العدالة الخلاقة
الهدى 1215-1216 نوفمبر وديسمبر 2019
من أهم القيم الاجتماعية التي تمنع الانقسامات وتجنب الثورات وتحافظ على ترابط العلاقات في المجتمعات، قيمة العدالة. فالعدالة هي الصمغ الذي يلصق كافة شرائح المجتمع بعضها ببعض مما يجعله متماسكًا. لهذا فسيادة العدالة ضرورة قصوى لكل مجتمع كيما يحافظ على سلامه واستقراره.
يعرِّف بعض الفلاسفة واللاهوتيين العدالة، على أنها التنظيم الصحيح للأشخاص والأشياء، من خلال الأنظمة والقوانين التي تدير شؤون الناس انطلاقًا من مبدأ إعطاء كل ذي حقّ حقّه كيما يتساوى الناس.
العدالة حاجة إنسانية أساسية بالفطرة كحاجة الإنسان للطعام. فإذا لم تسد عند الإنسان حاجته إلى الطعام، فانه يشعر بنقص أساسي في حياته، وإذا ما سدت يشعر باكتفاء ورضى. أجريت دراسات في العام 2008 لاختبار كيفية تجاوب الإنسان مع العدل أو الظلم، فأظهرت الدراسات أن الذهن الإنساني، وبالتحديد ذلك الجزء من الدماغ الذي يستجيب بالرضى والاكتفاء عندما يأكل الإنسان الطعام، هو نفسه يستجيب بالرضى والاكتفاء عندما يعامل الإنسان بعدل. والعبرة من تلك الدراسة أن الظلم يفقد الإنسان حاجة ضرورية جدا من أهم حاجاته الأساسية.
العدل صفة أساسية من صفات الله. يقول المرنم: «العدل والحق قاعدة كرسيه… السموات تخبر بعدل الله» (مزمور 97: 2و6). تأملوا بقوة هذه الصورة حول أهمية العدل في نظر الله. فالقاعدة هي المكان حيث يضع الله كرسيه عليه ليملك بالحق والعدل على العالم. كما أن السموات تخبر بعدالة الله. فالله يبغض الظلم على أنواعه. يقول النبي صفنيا: «الرب عادل في وسطها لا يفعل ظلمًا» (5:3). فالعدالة ليست فقط مطلبا اجتماعيًا، ولكن قبل أي شيء هي من صفات الله بل مطلب الله من كل أولاده.
عندما تنبأ النبي إشعياء عن مجيء المسيح إلى العالم 800 سنة قبل الميلاد، فإن الصفة الأساسية التي أبرزها عنه هي صفة العدل. قال إشعياء: «ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب. ولذته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يحكم بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض» (إشعياء 11: 1-3). يذكر النبي إرميا صفتين أساسيتين للمسيح القاضي العادل هما: البر والأمانة. البر، يعني الحفاظ على النزاهة والاستقامة والقيام بما هو صحيح بثبات وبشكل دائم في كل الأحوال ومهما تبدلت الظروف. أما الأمانة فتعني الإخلاص والصدق في كل ما نؤتمن عليه. (نزاهة القضاء هو مطلب كل إنسان، كيما يأخذ كل ذي حق حقّه). إنَّ الأمر الملاحظ حول قضاء المسيح في هذه النبوة، هو أنه «لا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع إذنيه». تصوّر الأساطير الرومانية القديمة إلهة العدل Justicia يتدلى من يدها اليسرى ميزان لتزن وتقّيم القضايا مما يرمز إلى قوة العقل، وبيدها اليمنى تحمل سيف ذو حدين يرمز إلى قوة العدل، وعلى عينيها عصابة تمنعها من الرؤية إشارة إلى القضاء والحكم بموضوعية وتجرد، دون أية مواربة أو إقامة اعتبار لأية مصالح شخصية. فالعصابة على عيني Justicia قد تنسجم مع وصف النبي إشعياء للمسيح: «بأنه لا يحكم بحسب نظر عينيه».
يذكر اللاهوتي الألماني بول تيليتش في كتاباته نوعًا من العدالة يسميها «العدالة الخلاّقة». هذه العدالة تختلف عن العدالة المجرّدة المتبعة في القضاء. فهي خلاّقة لأنها تنبع من فهمه للإنجيل وأسلوب تعاطي يسوع المسيح مع حاجات الناس، انها خلاّقة لأنها عدالة تتجاوز القوانين والمقاييس الإنسانية، اذ ليس لديها مسلّمات ولا حسابات، بل تتميز بالديناميكية والليونة لتتعاطى مع كل حالة على حدا، إنها عدالة تتميز بالمعرفة الكاملة، فلا تستند فقط على ما يُرَى ويُسْمَع، بل تبحث في العمق عن كامل حيثيات ودوافع وتفاصيل ووقائع الأمور وتبني حكمها بناء لمعرفتها الشاملة. فالعدالة الكاملة تحتاج إلى معرفة شاملة، وهي صفة المسيح الذي «حلّ عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب» فالمسيح القاضي لديه الحكمة والفهم والمشورة والمعرفة ليقضي بعدل. إن هذه العدالة الخلاّقة (كما يسميها بول تيليتش) تختلف عن العدالة المجرّدة لسبب رئيسي هو، أنها عدالة مضاف اليها عنصر المحبة الصادقة. فالمحبة تستطيع أن ترى أمورًا وتفاصيل لا تستطيع أن تراها العدالة المجردة. المحبة تستطيع أن تتفهم الحيثيات والدوافع أكثر مما تتفهمه العدالة المجرّدة، وهي خلاّقة، لأنها لا تكتفي بالإنصاف ولا تستند فقط على مبدأ الاستحقاق الذي نجده في العدالة المجردة، والتي هي ضرورية لحكم المجتمعات والأوطان، لكن العدالة الخلاّقة تسعى لخلق حالة أفضل للإنسان، لا سيما المظلوم، هي حالة ملكوت الله التي هي «بر وسلام وفرح في الروح القدس» كما يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية (14: 17).
هذه العدالة الخلاّقة هي عدالة النعمة الإلهية، التي ظهرت في قصة الابن الضال في إنجيل لوقا الأصحاح 15، عندما رفضت مفهوم الابن الأكبر عن العدالة التي أرادها مجرّدة والتي حاول أن يطّبقها في طريقة تعامله مع أخيه الأصغر التائب، اذ رفض الدخول إلى البيت ليستقبل أخيه. وإنما تترجم هذه العدالة الخلاّقة، في طريقة استقبال الأب لابنه الضال التائب، إذ رفض اقتراح الابن الأصغر بأن يرجع كأجير إلى البيت وأصر على رجوعه كابن، ولم يكتفِ باستقباله استقبالًا عاديًا، لكنه أقام له وليمة الملوك للاحتفال والفرح برجوعه، فابنه هذا قد انتقل إلى حالة جديدة بعد التوبة، انتقل من حالة الضلال والموت إلى حالة التوبة والحياة. «لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجِد» (لوقا 15: 11-31). فكم نحن بحاجة ماسة لتدخل هذه العدالة الخلاّقة، حياتنا، وبيوتنا، ووطننا.