِأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ، لِكَيْ يَحْصُلُوا هُمْ أَيْضًا عَلَى ٱلْخَلَاصِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، مَعَ مَجْدٍ أَبَدِيٍّ.» (٢تيموثاوس ٢: ١٠).
الحواشي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لشرح مبسَّط ووافٍ نشجِّع القارئ على الرُّجوع لكتاب أر. سي. سبرول، مختار من الله؛ أو مشاهدة سلسلة الحلقات المجانيَّة الخاصَّة بهذا الكتاب والمترجمة إلى العربيَّة من هذا الَّرابط:
https://ar.ligonier.org/videos/chosen-by-god/
[2] مغالطة رجل القشّ هي نوع من أنواع المُغالطات المنطقيَّة غير الرَّسميَّة، عن طريق إعطاء الانطباع بدحض حجَّة الخصم، في حين أنَّ ما تمَّ دحضه هو حجَّة لم يقدِّمها الخصم، ويقال إنَّ مستخدم المُغالطة «يهاجم رجل القشّ». بطريقة أخرى، هي تقديم الشَّخص (أ) صورة خاطئة عن معتقد الشَّخص (ب)، ودحض هذه الصُّورة الخاطئة بدلًا من دحض معتقد (ب) الفعلي.
[3] حذَّر كثيرٌ من المصلحين على مرِّ العصور من الكلفينيَّة-المفرطة hyper-Calvinism التي تنادى بسلطان الله في الاختيار والخلاص على حساب مسؤوليَّة الإنسان (والكنيسة) في أخذ رسالة الإنجيل إلى الخطاة والصَّلاة لأجلهم.
[4] اقرأ كتاب،
The Whole Christ for Sinclair Ferguson
[5] وضع كلفن عقيدة الاختيار في نهاية حديثة عن عمل المسيح الفدائي (الفصل ٢١-٢٤ من كتابه الثَّالث) يظهر أنَّه لم يكن مولَع بطريقة غير متَّزنة أو غير رعوية بعقيدة الاختيار.
[6] هذا خطأ تاريخي أيضًا، يكفي قراءة أوغسطينوس (٣٥٤-٤٣٠م)، جوتشاك (٨٠٤-٨٦٩)، وتوماس برواردين (١٣٤٩م). انظر، هذان المقالان،
https://www.desiringgod.org/articles/calvinists-before-calvin
https://www.ligonier.org/learn/articles/gottschalk/
[7] سأذكر هنا جهوده في الإرساليَّة في فرنسا، ولن أتطرَّق إلى جهوده في الإرساليَّة في البرازيل. كان كلفن قد أرسل كثيرًا من المرسلين إلى البرازيل والذين تمَّ اضطهادهم حتَّى الموت، في الوقت الذي كان كلفن فيه يرسل إليهم كثيرًا من الرَّسائل الرَّعوية لتشجيعهم أن يكونوا أمناء حتَّى الموت.
[8] مثل: Francois Lambert and Jean Chatellain.
[9] See, To the Ends of the Earth: Calvin›s Missional Vision and Legacy (May 31, 2014) by Michael A. G. Haykin, Jeff Robinson Sr. And, Encountering the History of Missions, John Mark Terry and Robert L. Gallagher.
[10] Berthoud, “Calvin and the Spread of the Gospel”, 2