المعنى أم المادة؟
الهدى 1229 مارس 2021
منذ زمان بعيد عرف الإنسان عبادة الأوثان وذلك لأنه لم ير الله، لكنه رأى الآلهة الوثنية، لأنها مرئية. وعلى شاكلة هذه الفكرة وجدنا الإنسان يترك المعنى ويتعلق بالمادة..
الله لا يُرى، لأن الله لم يره أحَدٌ قط. لكن الآلهة الأخرى مادية ويمكن رؤيتها، لذا فمن السهل الجري ورائها والتبخير لها وعبادتها لأن الإنسان يميل لما تراه عينه البشرية.
وحى بعد معرفة الله الخالق انحاز الإنسان عن عبادته، وهذا ما حدث في قصة عبادة الشعب للعجل الذهبي. لقد كان الرب متمثلًا في شخصية موسى الذي يقود الشعب لمعرفة الرب وطاعة وصاياه، ولكن بمجرد أن تأخر موسى على الجبل لجلب لوحي الشريعة زاغ الشعب سريعًا وراء الآلهة المرئية وطلب من هارون أن يصنع لهم العجل الذهبي ليعبدوه. وهذا ما حدث، لأن البشر يميلون دائمًا لكل ما هو مرئي ومادي أمام أعينهم ومحسوس وملموس بأيديهم.
فالمادة أكثر جاذبية من المعنى: الأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلًا في قصة الحية النحاسية. عندما تذمر الشعب على الرب وعلى موسى، قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا» (عدد21: 8) وكانت الحية النحاسية بمثابة الدواء الذي قدمه الرب لعلاج مشكلة التزمر والعصيان والخطية. وبالطبع استخدم الرب يسوع الحية النحاسية المعلقة على الراية كرمز لتعليقه على عود الصليب. إذ يقول الرب يسوع: «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.» (يو3: 14ــ 15) هذا التشبيه الروحي واضح والرب يسوع قد صرَّح به. فالحية النحاسية في العهد القديم تعني طاعة الأمر الإلهي وفي العهد الجديد الإيمان بصليب المسيح وفداءه في الصليب. لكننا نجد الإنسان يترك المعنى ويعبد المادة، وهو ما حدث بالضبط. إذ ترك الشعب المعنى المنشود من وراء الحية النحاسية وعبدها في ذاتها إلى أن جاء الملك حزقيا «وَسَحَقَ حَيَّةَ النُّحَاسِ الَّتِي عَمِلَهَا مُوسَى لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِلَى تِلْكَ الأَيَّامِ يُوقِدُونَ لَهَا وَدَعَوْهَا «نَحُشْتَانَ».(2مل 18: 4) تركوا المعنى وعبدوا المادة.
حتى أن الرب نفسه عندما أنهى حياة موسى دفنه الرب في أرض مؤاب ولم يعرف إنسان قبره إلى يومنا هذا، وذلك لأنهم قد يقدسون جسده ويعبدونه. وهذا ما نجده في رسالة يهوذا، حيث تصارع الشيطان والملاك ميخائيل مُحاجًا عن جسد موسى، حتى انتهره الملاك باسم الرب. (يهوذا 1: 9) وقد كان الشيطان يُريد أن يأخذ جسد موسى لكي يقدسه اليهود ويعبدونه. تاركين وصايا الرب المعطاة لهم بواسطة موسى، ويعبدوا موسى نفسه.
كذلك عندما قدَّم الرب يسوع الخبز والكأس كان المقصود بها هو المعنى ولي الحرف، والمعنى بالطبع معروف للجميع هو تذكار صليب المسيح، والشكر والتأمل في عمله. وكالعادة كان المسيح في إنجيل يوحنا يتكلم روحيًا، لكن الشعب فهم كلامه على أنه مادي. وذلك عندما قال المسيح لليهود: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ.» (يو6: 51) كان المسيح يتكلم روحيًا، لكن للأسف فهم اليهود أنه يقول لهم كلوا جسدي ماديًا. «فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» (يو 6: 52) بالطبع لم يدرك اليهود هذا الكلام، حتى أن التلاميذ أنفسهم قالوا: «إن هذا الكلام صعب! من يقدر أن يسمعه؟» ع 60 وكان رده عليهم: «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ.» (يو 6: 63) إذًا يسوع هنا لا يتكلم عن جسده المادي ولا عن تحويل الخبز إلى جسدٍ مادي، بل يتكلم من الناحية الروحية المعنوية من خلال ممارسة فريضة العشاء الرباني، لأن الكلام هو روح وحياة.
ولقد كان الهدف من وراء الرموز الدينية المسيحية كالصليب وصور القديسين وتماثيلهم هو معناها بالطبع. ولكن لسبب الميل الطبيعي لكل ما هو منظور، فقد قَّدسَ المسيحيون هذه الرموز المادية وسجدوا لها وعبدوها ونسوا أن معانيها الروحية أهم بكثير من أشكالها المرئية. ولكن كلما نضج المسيحي المؤمن أكثر، كلما تأمل في جمال هذه الصور ومعناها. وكلما نضج المؤمن أكثر كلما أدرك أننا لسنا في حاجة إلى تلوين هذه الأشياء وخلق صور لها، بل إننا في حاجة إلى شرح معانيها السامية، والتبشير بها.
من أهم الرموز المسيحية التي نقدسها ونهتم بها هو الكتاب المقدس ومادته الورقية، يقدس البعض الكتاب المقدس الورقي، والبعض يظن أن الكتاب يمكن أن يحفظه من شرورٍ كثيرةٍ. فيضعه تحت الوسادة، كي لا يحلم بأحلامٍ مزعجة، أو يضعه في تابلوه السيارة، كي يحفظه من الحوادث، والبعض يقبله ويضعه على المنضدة. ولكن المطلوب قراءة هذا الكتاب وتطبيق الكلمة المقدسة في الحياة العملية المعاشة. لأن تقديس كلمة الله الحقيقي هو العيش بها وليس الاحتفاظ بها تحت الوسادة أو في السيارة أو على المنضدة، إن البركة الحقيقية في الكتاب المقدس تأتي من قراءته بصورة منتظمة ومحاولة تطبيق كل كلمة فيه، فإن قراءتنا له تهدي نفوسنا من الضلال كما هو مكتوب: نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. (مزمور 19: 7)
أيضًا قد يحسب البعض قيمة الإنسان فيما يمتلك، ولذا يردد الكثيرون منا المثل الشعبي الشهير «معاك قرش تسوى قرش» هذا يعني أن قيمة الإنسان تكمن فيما يملك. ولكن إن فكرنا جديًا في هذا، نجد أن قيمة الإنسان في جوهره، وليس فيما يمتلك. فالإنسان أغلى بكثيرٍ من كنوز العالم، فمعناها أغلى بكثير من كل التقييمات المادية.
المعنى أم المادة!: إن المعنى فكرة والمادة أمر محسوس. لكن لا شك أن الفكرة تعبر عن مبدأ أو معتقد. وليس من الضروري أن تُتَرجَم في الواقع لشيءٍ محسوس أو ملموس. لكن المشكلة هو ترك المعنى والتمسك بالمحسوسات دون الرجوع للمبدأ الذي هو أصل وجود الشيء ومعناه. فالنقود مثلًا كمادة ورقية مصنعة ليس لها قيمة في ذاتها، لكن قيمتها في معناها. ومعناها هو أنها مجرد وسيلة نستخدمها العيش بها. كذلك يحتاج كل إنسان مفكر أن يفكر في القيمة المعنوية أكثر من القيمة المادية.
إن هذا المقال لا يعني أن نُهمل الأمور المادية ونحتقرها، بالعكس، هناك أمور لا غنى عنها لأنها موجودة في الطبيعة. والطبيعة نفسها تحدث بالمعنى الذي هو مجد الله. (مز 19: 1) فلا يجب أن نقدس المادة ونجعل منها إلهًا، أو أن نحتقر المادة ونعتبرها نجسةً. ولقد تم اعتبار المادة نجسة بالفعل بواسطة الهرطقة الغنوسة التي اعتبرت الجسد الإنساني خطية. لدرجة أن البعض كان يجاهد ضد الخطية (الجسد المادي) بجلده وتعزيبه وربطه، و… إلخ. إذًا فكلا الأمرين تطرف، فلا يجب تقديس المادة ولا تحقيرها، لكن وضعها في قيمتها الطبيعية التي باركها الرب بها، إذ أن المادة جميعها خلقها الله، وقد أبدع فيها.
إذًا فلا يجب أن نتطرف في كلا الجانبين تقديس المادة لدرجة تأليهها أو تحقير المادة لدرجة أذيتها. وطبعًا، من أهم الأمور المادية التي خلقها الله هي أجسادنا التي نستطيع أن نمجد الله فيها. إذ أنها مقدسة لأنها هيكل للروح القدس. فإن العلامة التي نعرف من خلالها أن الرب قدس أجسادنا المادية هي تجسده في شبه جسد الخطية. لقد قدَّس الرب يسوع الجسد الإنساني بمجيئه في الجسد، لأنه شابهنا في كل شيء ما عدا الخطية. لذا فهو بالتجسد أعلن لنا أنه يمكن تقديس أجسادنا وتمجيد الله من خلالها، كما هو مكتوب: «لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ.» (1كو 6: 20) إذًا فأجسادنا ليست حقيرة كما يظن البعض، بل هي مقدسة بسكنى الروح القدس فيها، فلا يجب أن نهمل أجسادنا، بل نهتم بها ونقوتها ونربيها. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ. (أفسس 5: 29). فالمعنى من وراء أجسادنا هو أنها هيكل للروح القدس.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو أننا نحتاج إلى إدراك ووعي أكثر لأهمية معاني الأشياء وليس أشكالها المصنوعة. نحتاج إلى الحديث أكثر عن قيامة المسيح والتبشير بالقيامة أكثر من زيارة قبر المسيح، نحتاج إلى الحديث عن صليب المسيح أكثر من رسمه على الثياب وعمله وشمًا. نحتاج أن نختبر الصليب والقيامة في حياتنا الشخصية أكثر من رؤيتهم أمام أعيننا في صورٍ أو أشكالٍ معينة. نحتاج أن نتأمل في صليب المسيح وأن نشكره أثناء التقدم للتناول من عشاء الرب. نحتاج أن ندرك معنى وقيمة كل كلمة كُتِبَت في كلمة الله، لأنه كُتبَ لأجل تعليمنا. نحتاج أن نعرف المعاني السامية التي تعلمنا إياها من كلمة الله، وأن نخبر ونبشر بها بين الأمم.