مدير التحرير

ماذا يعني أن تكون روحانيًا؟

أساسيّات الرّوحانيّة المُصْلَحة

الهدى 1256 – 1259                                                                                                        مايو – أغسطس 2024

تُتهم الكنيسة الإنجيليّة أنَّها لا تُركز على الرّوحانيَّات، أو أنَّها كنيسة لا تُعلِّم عن الرّوحانيّة، ورُبما تُتهم بأنَّها كنيسة جامدة وجافة. لكنَّ الوقوف أمام المعنى المقصود من مُصطلح «الرّوحانيّة» وضبطه، يُحددان بدقة كيفيّة ردّ هذه التُّهم، وبالأكثر يشرح المعنى المُصْلَح للرُّوحانيّة.
في حوارٍ عن الرّوحانيّة المُصْلَحة وتعريفها، مع القس جون بايبر، أجاب: «إذا سألت ثلاثة أشخاص ليقدِّموا تعريفًا للرّوحانيّة، فستحصل على أربع إجابات مُختلفة!» ففي التّاريخ الكنسيّ، وخاصّة العصور الوسطى، كانت الرّوحانيّة منعزلة داخل أسوار الأديرة، وفي إطار جماعة مُحددة هي جماعة الإكليروس، ومع فساد الحياة الكنسيّة في تلك العصور الغابرة، فقد مُصطلح الرّوحانيّة قدسيته في مهد الإصلاح. وفي الوقت الحاضر تُركِّز الطوائف التّقليديّة على أنَّ الرّوحانيّة تعني النّشاط اليوميّ للحياة في شركة مع الله، وتُعتبر مصادر الرّوحانيّة الأرثوذكسيّة هي الكتاب المقدَّس، والتّقاليد المقدَّسة، والتّعاريف العقديّة للمجامع المسكونيّة، والتّعاليم الرّوحيّة لآباء الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة. إنَّ الرّوحانيّة الأرثوذكسيّة تتجلى بشكل رئيس من خلال الصّلاة، والحياة المسيحيّة اليوميّة، والعبادة، والتي تؤدي في النّهاية إلى الاتحاد بالنّور الإلهي غير المخلوق. وفي تعريف آخر للرّوحانيّة، هي الطّريقة التي تُمارس بها المعتقدات على المستوى الشَّخصيّ واليوميّ والخاصّ. وعندما نتناول الحركات الكارزماتيّة نراها تُعلِّم أنَّ الرّوحانيّة تقوم على عددٍ من المظاهر التّعبديّة، والسّلوكيّة، إذ تتبنى تلك الحركات استخدام المواهب الرّوحيّة «الكاريزما charismata»، مع التّركيز على معموديّة الرّوح القدس. ومع اختلاف توجهات تلك الطّوائف والمذاهب، نراها تتّفق على أنَّ الرّوحانيّة نشاطٌ ينبع من داخل الإنسان وصولًا إلى الحياة التي تتّفق مع الإله، إنها حياة انعزال عن العالم، والعيش وَفق حياة نُسكيّة، تصوّفيّة، تُقرِّب الإنسان من الله، وربما تتّفق هذه النّظرة مع أتباع آلهة وديانات أخرى.
أمَّا الكنائس المُصْلَحة، فقد ابتعدت عن استخدام مصطلح «الرّوحانيّة Spirituality» لما شابه من شبهات في العصور الوسطى، وقد صكَّ المُصلحون وخاصّة جون كالفن، مصطلحًا جديدًا، هو «التّقوى pietas»، حيث تبدأ الحياة الرّوحيّة بنعمة الله وعمله الخلاصي الذي يُقيم الإنسان الميت الذي لا حول ولا قوة له، ثم تبدأ الحياة الرّوحيّة في النّمو عبر رحلة عمل نعمة الله في الإنسان خطوة بخطوة في عمليّة تقديس، وصولًا إلى لحظة التّمجيد. إنَّ الولادة الجديدة تعني أنَّ الله يزرع الحياة الإلهيّة في قلوبنا الميّتة روحيًّا. إنّها عمل نعمة الله المعطي للحياة، حيث يجعله يولد في عائلته. وهذا يعني أنَّه من خلال العمل الخارق للطّبيعة للرّوح القدس، نتحوّل بشكل كبير في جوهر وجودنا. عندما نولد من جديد، نصبح أحياءً لله. في الولادة الجديدة، يمنحنا الله حياةً جديدةً لا يستطيع أحد أن يمنحها إلّا هو.
إنَّ الرّوحانيّة المُصْلَحة، أو التّقوى وَفقًا للفكر المُصْلَح، فإنَّها تعتمد على عمل النّعمة الإلهيّة، فمن المستحيل أن نُنمي روحانيّة حقيقيّة من خلال أعمالنا أو طاقتنا أو قوتنا، ويكتب مايكل هورتون عن الرّوحانيّة في المفهوم المُصْلَح، قائلًا: «إنَّ الرّوحانيّة الحقيقيّة ترتكز أوّلاً على ما أنجزه الله خارجنا، ليس ما يقوم به داخلنا، إنَّ الله يأتي إلينا في يسوع المسيح بروحه خارج عقلنا وخبرتنا، وفي إطار العهد، فإنَّ الله يعمل من الخارج إلى الدّاخل، مما أنجزه لنا وخارجنا إلى ما يقوم به فينا ومن خلالنا، من العامّ إلى الشّخصيّ، مما حدث في الماضي إلى ما يحدث في الحاضر.»
ولأنَّ الفكر المُصْلَح يقوم على الكتاب المقدَّس وحده، كلمة الله المُوحى بها، دستور الحياة المسيحيّة، يُمكنُنا أن نلحظ بعض الأساسيّات الكتابيّة التي يقُوم عليها مفهوم «التّقوى/الرّوحانيّة» بحسب الفكِّر المُصْلَح، منها:
التّبرير بالإيمان وحده: تتأسس التّقوى بحسب الفكر المُصْلَح على عمل نعمة الله، الذي من خلاله وحده يمكن للإنسان أن يتبرر، وينال الحياة الأبديَّة في المسيح، ولا يمكن أن ننال التَّبرير بأعمالنا، أو تقوانا، أو حتَّى إرادتنا واجتهادنا، وهذا ما أعلنته كلمة الله، قائلة: «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.» (أفسس 2: 8 – 9). ولا يكون التَّقدم في الطّاعة إلّا عندما نعترف بأن المسيح هو برنا وقداستنا وفداؤنا.
التَّقديس: وهذه كلمة كتابيّة أساسيّة في التّقوى المُصْلَحة، فبمجرد أن نُعلَن أبرارًا من خلال احتساب بر المسيح لنا، فإننا ننمو في البرّ الشّخصيّ بالاتحاد مع المسيح وبرّه. وكما لا نُساهم في أمر خلاصنا بشيء، هكذا نسير في رحلة تقديسنا التي تستمر طيلة رحلة حياتنا على الأرض، يقول الكتاب المقدَّس: «فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ» (كولوسي 2: 6)؛ لكنَّ الأمر الجديد أننا سنكتشف كل يومٍ ما الأعمال التي سبق الله وأعدها لنسلك فيها (أفسس 2: 10)، وهنا يأتي دورنا وتجاوبنا وطاعتنا وخضوعنا لكلمة الله من جهة، ونمو حياتنا وتشبهنا بصورة ابنه، إلى أن ننّضم إلى موكب الغالبين، وننال التّمجيد.
التّقوى وكلمة الله: إنَّ التقوى المُصْلَحة تقوم على الكلمة. وهذا ليس غريبًا على الكتاب المقدَّس، كلمة الله، ولنا في افتتاحيّة إنجيل يُوحنَّا، التي تبدأ بالإعلان: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ…وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.» (يوحنا 1: 1، 14). وهنا يؤكد الرّوح القدس على أنَّ الكلمة المقصود هنا هو الله الظاهر في الجسد، يسوع المسيح. وقد كانت خدمة الكلمة، أساس انطلاق الكنيسة الأولى، يُسجَّل البشير لوقا هذه الحقيقة، عن الرّسل، قائلًا: «وَأَمَّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى الصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ الْكَلِمَةِ.» (أعمال 6: 4). كانت دراسة كلمة الله في مركز الخدمة الرّسوليّة. وكانت الكنيسة منذ انطلاقها تقوم على كلمة الله، روحانيتها/تقواها تقوى الكتاب. وهكذا في زمن الإصلاح، أُعطيت للكلمة مكانة بارزة للكرازة والشّهادة، وكذلك للدّراسة الشّخصيَّة والتَّأمل. وقد رفض عديدٌ من المُصلحين أمثال: نوكس، زوينجلي، كالفن، وبوتسر، كتاب القراءات اللّيتروجيّة، وكانوا يتعمدون الوعظ والتّعليم مباشرة من الكتاب المقدَّس.
المزامير وتمجيد الله: إنَّ التّقوى التي ورثناها كانت تتغذى بصلاة المزامير والتّرنم والتّأمل بها، ليس فقط في الكنيسة، بل أيضًا في الصّلوات العائليّة كل أيام الأسبوع. الهدف الأساسيّ من ترنيم المزامير بالطّبع هو أنّ المزامير هي الصّلوات الأساسيَّة للكنيسة. نحن نعلم أن يسوع كان يصلي باستمرار سفر المزامير، وهكذا كانت المزامير حاضرة كعنصرٍ أساس في عبادة وصلوات الكنيسة الأولى (أعمال 4: 23-31)، وقد كتب المُصْلَح جون كالفن في مقدمته لسفر المزامير، قائلًا: «إنّ المزامير ذات قيمة للصّلاة المسيحيّة لأنَّها صلوات الرّوح، وتُعلمنا أن نصلي كما ينبغي حتَّى عندما لا نكون متأكدين من الطّريقة التي يجب أن نُصلي بها (رومية 8: 26).» وهذا يُفسِّر كيف أنَّ تسبيح وتمجيد الله، في الكنيسة المُصلَحة، يعتمد في جزء كبير منه على استخدام المزامير في التّرنيم والعبادة.
تقديس يوم الرَّبِّ: إنَّ روحانيّة يوم الرَّبِّ هي سمة أساسيّة أخرى للتّقوى في الكنيسة المُصْلَحة، وقد أعاد المسيح نفسه تفسير المقصود من «تقديس يوم السَّبت”، وتأسس يوم الرَّبِّ في كنيسة العهد الجديد خلال الاجتماع مع التّلاميذ بعد قيامته، في اليوم الأوَّل من الأسبوع، «يوم الأحد»، وهكذا استمرت الكنيسة الأولى، في «تقديس يوم الأحد» اليوم الأوَّل من الأسبوع، وتخصيصه للعبادة (يوحنّا 20: 19، 26). ويشهد تاريخنا القريب كيف كان يوم الأحد يومًا مباركًا ببركة السّلام والرّاحة والهدوء. وكان يومًا مُخصّصًا للصّلاة وأعمال الخير. وكان من القدسيّة في تأثيره ليس فقط على مستوى العبادة الكنسيّة، بل في العائلة المسيحيّة.
أعمال الرَّحمة: تركز الرّوحانيّة المُصْلَحة بشدة على أعمال الرّحمة. فإحدى السِّمات الفريدة لعقيدة وخدمة الكنائس المُصْلَحة، تفسيرها لمنصب الشّماس. بدلاً من فهم المنصب كخطوة أولى على السّلم الهرميّ كما فهمته الكاثوليكيّة في العصور الوسطى، تفهم الكنيسة المُصْلَحة خدمة الشّموسيَّة على أنها خدمة الرّحمة (أعمال الرّسل 6: 1-6). وهذا ما نراه في الكنائس المشيخيّة الحديثة على وجه الخُصوص، حيث تقع على عاتق الشّمامسة مسؤولية قيادة الكنيسة في رعايتها للفقراء، وفي رعاية الأرامل والأيتام، وفي خدمتها للمرضى والمنكوبين.
ممارسة الفرائض المقدَّسة: يُعطي الفكر المُصْلَح لممارسة الفرائض/الأسرار، “المعموديَّة والعشاء الرَّبَّانيّ”، تركيزًا خاصًا، بوصفهما «وسائل نعمة الله»، فالمعموديَّة إعلان بداية حياتنا الجديدة في المسيح، وفي العشاء الرَّبَّانيّ نختبر حضورًا روحيًا للمسيح، مصدر غذائنا الرّوحيّ طيلة رحلتنا في البريَّة.
الدَّعوة، الوكالة المسيحيّة، الكرازة، كلها وسائل تتنوع لتُساعِد في تحقيق حياة التّقوى، حيث تنطلق في حياة شاهدة وكارزة وخادمة لعالمٍ يحتاج لخلاص المسيح، وهي لا تقوم في مُجملها على المجهودات البشريَّة، بل تعتمد على عمل نعمة الله، أمَّا عقيدة كهنوت جميع المؤمنين فقد ساعدت لأنّ تُصبح الرّوحانيَّة مسألة تتعلق بكيفيَّة عيش المرء الحياة المسيحيَّة مع العائلة، في العمل، سواء في الحقل، أو الورشة، في عيادته، أو مصنعه، أو تجارته، في البيت، في المطبخ، أو في تجارته.

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى