الترنيم .. خريطة للطريق
الهدى نوفمبر 2008
بقلم القس محسن منير
الترنيم جزء أصيل وهام ومبهج من أجزاء عبادتنا المسيحية، يستخدمه الرب مع باقي أجزاء العبادة كأداة من أدواته لإعادة تشكيل حياتنا، وتعليمنا، ونمونا، وسمو ورقة مشاعرنا الروحية. وهو يعتبر ذبيحة من ذبائح العهد الجديد نقدمها لإلهنا في العبادة كثمر تحمله شفاهنا، ناتج من شجرة تمتد جذورها في قلوبنا معترفة ومبتهجة بشخص الله وعمله في حياتنا (عبرانيين 13: 15).
وبدون الدخول في سفسطة تنظيرية، ومن خلال نظرة بسيطة في سفر المزامير، نجد أنه توجد ثلاثة أنواع أساسية من الترنيم:
- ترانيم موجهة لشخص الله: وهي التي تشكل معظم ترانيم ومزامير العهد القديم، وهي التي ينبغي أن تمثل أكثرية ترنيماتنا.
- ترانيم توجه للبشر: وهي محدودة العدد، وتتبلور في ترانيم البشارة والنصح. ومزمور 37 يعتبر مثالاً لهذه النوعية من الترانيم.
- ترانيم توجه للنفس الإنسانية: وهي بمثابة اتصال وحوار مع النفس بهدف التذكرة والتشجيع، مثل مزمور 103, مزمور121.
ولقد سعدت جداً أن تفتح “الهدى” – في ثوبها الجديد الجميل العميق المتنوع – ملف الترنيم وأستاذن القارئ في المشاركة ب”وجهة نظر” أبلورها في بعض الأفكار السريعة والمختصرة:
- أعتقد أن التفرقة اللفظية الحادة بين تعبيريّ “تسبيح” و”ترنيم” غير قائمة بنفس الحدة في الواقع؛ ففي الأغلب والأعم يستخدم الكتاب المقدس التعبيرين لنفس المعنى تقريباً. لذا أرى أن أى مناقشة لمحاولة إثبات أفضلية وأهمية نوع على آخر هو شكل من أشكال الجدل العقيم الذي يريد البعض أن يجرنا إليه، والذى لن يضيف أو يغيِّر في نظرتنا وممارستنا للترنيم، كجزء أصيل من عبادتنا المسيحية.
- لابد من التذكر الدائم أنه لأية ترنيمه عدة جوانب؛ فهي تحتوي المعنى أو الفكرة أو المفهوم الكتابي أو اللاهوتي، مصاغاً في قالب شعري، يمتزج بلحن موسيقى . إذن فنحن نرى جانبا ً فكريا ً متجسداً في الرسالة الروحيّة أو اللاهوتيّة أو العقائديّة، ثم جانبا ً فنياً يتجسد في الشعر وفي اللحن الموسيقي.
- إن الجوانب الفنيّة (شعر , موسيقى) لا يمكن عزلها عن سياق الزمان والمكان، ففي الشعر العربى، مثلاً، هناك فارق كبير في الأفكار والمعاني والتعبيرات والصور بين الشعر الجاهلي وشعر جماعة أبوللو لاختلاف الزمان والمكان، وأيضاًً يمكننا ملاحظة الفارق الكبير بين ألحان ثلاثينيات القرن الماضي وبين ألحان ستينيات نفس القرن، لنفس المطرب أو المطربة الذي عايش الزمنين. إذن لابد ألا تكون المفردات المستخدمة في الترنيم من النوع الذي انقرض أو لم يعد مستخدماً أو مفهوماً من الشعب حالياً، وأيضاً ألحان الترنيم يتعين ألا تكون من نوعية لا يقوى المتعبدون على استساغتها والتفاعل معها، مع ملاحظة أن مواكبه الزمان والمكان لا تعني أبداً قبول التردى والانحدار ومغازلة ذوقاً فاسداً، حتى لو كان شائعا ً في المجتمع، لكن ببساطة يعني قبول مبدأ خضوع هذا الجانب من الترنيم للتحديث والتطوير.
- ضرورة الاعتداد والاعتزاز والتمسك بتراثنا من الترانيم التي تجسِّد هويتنا، ككنيسة إنجيلية مشيخية، لكن مع إدراك أن هذا لا ينبغي أن يجعل منه صنما ً يُعبد ويُمنع الاقتراب منه بالتحليل والتقويم. فينبغى ألا نقبل أو نرحب بالقديم لمجرد كونه قديم، ولا نرفض الحديث لمجرد كونه حديث. والعكس، أيلا ينبغي أن نرفض القديم لمجرد كونه قديم ونلهث وراء الجديد بدون تقويم أو تصحيح لمجرد كونه جديد، لكن يظل الحاكم هو معايير موضوعية تتفق مع طبيعة وهدف الترنيم وأقدم، على سبيل المثال، بعض المعايير باختصار:
- أن تكون الترنيمة سليمة وصحيحة في مفاهيمها الكتابية واللاهوتية والعقائدية.
- أن تكون الترنيمة مفهومة ومستوعبة بيسر وسلاسة، شعرا ً ولحناً، وفي نفس الوفت راقية غير مبتذلة تشجع على العبادة والتأمل الهادئ.
- أن تمثل احتفالاً بنشاط وعمل الله في التاريخ، سواء الماضي وذروته في التجسد والصليب والقيامة، أو الحاضر لاستمرار لأعمال العناية والرعاية والتقوية والتشجيع والإرشاد والتوجيه… الخ.
- إن استخدام الله المبارك والرائع في الماضي، لعدد من رجال كنيستنا لتأليف وتلحين ترانيم خالدة باقية مؤثرة على مر السنين، لا يعنى إطلاقا ً أن روح الله توقف عن أن يلهم ويبدع ويفرز آخرين ليقدموا ترانيم جديدة جيدة فكرا ًوشعراً ولحناً، حالياً ومستقبلاً.
- يجب عدم التعامل مع ترانيم الشعر العامي بالرفض والتحقير أواعتبارها في مرتبة أدنى من ترانيم الشعر الصحيح، فنحن نعلم أن المفردات والألفاظ هي مجرد قالب للمعانى والأفكار، لذا يكون مدى قدرة المفردات على التعبير الراقى والمفهوم عن هذه المعانى هو المعيار الحاكم، وليس عاميتها أو فصحاها، فنحن، مثلاً، عندما نقرأ رباعيات “صلاح جاهين” نقف مبهورين لعمق الأفكار وجمال التعبير وفلسفتها الراقية، وهي- كما هو معروف- من الشعر العامي.
- يجب ألا يكون هناك قدسية خاصه لكتاب ترانيم بذاته، دون الكتب الأخرى، لكن يجب أن يظل المعيار الموضوعي هو الترنيمة ذاتها، من حيث الشكل والمضمون، بغض النظر عن وجودها في أي كتاب أو شريط كاسيت أو قرص مدمج CD .
- يجب ألا يترك السنودس ساحة الترنيم لكل من هب ودب، أو لصاحب مصلحة أو تمويل، بل لابد أن يكون له وجود فعال من خلال مجلس التربية المسيحية، وأرى أن يتم ذلك من خلال بعديْن أساسيْن:
- وجود معايير موضوعية واضحة ومعلنة لإجازة الترانيم المستخدمة في كنائسنا.
- إعداد مستمر لكوادر من خلال تدريب المواهب المتميزة في الشعر والموسيقى، ليكون لدينا دائما ً أجيال من المؤلفين والملحنين الأكفاء للترانيم.
ملاحظة أخيرة :
جيد ومفيد وهام أن يدور بين شعب الرب حوار كهذا حول الترنيم في عبادتنا، ومن النضج أيضا أن نقبل التنوع والتعدد في وجهات نظرنا، لكن أرى أنه ربما يكون الأكثر أهمية أن نبقى في حالة يقظة تامة، ليظل الترنيم مصدر بركة في حياتنا الروحية، ولا نكون كمن خاطبهم الرب قديماً بفم عاموس “ابعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع”(عاموس23:5).