عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم
الهدى 1226 ديسمبر 2020
في القرن الثامن قبل الميلاد، كانت تعيش مملكة يهوذا، ومن ضمنها مدينة أورشليم وضعًا روحيًا وسياسيًا وأمنيًا صعبًا جدًا. فالمملكة الآشورية بقيادة الملك سنحاريب، قد احتّلت مدنها وقتلت شعبها. فعانى الناس الألم والضيق، واختبروا الخوف والقلق وغياب الأمن والأمان.
في ذلك الوقت، كان يحكم مملكة يهوذا ملكًا صالحًا هو حزقيا. لكنه لم يستطع أن يفعل الكثير، أمام بطش الملك سنحاريب الذي تبجّح بسلطانه وقدرته على إخضاع مملكة يهوذا. فكان الملك حزقيا يصلّي إلى الله كيما يتدخل ويضع حدًا لظلم المملكة الأشورية. يذكر النبي إشعياء، أن ما حصل لمملكة يهوذا، سببه ابتعاد الناس عن الله وتعديهم على وصاياه وعدم السير في سبله المستقيمة. لهذا، فإن ما حدث كان بسماح من الله، كنوع من التأديب لشعبه المتمرّد عليه. شعر الناس في فترة الاحتلال الأشوري، أنهم متروكون ومهجورون من الله ومن قادتهم. فمجدُ الربِ قد تركهم. لكن في ذلك الوقت من اليأس والجفاء الروحي، تنبأ النبي إشعياء عن مرحلة جديدة للشعب، مرحلة تضميد للجراح، مرحلة شفاء وغفران، مرحلة تعزية ورجاء. هذه كانت كلمات النبوءة: «عزّوا عزّوا شعبي يقول إلهكم. طيّبوا قلب أورشليم. نادوها بأن جهادها قد كمل. إن إثمها قد عفي عنه. إنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها» (إشعياء40: 21). في هذه النبوءة، يطلب الله من النبي إشعياء والقادة الروحيين أن ينقلوا رسالة تعزية منه إلى الشعب. كلمة عزاء تطيّب قلوب ونفوس الناس اليائسة المتألمة. تعني كلمة «يعزّي»، يقف إلى جانب الضعيف كيما يقويه ويشجعه ويواسيه. فالذي يعزّي ليس النبي أشعياء ولا القادة المدنيين والروحيين، لكن الله الذي يقف إلى جانبنا فنختبر حضوره الفاعل معنا وفينا. يربط النبي إشعياء، بين غفران الخطايا والتعزية. فلا تعزية حقيقية دون اختبار غفران الله عندما نعترف بخطايانا. يقول إشعياء: «لأن إثمها قد عفي عنه». فإذا سمح الله باحتلال المملكة الأشورية لمملكة يهوذا، فقد قاصصها الله ضعفين عن خطاياها. يشدّد إشعياء على ضرورة الاستعداد الروحي، لاختبار تلك المرحلة الروحية الجديدة والمجيدة. يذكر النبي إشعياء صوت سمعه يصرخ في البرية. يقول النص: «صوت صارخ في البرية، أعدّوا طريق الرب. قوّموا في القفر سبيلاً لإلهنا» (إشعياء 40: 3). نحن لا نعرف من كان صاحب الصوت في ذلك الزمن، لكن يقول لنا الرسول يوحنا المعمدان في انجيل يوحنا، أنه هو الصوت الصارخ في البرية، الذي أرسله الله، ليعدّ الطريق أمام المسيح. فعندما سأله الكهنة واللاوييون من أنت، قال: «أنا صوت صارخ في البرية، أعدّوا طريق الرب، كما قال إشعياء النبي» (يوحنا 1: 23). البرّية هي مكان مقفر، لا شعب ولا ماء ولا خضار فيها. رأى مفسرّون، أن للبرية معنى مجازيًا أيضًا. فهي ليست فقط ذلك المكان المقفر والجاف، الذي يضيع فيه الإنسان، فلا يعرف الاتّجاه الصحيح، لكن البريّة هي أيضًا برّية حياتنا، المقفرة الجافة البعيدة عن الله. أنها حياة الجفاء الروحي، والضياع وعدم معرفة الطريق وانعدام الرجاء. أتى ذلك الصوت ليقول، الله سوف يعزّيهم ويقويهم ويشجعهم ويقف إلى جانبهم، لكن عليهم أن يرجعوا اليّ بالتوبة. لن نستطيع أن نختبر تعزية الله إن لم يخترق صوته برية حياتنا القاحلة. فتعزية الله تتحقق لنا عندما نعد طريق الرب ونقوّم في القفر سبيلاً لإلهنا. فحين يخاطبنا الله بقوة روحه القدوس، فإنه يحوّل بريّة حياتنا القاحلة إلى واحة مليئة بالمياه والخضار والرجاء.
يطلب الله من النبي إشعياء أن يعلن خبز التعزي أو إنجيل التعزية من أعلى الجبال. كلّم الله اشعياء، ليقول: «اصعدي يا مبشرة صهيون. ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم. ارفعي لا تخافي. قولي لمدن يهوذا، هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له. هوذا أجرته معه وعملته قدّامه. كراعٍ يرعى قطيعه بذراعه. يجمع الحملان وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات» (إشعياء 40: 9-12).
إن نبؤة النبي اشعياء حول تعزية الله لشعبه، «عزّوا عزّوا شعبي يقول إلهكم»، قد تحقّقت في ولادة الرب يسوع المسيح في عالمنا. فقبل مجيء المسيح، كان يعيش الشعب اليهودي مرحلة طويلة من البرية القاحلة والجفاف الروحي، التي استمرت أربعة مئة سنة. حيث غاب مجد الرب في تلك الفترة. لم يظهر أنبياء ينادون برسالة التوبة، ويدعون الشعب إلى الرجوع إلى الله. كانت مرحلة ضلال وضياع روحي، لم يشعر الشعب برعاية الله وبحضوره معهم والى جانبهم، كيما يقويهم ويعزّيهم. فجاءت نبوءة اشعياء لتنقل خبر الله السار للبشرية، لتبشّر بمرحلة جديد هي مرحلة الرجاء، وبعهد جديد هو عهد النعمة، اذ يبادر الله في ابنه يسوع المسيح الى رعاية شعبه وتفقدهم بمراحمه. هذا ما نقرأه في نبوءة اشعياء حول تعزية الله للشعب. سيأتي الله إلى شعبه كراع يرعى قطيعه. يجمع الحملان أي صغار الخراف. يحملهم ويضمهم بين ذراعيه، ويقود المرضعات لهم. أنها صورة معبّرة جدًا للرعاية، صورة مليئة بالحنان والمحبة والاحتضان، كرعاية الأم لأولادها.
وبالتالي، فإن مجد الرب الذي غاب عن مملكة يهوذا أثناء بطش المملكة الأشورية، سيظهر ثانية في مجد يسوع المسيح. سيظهر ليس فقط مملكة للشعب اليهودي في مملكة يهوذا، لكن في كل مكان ولكل البشر. كما تضمّنت نفس نبوءة إشعياء: «فيعلن مجد الرب، ويراه كل بشر جميعًا» (إشعياء40: 4).
يخبرنا البشير يوحنا، عن اختباره لحضور المسيح، فيقول، «والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا. ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من، الآب مملؤًا نعمة وحقًا» (يوحنا1: 14).
تذكر نبوءة اشعياء أيضًا معلومة هامة، حول القادة الظالمين والمجرمين، أمثال، الملك سنحاريب وغيرهم. تذكر أنهم سيخسرون سلطتهم، ويصيرون باطلًا. قال اشعياء عن الله،»الذي يجعل العظماء لا شيئًا، ويصيّر قضاة الأرض كالباطل» (إشعياء 40: 22). فالملك سنحاريب الذي ظلم وبطش ودمّر وقتل شعب مملكة يهوذا، كانت نهايته قتل ابنيه له. كما تنبأت مريم العذراء عن هذا الجانب الذي رافق ولادة ابنها يسوع، في نشيدها الخالد، قائلة: «صنع قوة بذراعه. شتّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتّضعين» (لوقا 1: 51-52).