مدير التحرير

الإصلاح الإنجيلي ومستقبل الكنيسة

قصة قصيرة

الهدى 1260 – 1263                                                                                                    سبتمبر – ديسمبر 2024

ونحن نحتفل بمرور ما يزيد عن خمسة قرون على حركة الإصلاح الإنجيلي، والتي وصلت ذروتها عام 1517م، حينما سمَّر المُصلِح العظيم  مارتن لوثر Martin Luther  أطروحاته الخمس والتسعين على باب كاتدرائيّة وتنبرج  Wittenbirg حيث أوضح فيها بعض النقاط التي ابتعدت فيها الكنيسة الرومانيّة عن إنجيليّة رسالتها، ومبادئ الكتاب المقدس، وقد كانت هذه الأطروحة البادئ الأعظم في إحداث تغيير عميق وجذري في تاريخ الكنيسة والعالم.

  وما أشبه اليوم بالبارحة، فلا يختلف حال الكنيسة اليوم كثيرًا عمَّا كان عليه الحال قبل خمسمائة عامٍ، فالكنيسة تواجه اليوم كثيرًا من التحديات التي تُشابه ما واجهته كنيسة القرن السادس عشر، يُضاف إليها التحديات المُعاصرة، وثورة عصر التكنولوجيا والعلوم الحديثة والتغييرات الجذرية الحادثة في جيلنا، سواء كانت تغييرات في النسيج الديني والكنسي، أو التغييرات السياسيّة والاقتصاديّة، ربما نتساءل هل من مستقبلٍ للكنيسة؟ وهل ستحتاج الكنيسة إلى إصلاحٍ جديدٍ ينحو بها خطوة جديدة وربما يُعدِّلُ مسارها من جديد نحو استعادة مبادئ الكتاب المقدس وتلك التي قامت عليها حركة الإصلاح الإنجيلي؟ كيف ستبدو الكنيسة بصفةٍ عامة، والإنجيليّة بصفةٍ خاصة بعد خمسين أو مائة عامٍ؟ ما نوع الإصلاح الذي تحتاجه الكنيسة اليوم لكي تتذكر هُويتها وتسعى لتحقيق رسالتها؟

ضرورة إصلاح الكنيسة

مما لا شك فيه أنَّ الكنيسة مجتمعٌ من الخطأة الذين جرى اختيارهم وفداؤهم وتبريرهم وأصبحوا مؤمنين بالمسيح وتلاميذ يحملون رسالة محبته للآخرين، لكنَّهم ما زالوا يعيشون في عالمٍ وُضِع في الشرير. لذلك ومن الرائع أنَّ الكتاب المقدس يُخبرنا أنَّ الكنيسة دائمًا تحتاج إلى إصلاحٍ خلال رحلة مسيرتها وخدمتها، وهذا ما حرص عليه المسيح أثناء تجسده، فقد صحح كثيرًا من مفاهيم ومعتقدات وأخطاء تلاميذه، وهكذا صَوَّب الرسول بولس أخطاء أهل كنيسة كورنثوس. وقد رأينا موقفه في محاربة التَّهود رائدًا من رواد الاصلاح الكنسي، مرورًا بعديد من المصلحين الأوائل أمثال كلوديوس الإسباني، بيتر فالدو، جون ويكليف، سافونارولا، وصولًا للمصلحين العظماء: مارتن لوثر وجون كالفن وزوينجلي وغيرهم ممن قادوا حركة الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر، لقد خَلُص هؤلاء المصلحين إلى أنَّ الإصلاح كان مُلِحًّا وضروريًا في أيامهم. وفي سعيهم لإصلاح الكنيسة، رفضوا نقيضين. فمن ناحية، رفضوا أولئك الذين أصروا على أنَّ الكنيسة سليمة ولا تحتاج إلى تغييرات جوهريّة، «أي أنَّ الكنيسة بخير، وهو ما يردّده بعضٌ في أيامنا». ومن ناحية أخرى، رفضوا أولئك الذين اعتقدوا أنَّهم يستطيعون إنشاء الكنيسة الكاملة في كل تفاصيلها. كانت الكنيسة وقتئذ بحاجة إلى إصلاح جوهري، لكنَّها ستظل دائمًا في حاجة إلى إصلاح نفسها[1].

لقد عَرِفَ المصلحون أهميّة وضرورة إصلاح الكنيسة، حتى أنَّ مُصلح ستراسبورغ، مارتن بوتسر Martin Bucer، طلب من المصلح العظيم جون كالفن  John Calvinأن يكتب شارحًا أهميّة هذا الأمر، وقد ارتقى كالفن لمستوى هذه المسؤوليّة فكتب في عام 1543م، أحد أهم أعماله وكتاباته “ضرورة إصلاح الكنيسة The Necessity of Reforming the Church[2]، الذي شرح فيه التدابير الضروريّة للإصلاح الحقيقي؟ كما أكَّدَ على الحاجة إلى الحاجة إلى استعادة العقيدة والممارسة الكتابيّة فيما يتعلق بوسائل العبادة الصحيحة، والإدارة الحصيفة للأسرار المقدسة والقيادة الرشيدة لقادة الكنيسة[3].

وبنظرة ثاقبة إلى حالِ كنيسة اليوم، نجد أنَّ الأصوات تتعالى مطالبة بإصلاحٍ إنجيلي يعود بنا وبكنيستنا إلى عهدها الأول ورسالتها الإنجيليّة التي تنعكس في حياة شاهدة ومؤثرة وفقًا لمبادئ الكتاب المقدس، وسيظلُ الإصلاح الإنجيلي تجديدًا للإيمان الكتابي، واستعادة الكتاب المقدس أساسًا لإيماننا.

إنَّ «ضرورة إصلاح الكنيسة»، هو أكثر من مجرد نصب تاريخي للإصلاح. إنَّه بيانٌ روحي يدعونا إلى التوبة في عصر الفساد الديني الخاص بنا، لنتغلب على التحديات المعاصرة ونتطلع لمستقبلٍ أفضل لكنيسة المسيح.

تحديات معاصرة تواجه كنيسة اليوم

لم يكن ما قام به الراهب الأوغسطيني مارتن لوثر الانطلاقة الأولى لحركة الإصلاح، بل سبقه كثير من روَّاد الإصلاح، كلُ واحدٍ منهم عبَّر عن حاجة مُلِّحة وتحدٍ صارخٍ في الكنيسة احتاج لرجلٍ يقف في الثغر مُستندًا على الكتاب المقدس، ومُصلِّحًا ما تطلبه الأمر وقتئذ، وقد تعددت الأخطاء التي احتاجت إلى إصلاحٍ في كنيسة تلك الفترة، منها: انحراف الباباوات عن الفكر الكتابي، واستئثارهم بالسلطة الدينية والمدنية. الفساد الأخلاقي للإكليروس (الكهنة ورجال الدين)، قيام الكنيسة الرومانيّة بتقيّيد العلم ومحاربة العلماء، لم تكن الكنيسة في ذلك الوقت على استعداد لإصلاح نفسها، من ناحية أخرى كانت هناك بعض العوامل التي ساعدت على انطلاق حركة الإصلاح الإنجيلي بأكثر قوة وتأثير من كافة المحاولات السابقة، نذكر منها: اختراع آلة الطباعة في ألمانيا عام 1456م، انتشار الفلسفة الإنسانيّة Humanism مما ساهم في إعداد العقول في أوروبا لتقبُّل الإصلاح. وهنا يُمكن رصد بعد الأخطاء والتحديات المُعاصرة التي تتطلب من الكنيسة أن تحذر منها، وتُسرِع في إصلاحِ نفسها وتطلب إرشاد روح الله القدوس لإعادة ضبط بُوصلَتها على مبادئ الكتاب المقدس، ومن هذه التحديّات:

  • الإنترنت وثورة الاتصالات والميديا: بدأ الإصلاح الإنجيلي براهبٍ واحد، عَرِفَ كيف يستخدم تكنولوجيا عصره «المطبعة» في التعبير عن آراءه، فغيَّر الكنيسة، وتاريخ أوربا والعالم الحديث، واليوم زاد على المطبعة «الإنترنت»، وكلاهما نقل السلطة من أيدي القيادات الحاكمة، رجال دين أو سياسة، إلى القاعدة العريضة من الشعب، وكما نجح لوثر باستخدام المطبعة في إطلاق ثورة الإصلاح الديني، يُمكن أن تبدأ الثورات اليوم من خلال تقارير وسائل التواصل الاجتماعي الفرديّة، وقد نرى كيف أصبح لشابٍ مغمور إمكانيات جبارة وتأثير عظيم، إذا كتب بوست واحد تلامس فيه مع احتياجات عددٍ من البشر في أية بقعةٍ من العالم، لقد ضاعفت الإنترنت من تأثير المطبعة، وأصبحت هي ومواقع التواصل الاجتماعي وسائل حديثة وفاعلة في تغيير المجتمع. سواء كان على المستوى الترفيهي أو السياسي أو الدينيّ، ولا يوجد مكان متصل بالإنترنت مهما كان بعيدًا بحيث لا يكون له تأثير عالمي. ولا يمكننا أن نعرف ما هو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الكنيسة بعد خمسين عامًا، أو ماذا سيحدث للطوائف المسيحية، هذا التأثير قد يُغيِّر مما هو مُتعارفٌ عليه في كنيسة العصر الحالي.
  • سلطة الكتاب المقدس: كان الكتاب المقدس ومازال هو قوة ودستور الحياة المسيحيّة، وكلما ابتعدت الكنيسة عن ذلك الكتاب أو أضعفت من تأثيره، أصبحت الحاجة مُلِّحة لتصحيحٍ وإصلاح، فكما منعت الكنيسة الكتاب المقدس عن عامة الشعب في العصور الوسطى ما دعا المُصلحين لتصحيح الأمر وإتاحة الكتاب للجميع، بات التعدد الثقافي والنظريات العلميّة التي تحاول النّيل من سلطان الكتاب المقدس وتأثيره على حياة المؤمنين والكنيسة تجد تجاوبًا من كثيرين، وبدا أنَّ قُرَّاء الكتاب المقدس، والمتأثرين بمبادئه يقل عددهم حتى داخل أروقة الكنيسة، ناهيك عن المشككين فيه وفي رواياته ودقة تعاليمه.
  • انعدام الثقة في القادة ورجال الدين: ينظر الشعب إلى رجال الدين والقادة بعين فاحصة كقدوة ونموذج ومثلٍ ليحذوا حذوهم، ومع أنَّ الخبرة الإنسانيّة تُخبرنا، أنَّ رعاة الكنائس والخدَّام والقادة، مثلهم مثل كل البشر، يتعرضون لتلك الإغراءات، ويصارعون الخطيئة؛ ويحتاجون لنعمة الله؛ ولكن عندما يسقط الراعي أو الخادم في تلك الخطايا المُسيئة للشّرف، والأسرة، والخدمة، فإنَّه يضع المؤسسة الكنسيّة بجملتها أمام تحدي الاضطلاع بمسؤولياتها أمام الله والمجتمع، والتاريخ، ولا تكتفي بتوجيه النصح واللوم والعلاج وكأنَّ شيئًا لم يكن، ومع تعدد وكثرة الإخفاقات التي ضربت حياة قادة الكنيسة سواء على المستوى المحلي أو الدولي، أصبح لزامًا على الكنيسة أن تنتبه، وتُصحح من ذاتها وفقًا لمبادئ الكتاب المقدس.
  • اللامركزية، والكنيسة الإلكترونيّة: شهدت الكنائس الإنجيليّة منذ نشأتها لاهوتًا مختلفًا عن الكنائس التقليديّة، وعَرِفت ما يُسمى «كهنوت جميع المؤمنين»، وأنَّ الكنيسة ليست مكانًا لكنّها جسد المسيح الذي إذا اجتمع اثنين أو ثلاثة باسمه يكون حاضرًا في وسطهم، ورغم كتابيّة هذا الأمر، إلَّا إنَّه مع الوقت أصبح كل مؤمنٍ، أو جماعة صغيرة ترى أنَّها تُكِّون فيما بينها كنيسة ذات سلطان، ومع تزايد حركة «المسكونيّة»، كل هذا بدأ يُضعِف من تأثير الكنيسة المحليّة، بل ويدعو في بعض الأحيان لهجرتها،  وقد واجهت الكنائس خلال وباء فيروس كورونا Covid19 الذي ضرب العالم عام 2019، إغلاق خدماتها واجتماعاتها العامة. وتحول عديد من الكنائس إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعي Facebook، وبرامج الشات Zoom، لاستضافة خدمات العبادة، وقد نشأ عن هذا الأمر كثير مما يُعرف بالكنائس والاجتماعات الإلكترونية  Online Church، كل هذا وضع تحديًا جديدًا أمام المؤسسة الكنسيّة.
  • تضاؤل أعداد الشباب: تشهد الكنائس حاليًا تضاؤل في أعداد حضور الشباب، حيث يرى غالبيّة الشباب أنَّ كنيسة اليوم لا تختلف كثيرًا عن العالم، كما أنَّها تستخدم طُرُقه على خلاف ما تُعلِّم به. وفي تحليله لاستطلاع رأي أجراه مركز «بيو للأبحاث» في الولايات المتحدة الأمريكيّة، يذكر الكاتب الأمريكي جاي وارنر والاس أسباب عزوف الشباب المسيحي عن الدين[4] بصفة عامة والكنيسة بصفة خاصة لأسبابٍ منها: أنَّهم يتساءلون عن جدوى كثير من التعاليم الدينيّة، لا يحبون المواقف التي تتخذها الكنائس في القضايا الاجتماعيّة أو السياسيّة، لا يحبون المنظمات الدينيّة، أو القادة الدينيين، كما أنَّ بعضهم بدأ يميل نحو الإلحاد ورفض الإيمان بالله.
  • الاعتماد المؤسسي على الدولة: في القرن السادس عشر، انضمت الكنيسة البروتستانتية الناشئة إلى الحكام وقادة الدولة، وقد ثبت أن هذا الاعتماد المؤسسي على الدولة أقل ملاءمة للألفية الثالثة. ونشهد اليوم نفاد صبرٍ متزايد مع تكيِّف الكنيسة المؤسسيّة مع السلطة الزمنيّة، ويشكك كثير من المؤمنين ومرتادي الكنائس في جدوى مثل هذه العلاقات، ويعدونها خروجًا عن الإيمان.
  • التقدُّم العلمي وتطور العلوم الإنسانيّة: في حين هيأت الفلسفة الإنسانيّة ومهدت الطريق والعقول للتفاعل الإيجابي والانفتاح على الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر، نرى أنَّ التقدم العلمي أوجد حلولًا لمشكلات كثيرة كانت سببًا في لجوء الناس إلى الدين والإيمان من خلال الكنيسة، مما أثَّر سلبًا على الاهتمام بأمور الدين والعبادة والإيمان.

وإذ تتعدد الأسباب التي تجعل الكنيسة لا بُدَّ أن تقف وقفة صارمة وحاسمة لترى ما يجب عليها عمله، لتُصلح من ذاتها، وتضبط مواقفها وممارساتها على بوصلة المبادئ الكتابيّة لتستعيد الكتاب المقدس أساسًا وحيدًا لإيمانها ودستورًا عمليًا لأسلوب حياتها.

كيف ومتى يبدأ الإصلاح؟

لا توجد كنيسة متوافقة تمامًا مع الكتاب المقدس، ولا توجد رسالة إنجيليّة للكنيسة غير مهددة تمامًا بالهرطقة أو الإهمال أو الانجراف الروحي. لكنَّ بالعودة إلى الكتاب المقدس والتاريخ الكنسي، يُمكننا أن نتعلَّم كيف تُصلَح الكنيسة.

يُظهر لنا الكتاب المقدس وتاريخ الكنيسة مرارًا وتكرارًا أنَّه عندما يجتمع شعب الله معًا، ويتوبون عن خطاياهم، ويصرخون إليه طلبًا للرحمة، ويتوقعون منه أن يستجيب، فإنَّ الله يستخدمهم لتحقيق الإصلاح المطلوب. وعندما يساعد قادتهم بعضهم البعض على تعزيز مثل هذا السلوك، لا يوجد حد للنطاق الذي سيبارك به الرب شعبه.

لذا لا يُفاجئنا البشير مرقس عندما يبدأ بشارته بإعلان يوحنا المعمدان الذي كان «يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (مرقس 1: 4)، كان يُوحنا يعود بوعيٍ إلى موسى وإيليا، القادة الذين مارسوا مسؤوليّة الدور المزدوج للقائد والخادم، الراعي والنبي، واجهوا ملوكًا وقادة سياسيين، طالبوا بالعدالة، أعادوا تعليم الناس كيف يعيشون كعائلة، وكيف يمارسون الضيافة، وكيف يعتمدون على الله في خبزهم اليومي. كان لدى يوحنا المعمدان رسالة بسيطة: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ»، وأن يصنعوا « أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ»، كما علَّم عن أهميّة الابتعاد عن حياة البر الذاتي، قائلًا: «لاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدا ًلِإِبْرَاهِيمَ» وعلَّم أيضًا عن مبادئ الحياة الاجتماعيّة العادلة قائلًا: «مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هَكَذَا» (لوقا 3: 8-11).

وعبر تاريخ الكتاب المقدس، كم من مرة نرى شعب الرب يجتمع إليه طلبًا للغفران والصفح، وإعلان الاستعداد الكامل للحياة وفق الأسس الكتابيّة للإيمان، والعيش بهدف الإثمار الروحي، وكان الله رحيمًا صفوحًا، وهذا هو سرّ النهضات الروحيّة في تاريخ شعب الله كما سطره لنا الوحي، وكما سجّله لنا التاريخ الكنسي. فعندما نعود لما كتبه كالفن في كتابه «ضرورة إصلاح الكنيسة» لا يفاجئنا أنَّ بداية برنامجه الإصلاحي يقوم على الاعتراف بالحاجة للإصلاح، وقد نظّم برنامجه في ثلاثة أقسام كبيرة، القسم الأول منها، خصصه للشرور في الكنيسة التي تتطلب الإصلاح، والقسم الثاني وضَّح العلاج الخاص لتلك الشرور، أمَّا القسم الثالث بيَّن فيه لماذا لا يمكن تأخير الإصلاح، بل كيف تطلب الوضع «تعديلًا فوريًا».

كان الإصلاح –ولا زال- حركة توبة تقول الأطروحة الأولى من الأطروحات الخمس والتسعين: «عندما قال ربنا وسيدنا يسوع المسيح «توبوا»، أراد أن تكون حياة المسيحي بأكملها حياة توبة»؛ هناك الكثير لنتوب عنه في حياتنا الشخصيّة: الجشع، الأفكار النجسة، النميمة، عدم الإيمان. وهناك الكثير أيضًا لنتوب عنه ككنيسة: ممارسة الفرائض الكنسيّة بطريقة غير كتابيّة. عدم كفاية وجودة التعليم الكتابي، ضعف حياة الصلاة ودراسة الكتاب المقدس، عدم أداء المسؤوليات الرعويّة؛ الفتور في العمل الكرازي والمُرسلي ومشاركة الإنجيل مع الغير.

 بنظرة خاطفة على التاريخ الكتابي والكنسي، يُمكننا أن نقول إننا في طريقنا لمرحلة آتية -لا ريب في ذلك- ستحمل في طياتها محاولة أخرى لإصلاح إنجيلي بات وشيكًا، ستنافس نتائجه ما حدث في القرن السادس عشر.

مستقبل الكنيسة

إنَّ مستقبل الكنيسة لا يعتمد على بشرٍ خطأة، أو مُبررين، ولا على محاولات إصلاحٍ بشرية أو مؤسسيّة، إنَّ مستقبل الكنيسة يعتمدُ على أنَّ مؤسسها وضامنها وبارئها هو شخص المسيح الذي هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. وفي اعتقادي أنَّ الكنيسة ستنمو وتستمر في الازدهار. وهذا ما يؤكَّده التاريخ الكنسي لقد نمت وتغيرت منذ أن انفصلت عن اليهوديّة في مجمع أورشليم، وانطلقت حتى حققت إرساليتها ووصلت إلى أقصى الأرض (متى 28: 18-20؛ أعمال الرسل 15؛ غلاطية 2)؛ ربما تختلف كنيسة المستقبل عن كنيسة الماضي أو الحاضر، ربما تكون كنيسة مستقبليّة أكثر حرية ومرونة، وقادرة على تجاوز جدرانها الأربعة، ربما تكون كنائس رقمية أو منزليّة، قد يكون هناك تركيزٌ أكبر على ممارسة العدالة الاجتماعية. أو ربما تعطي التعاليم المسيحيّة توازنًا أكبر لمواضيع صعبة مثل محبة الله وغضبه. رُبما ستبدو كنيسة المستقبل مختلفة جذريًا في ممارسة إيمانها لكن سيبقى الإيمان بيسوع المسيح ربًا ومُخلصًا، في حياته وموته وقيامته أمرًا مركزيًا أكثر من الآن، ربما مجالات التركيز الأخرى قد تتغير، لكن سيظل ما تحتاجه كنيسة المستقبل أن تعرف كيف تُعيد سرد قصة يسوع المسيح، وفدائه وقيامته بطريقة تتناسب مع تلك الفترة مما يُحدث تأثيرًا إيجابيًّا وأكيدًا على عالم الغد.

كتب يوجين روزنستوك هويسي[5]: [«المسيحية والمستقبل مترادفان»، لأنَّ إيمان القيامة وحده يمكنُّنا من مواجهة نهاية العالم والموت عن عاداتنا ومثلنا القديمة، والخروج من أخاديدنا القديمة، وترك أنفسنا الميتة وراءنا واتخاذ الخطوة الأولى نحو مستقبل حقيقي»[6]].

يمكننا أنْ نثق تمامّا أنَّ الكنيسة التي يبنيها المسيح ستدوم. هذا لا يضمن بالضرورة مستقبلها في أي مكانٍ أو تعبير معين. لكنَّه يعطينا الثقة لنلتزم بالكامل بكنيسة المسيح ونسعى لأن تكون فقط وفقًا لإرادته المعلنة لها، وإن كنَّا لسنا مصدَّر التجديد والإصلاح، لأننا لسنا كفاءة في أنفسنا، لكنَّ الله يُصلحها من خلال المؤمنين فيها تحت قيادة الروح القدس، الذي يُعلّمنا ويُرشدنا ويُصلِحُنا، فنصبح أداته في إصلاح الكنيسة كما حدث مع المصلحين الأوائل.

الحواشي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] W. Robert Godfrey. Why Was the Reformation Necessary? Available on the following link: https://www.ligonier.org/learn/articles/why-was-reformation-necessary

[2] كان كتاب «ضرورة إصلاح الكنيسة»، في الأصلِ خطابًا كتبه كالفن وألقاهُ أمام الإمبراطور تشارلز الخامس وأعضاء البرلمان الإمبراطوري في سبايرز A Diet Of The Empire At Spires، وقد تمت طباعته -كتابًا- لأول مرة في 1 يناير 1544م، ثم أُعيد طبعه أكثر من مرة، كان أخرها 1 يناير 1994م. من دار: Old Paths Publications

[3]  W. Robert Godfrey. Ibid.

[4] جاي وارنر ولاس، ستة أسباب لعزوف الشباب المسيحي عن الكنيسة، مقال على الإنترنت:  https://www.aljazeera.net/

[5]  يوجين روزنستوك هوسي (6 يوليو 1888-24 فبراير 1973) مؤرخًا وفيلسوفًا اجتماعيًا، امتد عمله إلى تخصصات التاريخ واللاهوت وعلم الاجتماع واللغويات وما بعدها. ينظر إليه على أنه ينتمي إلى مجموعة من المفكرين الذين أحيوا الفكر الديني ما بعد نيتشه.

[6] Peter J. Leithart. The Future of Protestantism. Available on the following link: https://www.firstthings.com/article/2014/08/the-future-of-protestantism

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى