كلمات وكلمات مارس 2021
الهدى 1229 مارس 2021
رجلان يسيران على طريق الرب، قس وقائد علماني، رحلا عن عالمنا بعد أن أخذا على عاتقهما تقديم رسالة الحب والرجاء التي أتى بها يسوع المسيح والتي في سبيل تحقيقها تألم جسديًا ونفسيًا وروحيًا فطورد باتهامات عديدة، وصلب ومات وقام في اليوم الثالث يحمل معه غلبته على الموت وعلى الغباء الإنساني والعنف، وهكذا صار نموذجًا لكل من يتبعه، بأن يختار صليبًا خاصًا به (صليب التابع) وهو بالطبع ليس صليب المسيح لأن صليب المسيح لخلاص العالم كله ولا يستطيع أحد حمله، وقد أوضح السيد المسيح هذه الفكرة بالقول «من لا يأخذ صَليبه ويتبعني فلا يستحقُني» ومن هنا ندرك مدى جدية وقامة المؤمن في إتباعه للسيد المسيح، وذلك بقياس حجم الصليب الذى يختاره ليتبع المسيح بكامل حريته.
فقدت الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر اثنين من اللذين أخذا حمل الصليب بصورة في منتهى الجدية هما القس عزت عفيفي والعمدة مكرم وليم إبراهيم.
عرفت عزت عفيفي عندما تقدم إلى كلية اللاهوت أثناء عمادتي للكلية في التسعينيات من القرن الماضي، وجذبني إليه وهو شاب لم يتعد العشرين من عمره، يدخل إلى لجنة امتحان المتقدمين للكلية بابتسامة عريضة لم تفارقه حتى فارقنا. كان أقل التلاميذ جلبة وأقلهم حديثًا وأكثرهم جاذبية، كنت دائمًا أدعو كل دفعة في الكلية لنجلس معًا في مكان هادئ أستمع إليهم ونحكى بطريقة غير رسمية بعيدًا عن جو الكلية، وكان واضحًا أنه ليس لدي عزت عفيفي أي شروط عن المكان الذى يمكن أن يخدم فيه، وأنه يترك هذا الأمر بحسب ما يوجهه الله، ورغم قصر الفترة الزمنية التي عاشها بيننا إلا أنه ترك بصمة واضحة ومختلفة في كل مكان خدم فيه، وقد خدم في عدة أماكن متعددة ومتنوعة، خدم في مرسى مطروح وديروط وفي الكويت والإسماعيلية وبنى مزار، وفي كل مكان من هذه الأماكن كانت له بصمة واضحة، عندما كان في الإسماعيلية سيطر الإرهابيون على سيناء وكانوا يقتلون من يصادفهم دون تمييز وينهبون المنازل، فهرب الكثير من العائلات إلى الإسماعيلية، وهنا برز دور القس عزت الذى فتح أبواب الكنيسة للمهجرين، وخدمهم خدمة متميزة، وأحبهم وعشقوه لأنه كان يُقدم مساعداته روحيًا واجتماعيًا وماديًا باتضاع كامل وقبول نفسى وإحساس بآلام البشر. في ذلك الوقت صدر عنه أكثر من تحقيق في الصحافة عن الدور الذي يقوم به، وهكذا استضافوه في قنوات تلفزيونية محلية وعالمية.
تميز عزت بعلاقاته المسكونية مع الطوائف الإنجيلية المتعددة بل ومع الكنائس التقليدية الأرثوذكسية والكاثوليكية، ولقد لفت نظري أن أسقفية بنى مزار قامت بنشر تعزية له رغم قصر المدة التي خدم فيها -في تلك المدينة- نسبيًا بالمقارنة بالأماكن الأخرى، وهذا له معنى عميق وهام ورائع. آخر مرة رأيته فيها كان في مكتب القس رفعت فتحي سكرتير السنودس، وكانت معه فاتن الزوجة الحبيبة، وعندما رأيتها لأول مرة معه وتحدثت معها تذكرت المعادلة التي كان يكتبها لنا طيب الذكر القس إلياس مقار رئيس الطائفة والأستاذ بالكلية وهي: القس = زوجة.
بمعنى أنه عندما نفكر في الزواج لابد وأن نتمهل في الاختيار فالزوجة قس مساعد ترعى زوجها نفسيًا واجتماعيًا وروحيًا وإنسانيًا وعاطفيًا، فإذا نجح الراعي في اختيار زوجته ينجح في خدمته ويصعد إلى القمة وإذا فشل في اختياره فشل في الخدمة ولقد كان من أهم عوامل نجاحه اختياره لفاتن زوجة له.
القس عزت عفيفي
مؤسس الكنيسة الإنجيلية بمطروح
أما عن حكاية خدمة القس عزت عفيفي في مرسي مطروح فهي قصة بطل مرسل من الله أطاع دعوة الله له، فاستخدمه الله مع أسرته في خدمة مثمرة كأول كارز ومرسل لمحافظة مرسي مطروح
فمنذ عام ٢٠٠٥ وحتى ٢٠١٤ وعلى مدار عشر سنوات يحكي عنها تاريخ الكنيسة عن أول مرسل لمرسي مطروح، لزرع أول كنيسة إنجيلية في مطروح جاءت برؤية شخصية من الله بدأ دون مساعدة أحد أو تبعية من آخر، فمحافظة مطروح مترامية الأطراف في الشمال الغربي لمصر، وتمثل 22 % من مساة مصر الكُليّة، وتعداد سكانها الآن تخطي نصف المليون نسمة.
وقد حمل القس عزت رؤيته لمطروح منذ دراسته بكلية اللاهوت الإنجيلية وقد شارك بها آنذاك بعض من زملائه، كان حلمًا يراوده، ورؤية تملأ قلبه، صوت يناديه قائلًا له: «أذهب، أخرج لهذا المكان الجديد، لأناس تحتاج الكرازة والرعاية»، حتى جاء وقت تحقيق الرؤية بعد رعايته الناجحة في كنيسة ديروط ثلاث سنوات، ذهب لمرسي مطروح عام ٢٠٠٥ هو وزوجته وابنه الصغير عهد، دون أن يعلم أحد هناك ودون أن يعلم ما يحمله المستقبل له، لكنه قبل دعوة الله متكلًا على نعمته، وبدأ في التعرف على الناس، وزيارتهم والكرازة لهم، وفتح الرب أمامه أبواب كثيرة، رغم تحديات صعبة ومحبطة واجهته ومحاربات عديدة أخرى، لكنه واجهها بإصرار مع أسرته، فجال يصنع خيرًا، واستخدمه الرب، حتى بدأ اجتماعًا في بيت أحد المؤمنين، ثم في قاعة إحدى الفنادق، واتسعت الخدمة حتى انضم أعضاء للكنيسة وتشكلّت الكنيسة ككيان رسمي من أعضاء في عام ٢٠١٣ ثم تم رسامة أول شيوخ وشمامسة في عام ٢٠١٤ وبتأسيس أول مجلس أصيل للكنيسة الإنجيلية بمطروح أصبحت كنيسة رسمية تابعة لمجمع الدلتا الإنجيلي.
كان يخدم الجميع مسلمين ومسيحيين، أحب الناس فأحبوه، وقد أنجح الرب خدمته ورسالته الشاهدة عن نعمة الله، الجميع في مطروح يتغنون بمحبة ورعاية القس عزت، لقد ترك بصمة وتأثير عميق بين الناس.
وقد نمت خدمة الكنيسة الإنجيلية بمطروح بشكل واسع، حتى أنه أصبح لها مقرًا وبيتًا للمؤتمرات يسع ٥٠ فرد، والكنيسة تمتد، وهكذا اتسعت الخدمة كمًا وكيفًا، والفضل يرجع لنعمة الله أولًا التي استخدمت القس عزت عفيفي، الذي لولا طاعته لرؤية الرب ومثابرته وتعبه في تحقيقها، لما كان لنا كنيسة في مرسي مطروح.
فشكرًا للرب لأجل رجل خدم الله بأمانة، والكنيسة والسنودس بكل إخلاص، وترك سيرة عطرة مباركة، قدوة في طاعة وإتمام ارسالية الله، كخادم لإنجيل الرب يسوع المسيح.
بقدر ما أحببناه وأحبنا، بقدر ما تألمنا لفراقه، لكن ما يعزينا هو أن اللقاء قريب.
خادم في الظل العمدة مكرم وليم إبراهيم
ولد مكرم عام ١٩٥١ بقرية تناغة – مركز القوصية – محافظة أسيوط، وهو حفيد الجد الأكبر العمدة زكى منصور، الذى كان عمدة القرية وشيخ الكنيسة في ذات الوقت.
التحق بالمدرسة الإبتدائية بكوم بوها ومنها إلى الإعدادية ثم الثانوية بديروط. التحق بالقوات المسلحة متطوعًا، بسلاح الدفاع الجوي، وشارك في حرب ١٩٧٣. ولظروف عائلية قدم استقالته وعاد للاستقرار بقرية تناغة.
تزوج من سامية أيوب، في ١٩٨٩. وأنجب بنتين وولدين «دينا ومرنا و فادى ووليم».
بعد استقراره في القرية، سار في طريق العائلة ليمارس مهمته كعمدة رسمي، وقدم العديد من الخدمات لأهل قريته وخارجها، وذلك لما تمتع به من سمعة طيبة وأمانة ومحبة من الجميع من هذه الخدمات مساهمته في تطوير وترميم المدرسة الإبتدائية بالقرية، وكذلك عضويته في لجنة المصالحات وبيت العائلة بالمحافظة، قدم خدمة عامة للقرية قرابة ١٥عامًا، دافع عن حق الفقراء في إدخال المياه النقية لمنازلهم، حيث أدخلتها مرافق الدولة للشوارع الرئيسية فقط، وأعلنت أن من يرغب في تركيب المياه للشوارع الجانبية والتي يسكنها الفقراء يدخلها على نفقته الخاصة، لكن ونتيجة لتدخله تمت الموافقة وتعديل المقايسات لتشمل الشوارع الجانبية.
كان سببًا في التحاق ٦ أشخاص بكلية الشرطة من القرية، كان دائم الحضور في حل المشكلات الصعبة في الجلسات العرفية، حظي بثقة كبيرة لدى الجميع، وقد ظهر ذلك من خلال تحويل بيته ليكون بمثابة خزينة ومستودع أمانات، في إيداع مبالغ مالية، وعقود ملكية أراضي وبيوت، وإيصالات أمانة. لم يتردد أحد في قصده لأي خدمة سواء عامة أو شخصية، عُرف بأنه لم يرد أحد خائبًا دون تقديم الخدمة التي يحتاجها أو يساعده في تحقيقها، كان يتعهد وينجز في إنهاء أي إجراءات خاصة بأوراق المعاشات للأرامل، أو شهادات الميلاد، وتسجيل المواليد…… إلخ
كل هذه الخدمات كلفت العمدة الكثير من المال والوقت فلقد كان متفرغًا تمامًا لخدمة المجتمع، وبناء علاقات مع كافة أطياف المجتمع فقد كان فاعلًا ومشاركًا دون كلل أو ملل.
أما علاقته بالكنيسة فقد بدأت عام ١٩٨٥، حيث استقر بالقرية، وكانت هناك مجموعة أمينة تخدم بالكنيسة فقدموا له كل تشجيع للمشاركة في الخدمة وذلك بمساندة الراحل القس غبريال جيد، والذي كان راعيًا لكنيسة السراقنا في ذلك الوقت، فأضاف له الكثير وقدم له الدعم للاستمرار في خدمته بالكنيسة.
وقد كان مكرم العضو المنتدب الذي يمثل الكنيسة في المجمع والسنودس حتى انتقل.
ومن الجدير بالذكر أن العمدة قام بخدمة الكنيسة بكل حب وتفاٍن، ومن الخدمات التي قام بها بناء مبنى للخدمات أمام الكنيسة في وقت كانت فيه الظروف صعبة، لكنه أعلن مسؤوليته الكاملة عنه حتى الانتهاء من المباني والتشطيب حتى تم تسليم البيت إلى الكنيسة.
كان صاحب فكرة تشكيل لجنة تدير الكنيسة أثناء المباني، وبالفعل تم تشكيل اللجنة وإلى الآن تقوم بإدارة الكنيسة بقيادة الراعي.
قام ببناء قاعة المناسبات والحضانة والجمعية الإنجيلية.
في وقت ندر فيه الحصول على تراخيص للكنائس، حصل العمدة على ترخيص الكنيسة بتناغة، وقد قضى قرابة ثمان سنوات من المعاناة والتأجيل لكنه تحلى بالصبر إلى أن حصل على الترخيص بقرار جمهوري وتجديد لمبنى الكنيسة عام ٢٠٠٨.
ساهم في تأسيس وترخيص الجمعية الإنجيلية بتناغة، والتي قدمت خدمات للمجتمع، بها حضانة متميزة تخدم القرية.
لم يكن العمدة شيخًا مرتسمًا بالكنيسة، لكنه حصل على الدراسات الخاصة بالشيوخ بمجمع ملوي، وفي عام ٢٠١٠ كان قرار الجمعية العمومية تأجيل رسامة شيوخ وشمامسة لأجل سلامة الكنيسة وخضع لهذا القرار.
كان قدوة في الالتزام بطقوس الكنيسة من خلال زواج أبنائه وتعميد أحفاده. كان يدافع بقوة عن الالتزام بالزواج والمعمودية داخل الكنيسة الإنجيلية المشيخية.
كان رجلًا لا يساوم على المبادئ ولا يسمح للعلاقات أن تؤثر على محبته لكنيسته، تمتع بعلاقات كثيرة مع رجال دين وطوائف أخرى، كان يسعى دائًما لاستقرار الكنيسة، ويردد أن قوة الكنيسة في وجود راعى قوي.
كان هذا الرجل نموذجا في احترام رجال الله والخدام، كان يخدمهم بنفسه تقديرًا لهم فالراعي في الكنيسة يحظى برصيد كبير من العلاقات وإرث اجتماعي مع مسلمي القرية وخارجها، لأن هذه الشخصية وضعت الكنيسة وراعيها في المقدمة بكل حب من حيث العلاقات داخل وخارج الكنيسة والقرية. كان دائم الدعم للشباب والتشجيع للشباب والتفكير في مستقبل الكنيسة.
كان متضعًا لا يخجل أن يعمل بيديه، وأن يحمل ويعمل أي شيء لصالح الكنيسة فكان دائمًا يردد أنه شرف له خدمة الكنيسة وهكذا صارت الكنيسة فاعلة وموجودة بالمجتمع.
قال أحدهم عنه «عشت خادمًا للكل كعمدة للبلدة وشيخ للكنيسة لم تعرف الوعظ لم أشاهدك على منبر ولكنك لخصت كل العظات في محبتك وخدمتك للكل الكبير والصغير كنت تهتم بأدق التفاصيل تركت بصمتك في قلوب كل من تعامل معك هنيئا لك السماء»؛ لقد كان هذا الرجل نموذجًا رائعًا قدم الكثير والكثير بحب واجتهاد.
كان جريئًا في قول الحق، ومدافعًا عنه، سنفتقد وجوده وتأثيره وحكمته، ورأيه واهتمامه.
قضى قرابة خمس وثلاثين عامًا في خدمة الكنيسة والمجتمع كلفته الكثير، ولكنه حظي بمحبة وتقدير من الجميع. حقا «الصيت أفضل من الغنى العظيم» (أمثال ٢٢ : ١).
انتقل إلى المجد، يوم الأحد ٢٤ يناير، ٢٠٢١مساءً وشيعته الكنيسة والقرية بأكملها. بالرغم من جائحة كورونا وتخوف الناس إلا أنه حظي بوداع شعبي من كافة أطياف المجتمع سواء في أوقات الصلاة وتشييع الجثمان أو في إقامة سرادق العزاء، وهذا كان تعبير عن محبة الجميع له.
والهدى تشكر القس شادي عفيفي والقس هاني كرم لإمدادنا بالمعلومات الواردة في هذا المقال.