حدث في يوم 31 أكتوبر 1517
الهدى 1260 – 1263 سبتمبر – ديسمبر 2024
حيث قام الرَّاهب «مارتن لوثر» بوضع قائمة باحتجاجاته على المُمارسات الكنَسيَّة التي تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدَّس، والتي بلغ عددها 95 احتجاجًا، وقد سمَّرها لوثر على باب الكنيسة الكاثوليكيَّة في مدينة فيتنبرج الألمانيَّة عام 1517م.
ومن وقتها وهناك عديد من الأفكار المغلوطة عن الكنيسة الانجيليَّة، نشأتها وعقيدتها ونظامها. لذا بهذه المناسبة، ولتوضيح هذه الأفكار، أودُّ أن أسجِّل بعض الملاحظات عن الاصلاح الإنجيلي:
1- الكنيسة الانجيليَّة ليست كنيسة مارتن لوثر، ولم تظهر بظهوره في القرن السَّادس عشر، إنَّما هي كنيسة الكتاب المقدَّس، كنيسة القرن الأول. والسُّؤال هنا: هل عمر الكنيسة الإنجيليَّة فقط خمسمائة عام؟!
2- يجيب اللَّاهوتي جون ستوت: «الإيمان الإنجيلي ليس بدعة معاصرة، بل على العكس لدينا الجرأة لنقول: إن الكنيسة الإنجيليَّة هى كنيسة رسوليَّة مبنيَّة على تعاليم الرُّسل في العهد الجديد.»
3- لتأكيد ذلك دعونا نتذكر سريعًا أهمّ مبادئ الإصلاح الخمسة التي ارتكز عليها مارتن لوثر:
* الكتاب المقدَّس وحده
الكتاب المقدَّس، باعتباره القانون الوحيد المعصوم للإيمان والأعمال، هو المرجع والدُّستور الرَّئيسي الكافي للخلاص، فكلّ شيء مرتبط بخلاصنا موجود في الكتاب المقدَّس وحده.
* الخلاص بالإيمان وحده
نحن لا نتبرَّر أمام الله بالإعمال التي نقوم بها، بل نتبرَّر بالإيمان وحده، الإيمان العامل بالمحبَّة. هذا الإيمان يعرِّفه لوثر:» الإيمان وحده هو الذي يخلِّص، لكن الايمان الذي يخلِّص لا يمكن أن يكون وحده». الأعمال الصَّالحة هي ثمر الايمان، تتبعه ولا تسبقه، برهانًا على الخلاص وليست سببًا له. هذا المفهوم عن الخلاص توصَّل إليه لوثر بعد قراءته الكتاب المقدَّس» أمَّا البارّ فبالإيمان يحيا» (رومية 1: 17) وأيضًا بعد محاولاته الكثيرة الفاشلة لإرضاء الله عن طريق الممارسات التي نادت بها الكنيسة آنذاك.
* الخلاص بالنِّعمة وحدها:
الفضل في الخلاص يعود فقط إلى نعمة الله المجانيَّة. لا يوجد ما كانوا يسمُّونه آنذاك (زوائد فضائل القدِّيسيين) كما كانوا يدَّعون أنَّ القدِّيسين عملوا أعمالًا صالحة تكفيهم للسَّماء، وهناك زيادة تفيض منها يمكن أن تُباع عن طريق الصُّكوك للخطاة يمكنها تخليصهم من المطهر. عقيدة الخلاص بالنِّعمة وحدها تحرِّر الانسان من الاعتماد على ذاته وتلغي البرّ الذَّاتي إذا كان للإنسان أمكانيَّة أن يُخلِّص نفسه، وبالتَّالي الاعتماد بالكامل على نعمة الله وحدها. وأيضا تعطى المؤمن السَّلام واليقين الذي يحتاج إليه، فخلاصه لا يُنزَع منه إذا ضعف. عقيدة الخلاص بالنِّعمة وحدها تعود إلى تمجيد عمل المسيح المخلِّص، وتعطي كفاية لعمل الصَّليب، وإلَّا يكون موت المسيح بلا سبب!
* الخلاص بالمسيح وحده
فهو المخلِّص الوحيد والشَّفيع الوحيد والوسيط الوحيد بين الله والنَّاس.
* المجد لله وحده:
ولا تمجيد للبشر.
4- والسُّؤال الآن: هل هذه التَّعاليم، التي قالها لوثر، وعلَّقها على باب الكنيسة وقتئذ، عقيدة جديدة اخترعها مارتن لوثر؟! أليست هذه المبادئ هي تعاليم الكتاب المقدَّس نفسها؟! أليست هي تعاليم القديس أغسطينوس نفسها في القرن الرَّابع، ومن قبله تعليم بولس الرسول، ومن قبلهم حبقُّوق النَّبي.
5- إذن، لم يخترع مارتن لوثر عقيدة جديدة، والكنيسة الإنجيليَّة تعاليمها ليست غريبة، كما يُشاع، لكنَّ لوثر أعاد اكتشاف ما كان منسيًّا ومتروكًا! لقد أزال الأتربة من على الكتاب المقدَّس، تلك التي نتجَت عن فساد الكهنة آنذاك. وبالتَّالي يمكننا القول إن الله استخدم لوثر ليعود بالكنيسة إلى مسارها الصَّحيح. وهذا ما يؤكِّده لوثر نفسه، قائلًا: «نحن لا نعلِّم تعاليم جديدة، بل نُعيد الأمور القديمة التى علَّم بها الرُّسل وكلّ المعلِّمين الأتقياء من قبلنا!»
6- ممَّا سبق يمكننا القول: الكنيسة الإنجيليَّة ليست جماعة دخيلة على الإيمان المسيحي، أو جماعة تقوم على شخص واحد، أو تعترض على كلّ شي. لكنَّها كنيسة القدِّيسين، كنيسة الآباء والرُّسل، تعترض وتثور على كلّ ما هو خطأ، على كلّ ما يعطِّل رسالتها، وما يبعدها عن كلمة الله!!
7- ما معنى كلمة «بروتستانت»؟ هل هي كلمة تدعو إلى الخجل؟!
للأسف كثيرًا ما يُساء إلى هذه الكلمة، لأنَّها ترتبط بالاعتراض. لكن الحقيقة أنَّ كلمة بروتستانت ليست سلبيَّة أو إهانة لنا، لكنَّها في الأصل تسمية ايجابيَّة. أصل الكلمة اللَّاتيني، مكوَّن من مقطعَين: الأول pro ويعني لأجل أو يؤيِّد، المقطع الثَّاني مشتقّ من الفعل اللاتيني testatio ويعني يشهد أو يقدِّم شهادة. أي أنَّ معنى الكلمة عند استخدامها للمرَّة الأولى» الشَّهادة لأمرٍ ما». وهذه الشَّهادة بالطَّبع تستلزم الوقوف والاحتجاج ومحاربة أوضاع خاطئة.
– تاريخيًّا كان أوَّل استخدام لهذه الكلمة في اجتماع في مدينة «سبيرز» في فبراير 1529م. حيث تقرَّر السَّماح للعبادة الكاثوليكيَّة الرُّومانية في البلاد التي أقرَّت الإصلاح اللُّوثري. كان هذا القرار في واقع الأمر نهاية لحركة الإصلاح. ولأنَّ اللُّوثريُّون كانوا أقليَّة في الاجتماع الذي صدر فيه هذا القرار، فلم يستطيعوا المعارضه وإيقاف تنفيذه. لذلك قدَّم خمسة من الأمراء البارزين المتعاطفين مع حركة الإصلاح في تضامن مع 14 مدينة للبرلمان المجتمع في «سبيرز» وثيقة رسميَّة أطلقوا عليها باللَّاتينيَّة «protestation» وكانت هذه المرَّة الأولى لهذا المعتقد.
– كان نصّ الوثيقة التي قدَّمها الإنجيليُّون في 25 أبريل 1529:
«نحن نؤكِّد أنَّه لا يوجد وعظ ولا توجد عقيدة يوثَق بها سوى تلك التي تلتزم بكلمة الله. فبحسب وصية الله يجب ألَّا يعظ أحد بعقيدة غير ذلك. فكلّ نصٍّ من نصوص الكتاب المقدَّس يجب إيضاحه وشرحه عن طريق نصوص أخرى. الكتاب المقدَّس لازم للمسيحي في كلِّ الأمور وبنوره يضيء الظُّلمات. ونحن مصمِّمون بنعمة الله وعونه أن نرتبط بكلمة الله وحدها، الإنجيل المقدَّس المتضمَّن في العهدَين القديم والجديد، فهذا وحده هو الحقّ، وهو القاعدة الأكيدة للعقيدة المسيحيَّة والسُّلوك. ولا يمكن أن تتخلَّى عنَّا أو تخدعنا. وكلّ مَن يُبنى على هذا الأساس ويتمسَّك به سيثبت أمام أبواب الجحيم، بينما تسقط كلّ الإضافات البشريَّة».
8- هل الاحتجاج تُهمة؟ هل الاعتراض خطيَّة تستوجب الإدانة؟
ألم يحتجَّ السَّيِّد المسيح على أفعال رجال الدِّين في عصره؟ ألم يكُن يوحنا المعمدان بروتستانتيًّا عندما اعترض واحتجَّ على أخلاقيَّات هيردودس الملك؟ على هذا المنوال سار مارتن لوثر. المواقف الإيجابيَّة تستدعي بطبيعة الحال الاعتراض على مواقف سلبيَّة. فالدِّفاع عن الحرِّيَّة يستدعي رفض الاستبداد، والدِّفاع عن نعمة الله المجانيَّة يستدعي محاربة أيَّة طقوس توهمنا بإرضاء الله.
9- لا يمكن أن يكون اعتراض لوثر، شيئًا يُلام عليه، ولا يمكن أن نقول له (إنت تحِب تخالِف وخلاص). فالاعتراض على الخطأ ليس خطأ، إنَّما الخطأ الحقيقي هو قبول الخطأ وعدم الرَّغبة في إصلاحه!!
10- ما هو مفهوم الانقسام؟ هل أراد لوثر وكلّ المُصلحين الانقسام والخروج عن الكنيسة؟
هل ما فعله لوثر من اعتراض واحتجاج، على ما علَّمت به الكنيسة آنذاك، شيئًا يُحسَب له أم عليه؟! هل ما قام به لوثر، إصلاح أم انقسام؟!
11- لا يمكن ان نُسمي لوثر مُنقسمًا او مُنشقًا عن الجماعة، فالانقسام الحقيقي ليس خروجًا عن الأغلبيَّة، إنَّما خروج عن كلمة الله. لقد خرج لوثر عن الأغلبيَّة واختار الأمانة لكلمة الله وحدها، وهذا ليس انقسامًا، إنَّما التزام بوصايا الله!!
12- اختار لوثر الطَّريق المنفرد، طريق الأقلِّيَّة، وهذا الطَّريق لا يسير فيه إلَّا أعظم الشُّجعان في الأرض، الذين يعيشون ويموتون لأجل قضيَّة. من أبطال هذا الطَّريق إبراهيم الذي ترك كلَّ عشيرته وخرج بمفرده؛ إيليَّا الذي وقف في جانبٍ والأمَّة كلُّها في جانب آخر؛ والرَّسول بولس الذي قال: الجميع تركوني؛ والقديس أثناسيوس الذي قال أنا ضدَّ العالم.
13- دعا البابا ليو العاشر لوثر إلى روما للمحاكمة، حيث أنذره قبله ذلك بالحرمان إن لم يرجِع عن هذه الهرطقات في خلال ستِّين يومًا، وإلَّا فإنَّهم يعتبرونه مَحرومًا من السَّماء، كما دعا جميع المخلصين للكنيسة أن يحرقوا كلّ كتب لوثر. أمام المجلس الإمبراطوري واجهوه بالكتب التي أصدرها، وطلبوا منه أن ينفي ما جاء فيها. وفي اليوم التَّالي وقف لوثر أمام الإمبراطور شارل الخامس وما يتعدى المئتيّ قاضٍ، وقال:
«إنِّي لست إلهًا بل إنسانًا، وإنِّي على استعداد أن أعترف بأخطائي في التَّعليم إذا كان مَن يقنعني بهذا الخطأ من كلمة الله، فلتنتصر الكلمة وتسقط كلّ الكلمات البشريَّة. لا أومن بعصمة تعاليم البشر، كثيرًا ما ناقض بعضها بعضًا. لن أستطع أن أغيِّر ما قلت، لأنِّي مقيَّد بكلمات الكتاب المقدَّس. نعم إن كلمة الله قد استأثرت ضميري، لذلك لا أستطيع ولا أريد أن أعدِّل شيئًا من أقوالي، لأنَّه ليس من الصَّواب أن يقف الإنسان ضدَّ ضميره. ها هنا أقف الآن وضميري أسير الكتاب المقدَّس. ولن أقف ضدَّ ضميري ولا أستطيع أن أفعل غير ذلك، والله معي».
14- هذا هو مارتن لوثر، الذي أوجدَته العناية الإلهيَّة ليكون شرارة إصلاح في الكنيسة. من أروع ما قيل عنه في مناسبة مرور خمسمئة عام على ميلاده، ما أشاد به البابا يوحنا بولس الثَّاني، بابا الفاتيكان، من تقديره لحماسة لوثر وغيرته على الإنجيل. وما قاله الأب دانيال أوليفييه الكاثوليكي:» ليس لوثر وتعاليمه ملكًا للكنيسة البروتستانتيَّة فقط، بل هما ملك للكنيسة الجامعة» ثمَّ ناشد العالم الكاثوليكي أن يدرس تعاليم لوثر.
15- أخيرًا، نحن كإنجيليين لا نمجِّد ولا نؤلِّه مارتن لوثر، ولا نتحدَّث عنه كشخص معصوم من الخطأ. (لوثر-كما قال عن نفسه- أنا انسان، غير معصوم من الخطأ)، فهو كباقي البشر يخطئ. ألم يخطئ داود وإيليا وبطرس، ومع ذلك ما زلنا نتحدث عنهم ونتَّعظ بهم! الله يستخدم دائمًا أشخاصًا، بالرَّغم من ضعفاتهم، ليصلحوا ويغيِّروا ويصنعوا واقعًا جديدًا.
الإصلاح الإنجيلي والكنيسة اليوم ( بين الماضي والحاضر)
- كان التَّحدي أمام الإنجيليِّين (المصلحين الأوائل): مع من يقفوا، مع كلمة الله أم مع الأغلبيَّة؟
لقد خرجوا عن الجماعة ليقفوا مع كلمة الله. والسُّؤال لنا نحن اليوم، وهو الذي نجح فيه لوثر: لمن ننتمي ومع من نقف، مع كلمة الله أم مع عاداتنا وتقاليدنا؟ الأمانة للكلمة أم السَّعي وراء الجماهيريَّة؟! - الانفصال عن الأغلبيَّة ليس عثرة دائمًا، الرَّبّ يسوع نفسه كان عثرة لكثيرين.
العثرة هو الحجر الذى يعوق الطَّريق، والحجارة التى تعوق الطَّريق هى نفسها الحجارة التى توضع كعلامات تحذير لمنع النَّاس من الدُّخول فى شارع مظلم أو به حُفرة، ونحن ككنيسة اليوم يجب ألَّا نخاف من أن نكون عثرة انقاذ وتنوير فى حياة المجتمع! - الإصلاح منتَج تراكمي وتكاملي، فلم يكُن لوثر أوَّل المصلحين. كانت هناك حركات إصلاحيَّة وكثيرون مهَّدوا الطَّريق قبل لوثر، منهم جون هسّ؛ جون ويكليف في القرن الرَّابع عشر الذي قام بترجمة أجزاء من الكتاب المقدَّس إلى الإنجليزيَّة، والذي، لهذا السَّبب، بعد وفاته عام 1384 نبشوا عظامه عام 1428 وأحرقوها. فرغم وجود ملامح ثابته للإصلاح، إلَّا أنَّ هناك تعدُّد وتنوُّع داخل حركة الصلاح من جنسيَّات وأماكن وتوقيتات وظروف مختلفة. هذه هي الكنيسة في أروع صورها، نعمل معًا، ويتبع بعضنا بعضًا. قد لا نتَّفق في كلِّ الأفكار، لكن ذلك لا يعيق خدمتنا وبقاءنا معًا. أيَّة محاولة لمحاربة التَّنوُّع والتَّعدُّد داخل الكنيسة الواحدة هي محاولة لقتل الكنيسة.
- الإصلاح ليس فقط حدثًا تاريخيًّا نتحدَّث عنه ونُعجَب به، لكنَّه حركة مستمرَّة يجب ألَّا تتوقَّف في الكنيسة، رحلة وليست مرحلة وتنتهي! الإصلاح مرادف للقداسة، نتغيَّر كلَّ يوم، نراجع أنفسنا كلّ يوم. الإصلاح تعبير عن هويَّتنا، نحن دائمًا مصلِحين. كما لم يكن لوثر هو أوَّل المصلحين، هو أيضًا لم يكن آخَرهم، جاء بعده كلفن وزونجلي. فلا يمكن الارتكان على نجاح تمَّ في الماضي، ولا توجد نقطة نصِل عندها ونتوقَّف ونستريح ونقول لقد تمَّ العمل. الكنيسة جسد متحرِّك فعال وليست جثَّة ساكنة. الكنيسة التي تظنّ أنَّ النَّجاح الذي حقَّقته يستمرّ من تلقاء ذاته، تكون في طريقها إلى الفشل!
- يحتاج الإصلاح أن تعيش الكنيسة في حالة مستمرَّة من النَّقد الذَّاتي، والتَّفاعل المستمرّ مع الأسئلة والقضايا المعاصرة، لا إصلاح من دون نقد. النَّقد الذَّاتي يحمي الكنيسة من التَّجمُّد ومن ظنِّها أنَّها تمتلك الحقَّ المطلق، ولديها كلّ الإجابات. إنْ تطابقت الكنيسة مع الحقّ، فهي إذًا تشهد لذاتها ولا تشهد للمسيح، وهذه ليست ماهية الكنيسة!
النَّقد الذَّاتي هو فرصة للكنيسة لتفحص خدمتها وأساليبها للكشف عن التَّغييرات التي يجب أن تجريها. وهذا ما مارسته الكنيسة الأولى، عند مشكلة تذمُّر الأرامل اليونانيَّات (أع 6) لم يهرب الرُّسل وقتها من الأزمة، ولم ينكروها مُدَّعين أنَّ الأمور تسير كما ينبغي، ولم يغلقوا آذانهم عن شكوى الأرامل والنَّقد الموجَّه إليهم. لكنَّهم أعادوا التَّفكير في النِّظام الذي تسير عليه الخدمة، من دون أن يخشوا من تعديل ذلك النِّظام الإداري، أو من فقدان أماكنهم في الكنيسة. لذلك، أفسحوا المجال لأشخاص آخرين للظُّهور في الصُّورة، ولولا توجُّه الرُّسل هذا وعدم خوفهم من التَّغيير، لما اكتشفنا اسطفانوس ذلك الخادم العظيم والمؤثِّر. واليوم كم من اسطفانوس (ولوثر وهسّ و…) ضاع وفُقِد لأنَّ قادة الكنيسة تجاهلوا النَّقد وقاوموا التَّغيير خوفًا من فقدان المكان والمكانه؟!! - لم يكن لوثر، وكلّ المصلحين، من خارج الكنيسة بل من داخلها، ولم يكن ينتوي -كما ذكرت- الخروج والانقسام على الكنيسة، لكنَّه قدَّم نقدًا ذاتيًّا لكيان ينتمي إليه، نقدًا لم يعتَد القادة على سماعه، إذ كانت آذانهم تميل فقط لكلمات المديح والإطراء. ونحن اليوم، هل نعطي الأمان الكافي لمن ينتقدنا، أم إنَّنا فقط نريد الاستماع لكلمات الإطراء حتَّى وإن بقيت الأمور على حالها من دون إصلاح؟ ماذا نفعل مع من ينتقدون نظامًا أو وضعًا يرونه غير صحيح؟ ماذا نفعل مع شبابنا إذا فكَّروا بطريقة أو تعبَّدوا بشكل ربَّما لم نعتَد عليه؟ هل نعطي الفرصة ونفسِح المجال داخل الكنيسة لكلِّ من يفكِّر خارج الصُّندوق، من دون أن نكفِّره أو نَدينه كما فعلت الكنيسة قديمًا، حتَّى لا يقف التَّاريخ ويأتي بعدنا بسنوات ويقولون عنَّا.. الكنيسة حاكَمَت شخصًا، وربَّما قتلته معنويًّا، لأنَّه فكَّر بطريقة غير مُعتادة.
- كما كان للإصلاح ثمر، كان له أيضًا تكلفة. جون هَسّ تمَّ حرقه حيًّا، لوثر تمَّ حرمانه، وكلفن تمَّ نفيه. إذا أرادت الكنيسة أن تثمر بحقّ، فهي تحتاج للخروج بمغامرات إنقاذ، كمغامرة السَّامري لإنقاذ الجريح اليهودي غريب الجنس.
هذه المغامرات بالطَّبع مكلفة وتستدعي المخاطرة ودفع الثَّمن، لكن من دونها تفقد الكنيسة هويَّتها. كلمة كنيسة باليوناني (اكليسيا) تعني جماعة مدعوَّة للخروج، وليست مدعوَّة للبقاء حيث الخدمة الهادئة المريحة المعتادة داخل جدرانها. الكنيسة ملح يعني أنها تبذل ذاتها، هويَّتها في خروجها. فإذا أردنا أن يكون لوجودنا معنًى وتأثيرًا، وأنَّ ما نفعله اليوم يبقى لسنوات طويلة، كما فعل وترك المصلحون، وأن يكون احتفالنا اليوم بالإصلاح احتفالًا حقيقيًّا، لا بدَّ أن نعيش اختبار الدَّفن يوميًّا، ونسأل أنفسنا ما نوع المخاطرة التي يجب على الكنيسة تُقدِم عليها؟
«إن لم تقع حبَّة الحنطة في الأرض وتمُت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير». (يوحنا 12: 24).