غياب المصلحين
الهدى 1233 يوليو 2021
إِنَّ التَاريِخ البَشرِيَّ يُعلِنُ أهميِة الإصلاح ويؤكد علَى الاحتياج المُستَمر لوجُود المُصلحين الَّذين يَقودونَ هذا الإصلاح، فالتغيير المَنشود يَحتاج إلَى مُصلحين أُمَناء أشدَّاء. فلَمْ يَحدث الإصلاح يومًا مِن البدايات أو على القشور فقط، وليسَ هُناك إصلاحًا بلا ثَمن ومثابرَة. كما قال الكاتب ايدن ويلسون توزر: «أعتقد أنَّ الحاجة المُلحة لهذا اليوم ليست مجرد إحياء، بل إصلاح جذري يَذْهب إلَى جذور أمراضنا الأخلاقية والروحية، ويتعامل مع الأسباب بدلاً مِن العواقب مع المرض بدلاً مِن الأعراض. «فهُناك أصوات تتعالى مُطالبة بالإصلاح، ولا أُنكر أنَّ هُناك بعض البدايات نَحْوَ هذا الطَريق. ولَكن يأتي التَساؤل هُنا من خلال رصد الواقع: ماذا حلَ بالمُصلحين في يومنا هذا؟ لماذا تَفشل مُحاولات الإصلاح رُبما قبل أنّ تبدأ؟ وفي هذَا المقال أُقدمْ أربعة أسباب رئيسية تُخبرنا بغِياب المُصلحين الَّذين أعتدّنا أنّ نقرأ عَنهمْ مِن خلال التاريخ. وهذه الأسباب تعتبر نَّقْدًا وتحليلًا مِن أجل فحص الذات، فالنَّقْد هو أول أداة بناء عرفها التاريخ.
أولًا: مِيوُعة النظرية. ثانيًا: تَجاهل الحقائق. ثالثًا: إغْراء المكانة. رابعًا: التَوجه نَحوَ ما يَجذب الجمهور.
أولًا: مِيوُعة النظرية.
لا خِلاَف علَى أهمية وَجود النظريات المختلفة حول قَضِيَّة ما أو هدف ما، ولكن مِيوعة النظرية لدى البعض هو أمر مرفوض لأنه لا يقود لهدف معين. بمعنَى أنَّ الذين يَدعونَ إلى الإصلاح أو التغيير يَقعون في فخ كُلّ النظريات مَقبولة ولا ترجيح لأيّ منهم! فيأتي أحد مُدَعي التغيير ويُقدم نظريات عديدة عن قضية ما أو عدة قضايا ولا نجدهُ ينتمي لأيّ نظرية منهم بصورة مباشرة، ولا يُدعم واحدة علَى حساب الأُخرى. ومِن هُنا أصبح المُصلح مجرد سارد للنظريات بلا هَدف وبلا رؤية، فالسؤال هُنا ماذا قدمتَ كمُصلح! مثال علَى ذلك: نظرية الخلق، فأنا أعرف جيدًا أنَّ هُناك ما لا يَقل عن أربع نظريات عن الخلق: مَن يرفض، وَمن يؤيد، ومَن يأخذ موقف المحايد، وَمن يرفض الكل. ماذا قدمتَ تجاه هذه القضية إذا قمت فقط بالسرد! لذلك إنّ لَم تُدعم نظرية تراها كمُصلح أنها ستُغير في المجتمع وتُحدث الإصلاح فماذا قدمت من الأساس! فعِندَمَا نَنظر للعلماء والمُصلحين نراهمْ تبنوا نظرية معينة، بعد سرد النظريات الأُخرى ودافعوا عنها ومِن ثم بهذه النظرية يَحدث الإصلاح والتغيير. خير مثال على ذلك مارتن لوثر عام 1521م في مجمع وارسب، عندما تمسك بنظرية أو توجه واحد من جهة العقائد الأساسية المسيحية؛ ولم يَسمح بالمساومة على هذا التوجه فقال: «إنّ لَم أقتنع بالكتاب المقدس والعقل فلن أقبل، لأن السُلطات والمجامع الأُخرى التي نعتمد عليها الآن عارضت بعضها البعض، وهنا أقف ولَن أتراجع.» مِن هذه اللحظة كانت بدايات التغيير في وقت لوثر، بأن الكتاب المقدس هو السلطة الأولى والمركزية، ومن ثم لكي نُصلح ينبغي أنّ نؤمن بهذه النظرة. فاليوم ليعود المُصلحين ينبغي أنّ يَقوموا أو بدعم نظرية تقود المجتمع إلى الإصلاح، مُرتكزين علَى المبادئ الكتابية وليسَ مجرد عارضينَ للنظريات.
ثانيًا: تَجاهل الحقائق.
أصبح اليوم شعار الَّذين يَبحثون عن الإصلاح والتغيير هو لا حق ولا حقيقة ولا أحد يعرف الحق! وهذا شيء يجعل مَن يدعو للإصلاح مِن جانب يناقض ذاته ومِن جانب آخر يجعل المجتمع يفقد الثقة فيه وفي قضيته! ومِن ثم يتوقف الإصلاح، فالسعي للحق يقتضي وجود حقائق أولية نسعى مِن خلالها. فالمُصلحون وقت التغيير كانوا يَقفون علًى أرضية صلبة مكونة مِن مجموعة حقائق، مُحاولين من خلالها الوصول للحق الجوهري في رحلة بحث واضحة المَعالم. وهذا ما عبرَ عنه عبد الوهاب المسيري في كتاب رحلتي الفكرية عندما قال: «إنَّ المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيى العقل ولا تميت القلب، تُنمى وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود.» فالإصلاح لا يعني أنّ نضرب بعرض الحائط كل ما هو قائم من حقائق وتراث، ولا يعني غِياب الحق أو استحالة الاقتراب منه. ولكن هو الاعتراف بحقائق أولية تساعدنا علَى البحث عن حق أو خير أعظم، وفي محدوديتنا لن نحتوي الحق بصورة كاملة؛ ولكن هذا لا يمنع معرفة الحق كوجود بلا احتواء كامل له. وهذا الأمر أشار إليه زكريا إبراهيم عندما قال: «لا يمكن أن يكون معنى حرية الفكر/الإصلاح/التجديد/التغيير» هو العمل على بلبلة أفكار الناس أو بث روح الاضطراب والفوضى الفكرية في نفوس الشباب.»
ثالثًا: إغْراء المَكانة.
كثيرًا ما نَظل نُنادي بالإصلاح والتغيير، ولكن عندما يحين الموعد لنمتلك مكانة ما نتوقف عن ما كنا نطالب به أو ندعوهُ التغيير والإصلاح! إما بإدعاء أننا قدمنا كل ما لدينا أو لأنه لا حَل الآن. فالتاريخ لا يذكر لنا مُصلح حقيقي أمين تخلّى عن قضيته التي لأجل الجميع في مقابل مكانة له. ولنا في ذلك نموذج قوي السيد المسيح: فعندما جاء الشيطان للمسيح وحاول أنّ يُقدم له المكانة أو بصورة أدق يُغريه بالمكانة والتَملك، كان رد السيد المسيح حاسمًا بأنَّه «مكتوب، ولا تفاوض علَى الحق الكتابيّ من أجل غرض شخصي». وعندما خدم وعاش المسيح بين الشعب، وبعدما قام بالكثير مِن المعجزات وقَدمَ الطعام الروحي للشعب مِن خلال التعليم، يقول الكتاب بأن الشعب أرادوا أنّ يأخذوه ويجعلوه ملكًا! ولكن المسيح ظلَ مُتَمسك بالهدف الَّذي جاء مِن أجله، فلَم يَقبل المساومة على قضيته مِن أجل المكانة؛ ولَم يجعل أيّ شيءً ذو منفعة شخصية يجذبه بعيدًا عن رسالته. فالمُصلح ينبغي أنّ يحذر من جاذبية المكانة، فهُناك رؤيا يسعى للوصول إليها وهذه الرؤيا هي للخير العام أولًا.
رابعًا: التَوجه نَحوَ ما يَجذب الجمهور.
عندما نَجد أَحَد الكُتاب أو المصلحين «المفكرين» يقُاتل مِن أجل قضية ما، وفي داخل هذه القضية عدة توجهات أُخرى. نجد الكاتب قد يميل بعد طَرح نظريته إلى ما جذب القارئ أو ما أَعجبَ الجمهور، ومِن هنا يفقد قضيته الأساسية التي قد تكون سببًا في بذار الإصلاح، مِن أجل البحث عن رضى الجمهور! ولنا في بعض أنبياء العهد القديم مثالًا: كان الأنبياء مُثقلين بقضية ما بها اللعنة في حالة عدم الطاعة والبركة في حالة الطاعة، وبالرغم مِن أنَّ الشعب كان ينجذب فقط للبركة والنعمة التي في رسالة النبي، إلا أنَّ صاحب الرسالة يظل مُتمسكًا بها دونَ اقتصاص حتى لو رُفضَت مِن الجمهور المراد تغييره. وهذا ما أكد عليه المُصلح جون كالفن عندما قال: «الرخاء يسكر الرجال، فيتمتعون بمزاياهم الخاصة.» فعندما نجد جانب في قضيتنا يجعل الجمهور يمتدحنا قد نهمل القضية الرئيسية متوجهين إلى ما يجعلنا نَشعر بالارتياح الشخصي، لأننا كسبنا الجمهور.
إن العصر الَّذي نَحْيا فيه يَحتَاج لمُصلحين مُهدَّفين، يَعرفُون قضيتهم جيدًا، وإلَى أين يتجهون. وفي طريقهم للبحث عن الإصلاح المنشود، ينبغي عليهم أن يتبنوا نظرية يرونها ستضعهم علَى طريق الإصلاح بلا إهمال للنظريات الأُخرى. فالحقائق الموجودة كبداية يستند عليها كل مُصلح سواء كمقدمات أو نتائج يبغي الوصول لها. فالمُصلح لا تُغريه المكانة، ولكنه يظل يستمد مكانته ورسالته الأعظم من قيادة التغيير. أخيرًا علَى المُصلح أنّ يُقدم للمجتمع ما يبنيه وليس ما يجذبه، فيقدم الطعام المناسب الذي يقودنا للإصلاح. ومِن هُنا سَيعود المُصلح وسَيعود الإصلاح الَّذي نتَطلع له وسَنشهد أزمنة تُماثل ما نسترشد به في التاريخ الأوقات التي نَقلت الإنسان مِن الظلمة إلَى النور.