الإصلاح الإنجيلي

الإصلاح وتجديد العبادة

الهدى 1260 – 1263                                                                                                    سبتمبر – ديسمبر 2024

العبادة واحدة من الموضوعات الكبيرة والرئيسية التي ينبغي أن «تؤرق» مضاجعنا في خدمتنا الكنسية في العصر الذي نعيشه.. والأسباب في هذا القلق الذي ينبغي أن تستثيره العبادة في حياتنا الكنسية/ الفردية كثيرة ومتعددة، أذكر منها على الأقل النقاط التالية:

  1. ارتباط العبادة بالمحتوى الذي يجب أن تعبر عنه في أبعاد علاقة المؤمن مع الله، وكيف يجب أن يكون هذا المحتوى معبراً بصدق، وليس بمجرد كلمات أو تعاليم محفوظة (معلبة)، عن ثراء هذه العلاقة وجوانبها المختلفة.
  2. ارتباط العبادة بجوانب الشخصية الإنسانية (العقل/ العاطفة/ الإرادة/ السلوك)، وكيف يمكن للعبادة أن نعبر عن جميع هذه الجوانب بصورة متوازنة تضع في حسبانها اختلاف طرق التعبير عن هذه الجوانب المختلفة.
  3. تعامل العبادة مع جميع الشخصيات الإنسانية بثقافاتها وخبراتها وميولها وخلفياتها واستحساناتها وتجاربها وأذواقها، وكيف يمكن للعبادة الواحدة في المكان الواحد أن تكون قادرة على إشباع جميع هؤلاء والتعبير عن خبراتهم الروحية (بمعنى أن تكون العبادة Inclusive وليست Exclusive)..
  4. ارتباط العبادة بالوسائل التي يتم التعبير عنها عن خبرة العلاقة الحية مع الله والأشواق التي يبثها المؤمن لخالقه وفاديه، مع كل ما يرتبط في هذا الأمر مع العوامل الثقافية والبيئية والتاريخية والحضارة التي تعيش فيها الكنيسة..
  5. علاقة العبادة بمجمل حياة الكنيسة المحلية ورؤيتها وخطها الفكري اللاهوتي والكتابي والروحي وبخدمتها الداخلية رعوياً والداخلية كرازيًا، وضرورة أن تعبر العبادة عن نبض الكنيسة الحي وأن تكون مرآة صادقة لحالتها.
  6. ارتباط العبادة من حيث هي تواصل بوسائل التواصل والخطابة الحديثة بحيث تمتلك العبادة أدوات العصر في الوصول إلى أكبر عدد من الناس حاملة رسالة المسيح.
  7. حقيقة أن العبادة إنما هي نشاط عام للكنيسة، يُدعى كل فرد للاشتراك الإيجابي المتفاعل فيها، وبالتالي فالتحدي هو كيف تكون العبادة مناسبة Suitable ومعبرة Relevant لكل الأجيال المتواجدة في الكنيسة المحلية..

– يقول دافيد بيترسون عن وضع العبادة في العصر الحالي:

«بالرغم من كل ما نطلق عليه «خبرات العبادة» المنتشرة جداً في زماننا هذا، فإن مرتادي الكنائس يعبرون بصورة منتظمة عن عدم رضاهم ويعترفون بأن الأمر لا زال غامضاً بالنسبة لهم فيما يختص بمعنى وهدف ما نسميه «عبادة»»[1]

– ويقول Robert Webber عن أهمية تجديد العبادة:

«إن تجديد العبادة يرتبط ويؤثر في كل جوانب الحياة الكنسية»[2]

في هذه الدراسة نتوقف أمام ثلاثة محاور هامة:

  1. المحور الأول تاريخي وفيه نستعرض كيف قام المصلحون الأوائل بمحاولات إصلاح العبادة..
  2. المحور الثاني يتضمن مقاربة كتابية/ لاهوتية لأسس إصلاح العبادة..
  3. المحور الثالث يحتوي على جوانب تطبيقية عملية..

(1) المحور الأول: لمحة تاريخية

– من المهم قبل أن نرى ما حدث في العبادة في عصر الإصلاح أن نأخذ فكرة سريعة عن وضع العبادة مع بداية القرن السادس عشر، وهو ما يصفه لنا وليم دي. ماكسويل إذ يقول:

«في بداية القرن السادس عشر كانت ممارسة فريضة العشاء الرباني عبارة عن مسرحية هزلية لا تهتم بجوهر التناول لكن بمعجزة الاستحالة التي ارتبطت بالكثير من المعتقدات الخرافية والخزعبلات… لم يكن مسموحاً للناس بالتناول أكثر من مرة واحدة في السنة… أما عن العظة فقد وقعت في هاوية عظيمة حيث كان معظم الكهنة جهلة لا يعرفون أي شيء عن فن الوعظ، وتم استبدال قراءة الكلمة المقدسة بسرد قصص عن حياة وأساطير القديسين… فكان الإصلاح أمراً لا مفر منه.» [3]

– الملاحظة التي ينبغي أن نتوقف أمامها هنا هي أن الإصلاح الإنجيلي، عندما تناول قضية العبادة، لم ينفصلوا تماماً عن الماضي، لكن كانت هنالك بعض الاتجاهات التي احتفظت بأمور من الكنيسة في العصور الوسطى ولم تتخل عنها تماماً، بينما قررت اتجاهات أخرى التخلص تماماً من كل ما يرتبط بالماضي لتبدأ في صياغة نماذج جديدة تماماً في العبادة.. (وبالتالي، فليس معنى الإصلاح دائماً قلب الأمور رأساً على عقب..)..

– والملاحظة الثانية التي أود أن ننتبه إليها هي أن الرغبة في الإصلاح نبعت من قناعة داخلية يقين قلبي من المصلحين بأهمية الإصلاح، بمعنى أن قراءة المصلحين لواقعهم المأساوي هو الذي حركهم ودفعهم في قناعة حقيقية وتصميم لا يلين نحو إصلاح العبادة في وقتهم.. وبالتالي، فإن الرغبة في الإصلاح التي تأتي من داخل كل شخص متواجد في هذا المكان هي الضمانة الأولى والرئيسية لإحداث حركة إصلاح في العبادة في كل كنيسة محلية في البداية، لتكون حركة إصلاح عامة في نهاية المطاف..

– والآن نحاول أن نرى ما هي المجالات الرئيسية التي قام المصلحون بتناولها فيما يختص بقضية العبادة، وهنا أستعين بالدراسة التي قدمها James F. White أستاذ تاريخ العبادة بكلية لاهوت Notre Dame بالولايات المتحدة، والذي يحصر التأثير الذي قام به المصلحون الأوائل في المجالات التالية: [4]

1- قراءة الكلمة

– الخروج بقراءة الكلمة من داخل الأديرة ومن نطاق الإكليروس إلى النطاق العام وجميع الكنائس في عبادتها اليومية والأسبوعية وكذلك في العبادة الشخصية الفردية..

– الاستغناء عن الكثير من القراءات والمردات في الليتورجيات المختلفة للكنائس ووضع نصوص كتابية بدلاً منها.. على سبيل المثال:

* مارتن بوتسر Martin Bucer الكاهن الدومينيكاني وضع كتاباً للعبادة اليومية لشعبه في ستراسبورج ركز فيه على القراءات الكتابية اليومية (العهد الجديد في القراءة الصباحية والعهد القديم في القراءة المسائية)..

* مارتن لوثر وضع كتاباً للعبادة German Mass ركز فيه على القراءات الكتابية بكثافة وبصورة نظامية (قراءة إصحاح في كل فرصة/ في أيام الآحاد كانت العظة الصباحية من الرسائل/ في القداس الرئيسي من الأناجيل/ العظة في العبادة المسائية من العهد القديم)..

* المصلح الإنجليزي توماس كرانمر وضع نظاماً قاسياً للقراءات الكتابية يتضمن قراءة كل سفر المزامير مرة شهرياً/ العهد القديم مرة سنوياً/ العهد الجديد ثلاث مرات في السنة..

2- العشاء الرباني

– كان التوجه العام لدى المصلحين الأوائل رفض ممارسة القداس بسبب ارتباطه بالفكرة التي سادت في العصور الوسطى عن كونه تكرار لذبيحة المسيح.. فكان لوثر يرى أنه فقد تركيزه الأساسي في كونه تعبير عن الشكر Eucharistic ليتحول إلى محاولة لاسترضاء الله، وهذا يخالف تعليم كلمة الله عن هذه الفريضة..

– رفض المصلحون تماماً الممارسة التي انتشرت في تلك الأيام بإمكان أن يُرفع القداس نيابة عن الأشخاص، فلم يكن من المهم أن يحضر الإنسان القداس أو يتناول من العناصر لأن الكاهن كان يمثلهم ويتناول نيابة عنهم..

– كما رفض المصلحون بالطبع عقيدة الاستحالة، أي تحول عناصر المائدة إلى جسد حقيقي ودم حقيقي (Opus Operatum)

– أعاد الإصلاح التناول من الخبز والخمر كليهما للشعب بعد أن كان التناول مقصوراً فقط على تناول الخبز دون الكأس..

– بالنسبة لمرات التقدم للفريضة، فقد اختلف رأي المصلحين بشأنها:

* لوثر كان يسعى لأن تزداد مرات تناول الشعب العادي من فريضة العشاء الرباني (وقد أثمرت محاولاته نجاحاً حيث أصبح المؤمنون في الكثير من أنحاء ألمانيا يتناولون من العشاء أسبوعياً..)

* بالنسبة لزوينجلي الذي كان إلى حد كبير متطرفاً في اعتبار الكتاب المقدس وحده فقط هو الذي يمثل بؤرة العبادة، فقد اكتفي بأن يمارس فريضة العشاء الرباني في زيورخ فقط أربع مرات في السنة في عيد الميلاد/ القيامة/ يوم الخمسين/ يوم العيد القومي في سبتمبر..

* بالنسبة لكالفن، فقد حاول أن يجعل التناول مرة أسبوعيا، لكن قادة الكنيسة في جنيف كانوا متنعتين وكان الكثير منهم مقتنعاً بتعاليم زوينجلي، فرفضوا تقديمها أسبوعياً وأصبح التناول شهرياً في أحسن الأحوال وربع سنوي في أسوأها..

3- الوعظ

– كانت مرحلة العصور الوسطى سنوات عجاف على الوعظ في الكنيسة، وبالتالي فقد كان عصر الإصلاح عصراً مزدهراً في هذا الجانب من جوانب العبادة في الكنيسة..

** مارتن لوثر

– أُطلق على لوثر  «أبو الوعظ المصلح»..

– جعل من الوعظ جزءاً أساسياً في العبادة: (ثلاث عظات يوم الأحد في ويتنبرج/ عظة يومية)..

– أمام الاحتياج لتعليم الوعظ للكهنة الذين لم يكونوا يعرفون شيئاً عن هذا الأمر، قرر أن يقدم سلسلة من العظات بحيث يقدمها الكهنة في كنائسهم..

– قدم لوثر عظات روحية مبنية على التفسير الحرفي وليس التفسير الرمزي..

** زوينجلي

– كان التجديد الذي أدخله زوينجلي على خدمة الوعظ هو ما يُسمى بــــ: «خدمة النبوة» وهي عبارة عن إعطاء الفرصة للشعب للتجاوب مع العظة التي يقدمها الواعظ..

** جون كالفن

– كان إسهام كالفن الأساسي هو استخدام الاتجاه الروحي/ التاريخي في تفسير النص الكتابي..

– إستخدم كالفن في خدمته الوعظية أسلوب الوعظ التفسيري (200 عظة في سفر التثنية/ 159 عظة في سفر أيوب- عظات كالفن التي وصلت إلينا في الكتب المختلفة يبلغ عددها تقريباً 1460 عظة، ويرى الكثيرون أن العدد الأصلي لعظاته يزيد عن ذلك بحوالي 1000 عظة أخرى)..

– تأكيد كالفن على أهمية تقوى الواعظ الشخصية كشرط أساسي لتأثير وعظه في حياة الناس، وهذا ما يعبر عنه في المقولة التالية:

«لكي تصير لاهوتياً ناجحاً، ينبغي أن تكون حياتك مقدسة… فكلمة الله ليس هدفها أن تجعلنا ننتفخ ونتعظم لكن هدفها هو إصلاح حياتنا وتكريسها لخدمة الله»

– أمر آخر تميز به وعظ كالفن هو الاهتمام الشديد بالجانب التطبيقي في عظاته.. فالكاتب الفرنسي Imbart De la Tour في كتابه «أصول الإصلاح» Les Origines de la Reforme يقول واحدة من العبارات الموحية في هذا الشأن:

«الإنجاز الأول لكالفن كان كتاباً هو المبادىء المسيحية، والثاني كان مدينة هي جنيف.. الأول كان لاهوتاً مكتوباً والثاني كان لاهوتاً مطبقاً»

4- الترنيم والموسيقى

– كما شهد الوعظ طفرة كبيرة، فعلى نفس المنوال شهد الترنيم والموسيقى إصلاحاً كبيراً في عصر الإصلاح، وربما كان من كردودات عصر النهضة Renaissance الذي شهد طفرة في التأليف الموسيقي والغناء الكلاسيكي وظهور أنواع جديدة من الموسيقى مثل الباروك..

** مارتن لوثر

– كان موسيقياً كبيراً ويعزف على آلة تشبه العود.. وكان واحداً من المصلحين الذين كتبوا ولحنوا ترانيم شهيرة ترتبط بالفكر الكتابي والأفكار الإصلاحية (37 ترنيمة من نظمه وتلحينه)..

– كان إسهامه الكبير هو إتاحة أجزاء أكبر من القداسات لكي يرنمها الشعب وليس فقط الإكليروس (كان الشعب يرنم قانون الإيمان)..

** زوينجلي

– كان زوينجلي واحداً من أعظم الموسيقيين والملحنين (كان يجيد العزف على أكثر من آلة)..

– وبالرغم من ذلك، فقد كانت قناعته اللاهوتية أقوى من موهبته الموسيقية، فقرر إلغاء الترنيم من الكنائس في عام 1523 وقام في العام 1527 بتحطيم الـــ Pipe Organs في الكنائس على أساس أن مركز العبادة ينبغي أن يكون فقط كلمة الله وليس غيرها..

** جون كالفن

– بالنسبة لجون كالفن، فقد أمسك العصا من المنتصف، فأجاز في الكنائس الترانيم التي هي عبارة عن نظم للمزامير..

– كما أبدع كالفن في الاعتماد على الملحنين والشعراء الذين حولوا المزامير إلى ترانيم حتى يمكن استخدامها في الكنائس..

(2) مقاربة كتابية/ لاهوتية لأسس إصلاح العبادة

– تجديد العبادة ليست دعوة فارغة جوفاء نطلقها مسايرة للعصر أو رغبة في مجرد التغيير، لكنها دعوة تتأصل كتابياً ولاهوتياً بأساسات واضحة ودعائم قوية.. وفيما يلي بعض النقاط الهامة التي تُبنى عليها الدعوة لتجديد العبادة في إطار احتفالنا بمرور خمسمائة عام على بداية الإصلاح الإنجيلي:

1- العبادة كجزء من الحياة المسيحية تحتاج للإصلاح

– الكتاب المقدس في الكثير من أجزائه يعتبر العبادة الحقيقية إنما هي ترجمة للحياة المسيحية الحقيقية/ الأصيلة، وبالتالي فالعبادة جزء لا يتجزأ من الحياة المسيحية.. وإذا كانت الحياة المسيحية فرداً وجماعة تحتاج للإصلاح، فبالتالي العبادة هي أيضاً تحتاج إلى نفس الإصلاح..

– الرب يسوع في لقاءه الشهير مع المرأة السامرية دخل في جزء منه في موضوع العبادة، وكان كل حديثه حول هذا الموضوع يعبر عن هوية وحقيقة العبادة الحقيقية وجوهر العابد الحقيقي، فيقول في يوحنا 4: 23، 24

«23وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. 24اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»

– وهنا من المهم ملاحظة أن الإصلاح الذي يتحدث عنه الرب يسوع إنما هو إصلاح يربط العبادة بالأخلاق: (يسجدون بالروح والحق)..

– وهذا في رأيي لب الإصلاح الذي تحتاجه عبادتنا اليوم على مستوى الفرد والجماعة (العبادة التي لا تقتصر على يوم الأحد بل تمتد إلى بقية أيام الأسبوع..)..

– في ليتورجية كالفن التي كان يقودها في مدينة ستراسبورج (1545)، هناك جزء كان يتم قراءته على المتقدمين لمائدة الرب، ورغم قسوته وربما تطرفه في بعض الأحيان، إلا أنه يعطينا لمحة عن الارتباط المتوقع بين العبادة والأخلاق.. يقول كالفن فيه:

«…باسم وسلطان الرب يسوع المسيح، أطالب الآن بخروج كل عابدي الأوثان والمجدفين ومحتقري الله وكل الهراطقة وجميع الذين يقومون بتكوين جماعات سرية بغرض تقويض وحدة الكنيسة، وكل شاهدي الزور، وجميع المتمردين على الآباء والأمهات وأصحاب السلطة، وجميع الذين يعززون توجهات الفتنة والتمرد والأشخاص العنفاء والزناة والرجال الشهوانيين، والسراق والخاطفين والطماعين والسكيرين والنهمين، وجميع الذي يعيشون حياة تتصف بالخلاعة والاستباحة..» [5]

– يقول ريتشارد فوستر إن الطاعة المقدسة تحمي العبادة من أن تكون مخدراً، مهرباً من ضغوط الحياة المعاصرة.. [6]

– بمعنى أن ارتباط العبادة بالأخلاق تحمي العبادة من أن تكون مجرد ممارسة جوفاء روتينية لكنها تمنحها التأثير الحقيقي على كيان الإنسان كله، وبالتالي تصير العبادة ليس فقط موضوعاً للإصلاح لكن أداة للإصلاح..

2- العبادة جزء من دور الكنيسة المُرسلي

– عندما أقول إن العبادة جزء من دور الكنيسة المُرسلي، فإنني أعني أنها تمثل أداة من الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الكنيسة بصورة فعالة للكرازة بالمسيح والشهادة عنه..

– ونحن نجد الكثير من المزامير، وهي نصوص تعبدية بالدرجة الأولى، تحمل هذه الدعوة للخروج بالرسالة إلى كل الأمم والشعوب..

** مزمور 117

«1سَبِّحُوا الرَّبَّ يَا كُلَّ الأُمَمِ. حَمِّدُوهُ يَا كُلَّ الشُّعُوبِ. 2لأَنَّ رَحْمَتَهُ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيْنَا وَأَمَانَةُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. هَلِّلُويَا.»

** مزمور 96 ويعتبره كريس رايت واحداً من أغنى الترانيم الإرسالية في الكتاب المقدس كله: [7]

« 1رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. رَنِّمِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ. 2رَنِّمُوا لِلرَّبِّ بَارِكُوا اسْمَهُ بَشِّرُوا مِنْ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ بِخَلاَصِهِ. 3حَدِّثُوا بَيْنَ الأُمَمِ بِمَجْدِهِ بَيْنَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِعَجَائِبِهِ. 4لأَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ وَحَمِيدٌ جِدّاً مَهُوبٌ هُوَ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ. 5لأَنَّ كُلَّ آلِهَةِ الشُّعُوبِ أَصْنَامٌ أَمَّا الرَّبُّ فَقَدْ صَنَعَ السَّمَاوَاتِ. 6مَجْدٌ وَجَلاَلٌ قُدَّامَهُ. الْعِزُّ وَالْجَمَالُ فِي مَقْدِسِهِ. 7قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا قَبَائِلَ الشُّعُوبِ قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَقُوَّةً. 8قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ اسْمِهِ. هَاتُوا تَقْدِمَةً وَادْخُلُوا دِيَارَهُ. 9اسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ. ارْتَعِدِي قُدَّامَهُ يَا كُلَّ الأَرْضِ. 10قُولُوا بَيْنَ الأُمَمِ: [الرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. أَيْضاً تَثَبَّتَتِ الْمَسْكُونَةُ فَلاَ تَتَزَعْزَعُ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ]. 11لِتَفْرَحِ السَّمَاوَاتُ وَلْتَبْتَهِجِ الأَرْضُ لِيَعِجَّ الْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ. 12لِيَجْذَلِ الْحَقْلُ وَكُلُّ مَا فِيهِ. لِتَتَرَنَّمْ حِينَئِذٍ كُلُّ أَشْجَارِ الْوَعْرِ 13أَمَامَ الرَّبِّ لأَنَّهُ جَاءَ. جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ وَالشُّعُوبَ بِأَمَانَتِهِ»

– وإعلان الله للأمم من خلال العبادة هنا، بحسب رأي رايت [8]، تتم من خلال: (1) مجيء الأمم لأورشليم..    (2) ذهاب اليهود للسبي..

– جزء من العبادة المرسلية يتضمن «الصوت النبوي للكنيسة» كصوت للحق والعدل والقداسة والانضباط في المجتمع.. (فكرة التفكير المسئول التي تكلم عنها الدكتور القس فايز فارس في كتابه «الاقتراب إلى الله» ص 91- 93).

3- العبادة خير تعبير عن مبدأ «كهنوت جميع المؤمنين»

– نحن نعيش في عصر يميل لأن يشبه عصور ما قبل الإصلاح في قصر العبادة على فئة معينة أو مجموعة ما تستمتع هي بالعبادة وتقوم بها دون الفئات والمجموعات الأخرى..

– وربما يغذي هذه الفكرة وهذا الاتجاه الفجوة الكبيرة الحادثة في مجتمعنا المصري بين الأجيال المختلفة والتي يكرس وجودها وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي وكذلك الظروف السياسية التي مرت بها مصر خلال العقود الأخيرة..

– وربما تبدو هذه الأزمة متمثلة بصورة واضحة في طرق وأساليب وقراراتنا التي نتخذها كرعاة بشأن العبادة في كنائسنا، بل وحتى في اللغة التي نستخدمها في عبادتنا للرب..

– لكن في الواقع، وبحسب الفكر الكتابي، تُعد العبادة واحدة من الأنشطة الرئيسية في الكنيسة التي تعبر عن مبدأ «كهنوت جميع المؤمنين» الذي نادى به الإصلاح الإنجيلي..

– في مزمور 148 والذي يمكن أن نطلق عليه «مزمور العبادة الكونية» نجد الدعوة موجودة بقوة لكل قوى ومظاهر الطبيعة لأن تشترك معاً في عبادة الرب.. وفي الجزء الأخير من المزمور نقرأ الكلمات التالية:

«11مُلُوكُ الأَرْضِ وَكُلُّ الشُّعُوبِ الرُّؤَسَاءُ وَكُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ 12الأَحْدَاثُ وَالْعَذَارَى أَيْضاً الشُّيُوخُ مَعَ الْفِتْيَانِ 13لِيُسَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ لأَنَّهُ قَدْ تَعَالَى اسْمُهُ وَحْدَهُ. مَجْدُهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.»

– وبالتالي فلا مجال لأن تكون عبادة الكنيسة المحلية ذات لون واحد وحيد لا تحيد عنه ولا تغيره، وإلا فإن هذه الكنيسة مهددة بأن تفقد جيلاً  أو أكثر من الأجيال المختلفة..

4- العبادة كلغة خطاب وتواصل

– وهذه واحدة من نقاط الاختلاف والصراع في كنائسنا اليوم.. فنحن لا يمكننا أن ننكر أننا نعيش في عصر يسوده الميل الشديد إلى تذوق الفنون بكل أنواعها وكذلك سيادة وسائل التواصل الاجتماعي في العلاقة بين أفراده..

– والكنيسة التي تغض النظر عن هذين الأمرين إنما تحكم على نفسها بالعزلة، وبأن تظل رسالتها، مهما كانت جودة هذه الرسالة، محدودة ومحكومة بجغرافية الكنيسة المحلية الضيقة..

– وكمثال وحيد على ذلك لضيق الوقت أقول إن على الكنيسة مرة أخرى أن تعيد اكتشاف دور الفن في العبادة المسيحية وكذلك دور وسائل التواصل الاجتماعي في تفعيل رسالة العبادة المسيحية..

– ضرورة مقاومة الروح الغنوسية التي اختلطت بالفكر الإنجيلي..

– الكتاب المقدس يؤكد على دور الفنون في الحياة المسيحية من خلال لاهوت متماسك ينتشر بطول الكتاب المقدس وعرضه.. وهاك بعض الملامح من هذا التأصيل اللاهوتي:

* لاهوت الخلق يشدد على خلق الإنسان على صورة الله في الإبداع في كل المجالات..

* الكتاب المقدس يمتلىء بالإشارات إلى دور الفنون في العبادة بدءاً من تصميم خيمة الاجتماع/ الهيكل/ الرموز في العبادة مثل تقديم الذبيحة/ الفنون الأدبية المختلفة وخاصة الشعر والأمثال والأدب الرؤيوي المليء بالصور الموحية..

– يقول فرانسيس شيفر في كتابه الهام «الكتاب المقدس والفن» [9]:

«إن للجمال مكان في عبادة الله»

– ومن الجهة الأخرى نقول إن العبادة في عصرنا لن تكون مفهومة إلا إذا وضعت في زقاق مفهومة (لغة مفهومة/ موسيقى قريبة/ تطبيقات معاصرة).. – هل اللغة الفصحى هي أفضل وعاء للعبادة في القرن الحادي والعشرين (تعليق فريدي مورجان على أول خدمة لي في مصر الجديدة)..

– العبادة متعددة الحواس Multi- Sensory Worship..

– يقول Leonard Sweet:

«إن وعاظ ما بعد الحداثة لا يكتبون عظات، لكنهم يخلقون خبرات.. وهذه الخبرات تشمل كل الحواس»[10]

– العبادة ينبغي أن تستشعر نبض العصر لكي تتوافق مع دقات هذا النبض..

(3) جوانب تطبيقية عملية

– أختم هذه الورقة بتقديم بعض التطبيقات العملية التي نحتاج أن نختبر تنفيذها في الكنيسة المحلية مع التأكيد الكامل على احترام الثقافة المجتمعية السائدة، ولكن عدم الخضوع الأعمى لها..

1- الحفاظ الدائم على الطبيعة الكرازية للعبادة

* توقع دائماً وجود غير مؤمنين في وسط الجمهور الموجود في الكنائس (هذا ما حدث في أعمال 2/ 1كورنثوس 14)

«23فَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ فَدَخَلَ عَامِّيُّونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ؟ 24وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ فَدَخَلَ أَحَدٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَوْ عَامِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوَبَّخُ مِنَ الْجَمِيعِ. يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَمِيعِ. 25وَهَكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهَكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ لِلَّهِ مُنَادِياً أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ.»

1كو 14: 23- 25

– وهذا يستتبعه أمور كثيرة:

** يجب أن تكون العبادة مفهومة لغير المؤمنين

* لغة سهلة مفهومة/ لغة لا تحمل تعبيرات متخصصة أو كنسية زائدة عن الحد..

* ترحيب دائم بالجدد في وسط الكنيسة..

* شرح لكل ما غير مفهوم في العبادة (المعمودية/ العشاء الرباني/ قانون الإيمان..)

* إستخدام أمور ملموسة لتقريب الأفكار (الفنون المختلفة/ Illustrations في العظة)..

* أن تحمل العظة دائماً دعوة كرازية للإيمان بالمسيح (حتى لو كانت عظة تعليمية)..

* الاهتمام بالفرائض كفرصة للدعوة الكرازية (هل يمكن التفكير في زيادة عدد مرات تقديم العشاء الرباني في كنائسنا المحلية؟؟)

## يشير تيموثي كلر في كتابه Center Church إلى أن غالبية الكنائس تفكر أن تجتذب البعيدين ثم تقدم لهم عبادة كرازية، لكن التجربي أثبتت أن الأمر يسير بالعكس، فنحن ينبغي أن نعتاد على العبادة الكرازية وشيئاً فشيئاً سوف يحب البعيدون التواجد في عبادة الكنيسة. [11]

2- الاهتمام بتوازن العبادة

– هنالك أكثر من بعد لتوازن العبادة:

** توازن المشاركة

– ينبغي أن يكون هنالك توازناً في قدر المشاركة بين قائد العبادة والجمهور (بمعنى أن يكون هنالك ديالوجاً وليس مونولوجاً في العبادة).. كلما استطعت إشراك الجمهور في العبادة يكون الأمر أفضل..

– وجود ليتورجية مكتوبة تساعد على هذا الأمر..

– خلق فرص جديدة لمشاركة الشعب: على سبيل المثال أن يتحرك الشعب من أماكن جلوسه والتقدم إلى الأمام للتناول. وهكذا تصير عبارة: التقدم إلى مائدة الرب لها تطبيق عملي فعلي.

** توازن الوقت

* من أسوأ الأمور «العبادة الطويلة»..

* نعيش في عصر سريع الإيقاع، فلا ينبغي أن تعيش الكنيسة في عصر مغاير أو بنبض مغاير..

– تساعد الليتورجية والإعداد الجيد لها على ضبط التوقيت لأنها لا تترك الأمر لتقدير القائد وشخصيته (خاصة إن كان يسهب في الحديث)..

** توازن العناصر

* أسمي هذه الفكرة «لا مركزية العبادة»/ أو بمعنى آخر أن يكون كل عناصر العبادة مركزية بحيث تأخذ الاهتمام الكافي، واعتبارها أداة أساسية لتوصير الرسالة التي أريد توصيلها (العظة/ التسبيح/ الصلاة/ المائدة…)

– هذا الأمر ربما يساعد على تجنب (مركزية الأشخاص/ ضعف الأشخاص)..

* ربما يوجد تطبيقات أخرى لهذا المبدأ مثل: توازن في اختيار الترانيم بين الكلاسيكية والحديثة، الفصحى والعامية/ في القراءات بين العهدين القديم والجديد/ الوقت الذي يُعطى لكل عنصر من عناصر العبادة..

الحواشي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] David Peterson, Engaging with God: a Biblical Theology of Worship, Illinois, IVP Academic, 1992, p. 15.

[2] Robert Webber, Worship Old and New, Zondervan, 1994, p 127.

[3] William D. Maxwell, An Outline of Christian Worship: Its Developments and Forms, London, Oxford University Press, 1963, p 72.

[4]  James F.  White, A Brief History of Christian Worship, Nashville, Abingdon Press, 1993, p 116- 140.

[5] – Robert E. Webber, Ancient- Future Worship: Proclaiming and Enacting God’s Narrative, Michigan, Baker Books, 2008, p 77.

[6]     ريتشارد فوستر، فرح الانضباط: سبيل النمو الروحي، ترجمة سعيد فارس باز، أوفير للطباعة والنشر، 2014، ص 227.

[7]     كريستوفر رايت، إرسالية شعب الله: لاهوت كتابي لإرسالية الكنيسة، دار الثقافة، 2014، ص 248.

[8]     -المرجع السابق، ص 248.

[9]  Francis A. Schaffer, Art and the Bible, Illinois, Intervarsity Press, 1973, p 16.

[10] Sweet, Leonard. “A New Reformation: Re-creating Worship for a Postmodern World.” Chap. 7 in Worship at the Next Level, edited by Tim A. Dearborn AND Scott Coil. Grand Rapids, Michigan: Baker Books, 2004.

[11] Timothy Keller, Center Church, Zondervan, 2012, p 303, 304.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى