آراء

الكنيسة بين ثقافة الحياة وثقافة الموت

الهدى 1222                                                                                                                   يوليو وأغسطس 2020

تجتاح الكنيسة منذ عصور ثقافة الموت التي يتم دعمها بنصوص مجتزئة من الكتاب المقدس تؤكد على فناء هذا العالم وأننا لسنا من هذا العالم وأننا نحيا فقط وهدفنا هو الحياة الأبدية. فهذا العالم مليء بالأمراض والفقر والظلم والألم والمشاكل لذلك لا ينبغي التشبث به بل وينبغي أن نطالب الرب بمجيئه في صلواتنا حتى ننتهي من هذه الحياة.
بل ويزيد الأمر عن ذلك بعظات تنادي بالموت عن هذه الحياة من أجل المسيح وتزينه في أعين الناس لأنه ببساطة الطريق المختصر لتلك الراحة الأبدية والتنعم بالحياة في الفردوس، فالموت هو ربح أولًا وأخيرًا. هل هذه دعوتنا بأن نبتغي الحياة الأبدية ونحتقر الحياة الأرضية؟
إذا كان الأمر كذلك، فنحن لا نختلف كثيرًا عن هؤلاء التكفيريين الذين يفجرون أنفسهم طمعًا في حياة الجنة والتلذذ بما وراء الموت. فثقافة الموت في الحالتين واحدة باختلاف شكلها. فالشكل المسيحي يُقبِل إليها كضحية والشكل التكفيري يقبل إليها كجهاد.
لقد أثير هذا الأمر في ذهني بسبب الأحداث التي تمر بها مصر والكنيسة بصفة خاصة من قتل واغتيال للمسيحيين سواء بتفجيرهم في دور العبادة أو باغتيالهم مؤخرًا على طريق دير الأنبا صموئيل بالمنيا. وفي كل حادث يذهب فيه ضحايا أجد فريقين. فريق الضحايا: وفيه تتسابق الأصوات بالتهنئة لهم ولذويهم بأنهم الآن في مكان أفضل وأن السماء الآن تفرح بهم وتستقبلهم بعرس مجيد، لذلك لا يصح أن نحزن. بل أنك تجد الأم تزغرد فرحًا وتهليلًا باستشهاد طفلتها. فهل هذا منطقي مهما كانت طبيعة الحياة التي وراء الموت ومهما كان السبب الذي يتم الموت لأجله؟! وفريق التكفيريين: وفيه يتم إعلان الفرح والفخر بهذا المجاهد الذي فجّر نفسه بغيةً التمتع بالجنة ولذّاتها. فالتكفيري يفرح بفوزه بالجنة والمسيحي يفرح بفوزه بالسماء، ألا تتفق معي أن ثمة تشابه بين الثقافتين!
لكن هل هذه نظرة صحيحة للموت والحياة الأرضية والحياة الأبدية؟ هل هناك نظرة متزنة لا تعطي قيمة لحياة على حساب الأخرى؟ وأين نجدها في الوحي المقدس؟
لن أتطرق إلى آيات مجتزئة من الكتاب المقدس تنادي بالموت على أنه ربح ودعوة وأحاول عمل توازن في فهمها وتفسيرها ولن أحاول الإتيان بآيات أخرى تنادي بالحياة وأهميتها. لكن سوف أحلل معكم موقف عملي مر به الإنسان الكامل الوحيد على هذه الأرض، يسوع. وفي ضوء هذا الموقف يجب أن نتعامل مع كل نصوص الكتاب المقدس سواء التي تميل إلى الموت أو إلى الحياة.
هذا الموقف هو صلاة يسوع التي عبّرت بوضوح عن موقفه من الحياة الأرضية والموت والحياة الأبدية. ففي عبارة «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لوقا 22: 42)، نجد صراع يسوع مع الموت والحياة فهو لم يقبل عليه بفرح بل كان متمسكًا بالحياة لدرجة أنه طلب من الآب أن يجيز هذا الأمر عنه 3 مرات (متى 26). ماذا يمكن أن يعلمنا هذا.
ثقافة يسوع هي التمسك بالحياة
نرى في عبارة «إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس» تمسك واضح بالحياة. هذه الكأس تشمل الألم والموت. فموقف يسوع لم يكن موقف الفرح والقبول تجاه الموت، بل تجده يطلب متمنيًا ألا يجتازه وهذا تعبير على ثقافته التي تؤمن بالحياة. ولو لم يسجل الوحي لنا هذه الكلمات التي تعبّر عن مشاعر يسوع الحقيقية برفضه للموت رغم سمو الهدف من وراءه، لكانت ثقافة الموت بالنسبة لنا هي ثقافة إلهية ولكانت تتناقض مع الفطرة التي فطرنا الله عليها وهي الرغبة في البقاء. وفي تمسك يسوع بالحياة نجد صراعًا يضفي واقعية على إنسانيته التي ترفض الموت وتنظر نظرة متوازنة للحياة والموت. فهو يحب الحياة ويتمسك بها ويتمناها، على الرغم من أنه يعلم أن الله سيقيمه بعد اليوم الثالث إلى حياة أبدية!!
فالموت في ثقافة المسيح هو شر في حد ذاته ولم يعتبره يومًا فرحًا، بل على النقيض تجده يحزن ويكتئب بسببه. وفي مواقف أخرى تراه يبكي أمام جثمان ابن أرملة نايين، ويبكي أيضًا على لعازر، ولم يطلب من ذوي هذين الشخصيتين الفرح بحجة أنه سوف يقيم كلاهما. لم يفعل هذا بل بكى هو أيضًا رغم يقينه بأنه سيقيمهما!!! والتساؤل الآن لماذا حزن يسوع واكتئب وبكى؟ الإجابة ببساطة لأنه مهما كان ما سيحدث بعد الموت من مجد، فهذا لا يلغي ألمه ورفضه، لذلك فلابد أن يحزننا هذا الشر ونتفاعل معه بشكل منطقي يتوافق مع إنسانيتنا التي تتألم له وترفضه، وهذا تحديدًا ما فعله يسوع.
ثقافة الحياة تضفي واقعية على الفداء
لماذا تمسك يسوع بالحياة وعدم الموت رغم أن الموت الذي سيجتاز به هو مجرد فترة محدودة، فقط ثلاثة أيام؟ الإجابة هي: واقعية الفداء. فتمسك المسيح بالحياة وصراعه في تخليه عنها يجعل الفداء أمرًا ذات معنى وحقيقًا. فهو بذلك يوضح الإخلاء الذي قام به يسوع، حيث ترك حياة يريدها ويتمسك بها ويقدرها في مقابل رسالة يسعى لتتميمها وهي الفداء. فإذا كانت الحياة الأرضية لا تعني يسوع وليس لها قيمة وبالتالي لم يمر بصراعٍ في اختياره للموت، فما الفضل الذي سيكون قد قدمه بموته؟ بالعكس سيكون الموت في صالحه ولمصلحته وسيكون قد خدم به نفسه قبل خدمته للعالم لأنه في تلك الحالة سيكون الموت وسيلة للانتقال لحياة أفضل، وبالتالي يبطل الفداء ولا يكون واقعيًا وحقيقيًا. على الجانب الآخر، ما يضفي واقعية على الفداء هو الألم الذي يحمله الموت، فلو لم يكن هناك ألمًا في الموت يستوقف يسوع لبطلت الكفارة، ولو لم يكن هناك رفضًا للموت لكانت القيامة بلا معنى! فواقعية الفداء تتحقق في تركه لحياة يتمسك بها وقبوله لألم حقيقي في الموت.
ثقافة الحياة تضفي قيمة وسمو على رسالة يسوع
والتساؤل الآن هل سمو الرسالة والهدف يجعلني أرغب في الموت وأسعى له ثمنًا لتلك الرسالة؟ قد تبدو الإجابة التي تعبر عن تضحية ومحبة هي «نعم بالتأكيد». فالمفهوم السائد هو «كلما سمت الرسالة والهدف، كلما باتت التضحية والموت لأجله أمر يسير». هذا الفكر يبدو في ظاهره مقبولًا. لكن دعونا نحلله معًا في ضوء ما فعله يسوع.
فرغم سمو رسالة يسوع وهي تقديم الفداء للعالم أجمع وإعلان محبة الله للإنسانية، إلا أنه يقول «إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس»، وفي هذه الطلبة نجد عدم رغبة في الموت، حتى ولو كان مؤقتًا (3أيام)، لأجل الرسالة. فهل كان يسوع يريد التنصل من رسالته؟! أم أن رسالته لم تكن ذات قيمة بالنسبة له حتى يضحي عن طيب خاطر بحياته ثمنًا لها؟! بحسب المفهوم السائد قد نتشكك في قيمة رسالة الفداء بالنسبة ليسوع. لكن العكس هو الصحيح. فما أعربه يسوع عن رغبته في عبور الكأس عنه هو دليل على قيمة وسمو رسالته بالنسبة له. نعم فلو لم يقلها وهو يعنيها برغبة حقيقية لانتقص ذلك من سمو رسالته. فتمسكه الشديد بالحياة يعني قيمتها الكبيرة بالنسبة له، إلا أنه رغم هذه القيمة تجده في النهاية يرضى بأن يضعها بعد صراع، إيمانًا منه بسمو رسالته. فلو لم يكن يرى أنه سوف يتخلى عن تلك الحياة التي يقدّرها بشدة في مقابل أمر له قيمة تستحقها، لما كان فعل هذا. فبمقدار تمسكه الشديد بالحياة وصراعه في التخلي عنها، بمقدار إعلان قيمة ما سوف يحصل عليه في المقابل.
سوف أعطي مثالًا للتوضيح. أي من المبلغين التاليين تجد صراعًا أكثر في التخلي عنه بالنسبة لك: 10 أم 1000 جنيه؟ بالتأكيد يكون الصراع مع المبلغ الصغير أقل عند دفعه عن الكبير، وكلما كبر المبلغ كبر هذا الصراع. لكن على الرغم من كبر المبلغ (1000) وأهميته والرغبة في التمسك والاحتفاظ به، إلا أنك عندما تجد شيئًا ذو قيمة توازيه فأنك تدفعه في المقابل رغم تمسكك به. فأنت تصارع في دفع هذا المبلغ، لكنك في النهاية تدفعه، لإيمانك بقيمة الشيء الذي تريده في المقابل. وكلما كان الصراع أقل أثناء الدفع كلما قلت قيمة المدفوع لأجله، والعكس صحيح.
لهذا فتمسك المسيح بالحياة والصراع الذي مر به رغم سمو الرسالة لا يقلل من قيمة رسالته بل هو دليل على سموها، لدرجة أنه دخل في صراع أمام قيمتين متوازيتين قيمة الحياة وقيمة الموت كثمنٍ لرسالته.
ثقافة الحياة تساوي بين قيمة الحياة الأرضية والحياة الأبدية
«إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس» هي تعبير عن التمسك بالحياة الأرضية في مقابل القيامة والحياة الأبدية. كما ذكرت سابقًا أن المسيح يعلم تمامًا ما سوف يؤول إليه موته وأن الآب لن يترك نفسه في الهاوية إلا أن تلك القناعة بالحياة الأخرى والقيامة لم ترخص أو تقلل من قيمة حياته الأرضية لدرجة أنه تمنى وصلى طالبًا إن كان يمكن للآب أن يجيز عنه هذه الكأس. فيسوع لم يعط للأبدية قيمة أكبر عن الحياة الأرضية بسبب أمجادها أو راحتها، بل وضع الاثنين في مقابلة تساوي بين الحياتين. فلولا الحياة الأرضية لا توجد أبدية، لذلك فالصراع الذي مر به يسوع يعبر عن التوازي في القيمة بين الحياتين.
كثيرًا ما نسمع تعزيات الناس للمجربين في فقدان عزيز لهم «هو الآن في مكان أحسن» ويعزونهم بتلك الكلمات التي تبدو معزية لكن هذه التعزية مجرد قشرة يكمن تحتها غليان وعدم قبول ولا معنى. وإذا تم قبولها كانت بمثابة تغييب عن المعنى وعن المنطق. فلم تكن تلك نظرة يسوع للأبدية بل على العكس نجد تشبث منطقي يضع كلتا الحياتين في قيمة واحدة.
ثقافة الحياة تتمسك بالحياة لدرجة الموت (خضوع الابن)
عبارة «لكن لتكن إرادتك لا إرادتي» لها أهمية قصوى، لأنها تضيف معنى عميقًا لثقافة الحياة التي يؤمن بها يسوع وتجعل هناك توازنًا بديعًا بين المحبة الكاملة للحياة والموقف من الموت. فرغم تمسكه بالحياة إلا أن ذلك لم يمنع من قابلية خضوعه لإرادة الآب في أن يموت ويتألم. فليس معنى محبة الحياة والتمسك بها الهروب من الموت عندما تكون هناك ضرورة له. نعم فالموت الاختياري أحيانًا يكون ضرورة كما هو الحال مع يسوع. فإن كان يسوع قد اعتذر عن الموت لأنه يحب الحياة كان ذلك في حد ذاته موت، لماذا؟ لأن حياة يسوع كانت تنبع من رسالته التي عاش لأجلها، وجاء الموت في سياق تلك الرسالة وتعبيرًا قويًا عنها. لذلك هناك معنى لموت يسوع. فإذا كان قد اختار الهروب، هذا يعني التخلي عن رسالته وبالتالي التخلي عن حياته السابقة. وهذا ما لم يفعله يسوع رغم محبته للحياة، بل اختار الموت لتمسكه بالحياة التي عاشها. وهنا يضفي لنا يسوع معنى للحياة، فهي ليست مجرد التنفس والأكل واللبس والعمل. لكن الحياة هي رسالة والتمسك بالحياة هو تمسك بالرسالة، وإذا جاء الموت ليعترض رسالتي تهديدًا ليجعلني أتخلى عنها، عندها يكون الموت ضروريًا لتتميمها وفي سياقها.
إن خضوع المسيح للموت هو قمة التمسك بالحياة لأنه تعبير عن تمسكه بالرسالة التي عاش من أجلها. فإذا كان تخلى عن رسالته بحجة محبته للحياة، لكان فقدها. ونحن عندما نُقبِل على الموت، تحت أي ظروف، لابد أن نتساءل. هل هذا الموت هو في سياق رسالتي أم لا؟ إذا كانت الإجابة نعم فأنت تكون قد تمسكت بحياتك لدرجة الموت. وإذا كانت الإجابة لا فأنت تهدر حياتك بلا ثمن! لأنه لا يوجد للموت قيمة في ذاته، بل هو شر.
ثقافة الحياة تجعل الموت متممًا للحياة (إرادة الآب)
أيضًا تعبّر عبارة «لكن لتكن إرادتك لا إرادتي» عن إرادتين مختلفتين إرادة الحياة وإرادة الموت. فكما أن الحياة هي إرادة، الموت هو أيضًا إرادة. لكن التساؤل هل هناك تضارب بين الإرادتين، الآب والابن؟! هناك تناقض ظاهري (Paradox) بين الإرادتين، فالابن يريد الحياة وعدم اجتياز الموت والآب يريده أن يجتاز الموت. ما هذا الكلام غير المتناسق! مهلًا عزيزي. الإرادة البشرية ليسوع تريد الحياة دون موت وهذا طبيعي ومنطقي للغاية لأن الموت هو شر ترفضه الطبيعة الإنسانية الجسدية. أما عن إرادة الآب فهي ليست الموت في حد ذاته، بل تتميم الحياة. فلقد عاش المسيح حياة ذات رسالة: كان يجول يصنع خيرًا وكان يعلّم وكان يقف في مواجهة الكتبة والفريسيين وفوق كل هذا كان ينادي بمبادئ الملكوت وقبوله. لكن عندما جاء الموقف والوقت الذي ستنتهي فيه هذه الحياة بالموت كثمن لتلك الرسالة، كان الدور الإلهي محفزًا لتتميم الحياة وإيجاد معناها لكن بشكل آخر وهو التخلي عنها في مقابل عدم التخلي عن الرسالة. وبالتالي فإرادة الآب ليست الموت في حد ذاته، بل تتميم رسالة الحياة وحفظها حتى لو بالموت.
وجميعنا نملك الإرادتين في داخلنا، إرادة الحياة وإرادة الموت التي تتمم الحياة، الإرادة البشرية والإرادة الروحية، مما يخلق داخلنا توازنًا بديعًا. فالطبيعة البشرية تساعدنا ألا ننساق وراء الرغبة في الموت طمعًا في الحياة الأبدية، وعلى الجانب الآخر تساعدنا الطبيعة الروحية ألا نتراجع عن رسالتنا بحجة محبتنا للحياة، بل تحفزنا لتتميم الحياة وتوجهنا إلى العمل في سياق رسالتنا حتى ولو بالموت.
والتساؤل الآن هل الكتاب المقدس يشجعنا على ثقافة الموت أم الحياة؟
على غير الفكرة السائدة، يحترم الكتاب المقدس ثقافة الحياة بشدة ويشجعها. إلا أن ثقافة الحياة تلك لا تعني الهروب والخوف من الموت. لأن الخوف من الموت هو في حد ذاته موت عن الحياة. فدعوة الكتاب المقدس هي دعوة للحياة لا يوقفها حتى الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى