مفاهيم في الوحي (2)
الهدى 1224 أكتوبر 2020
ما هو المقصود «بوحي الكتاب المقدس»؟ وبماذا يتكلم الكتاب نفسه عن هذا الأمر؟ يكتب الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس قائلاً: «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تيموثاوس 3: 16). وكان الرسول بولس يوصي تلميذه تيموثاوس قبل هذه الآية مؤكداً على حقيقة هامة وهي أنه يجب عليه أن يتمسك بالكتب المقدسة القادرة على أن تحكمه للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع، ثم يردف قائلاً أن كل الكتاب هو موحى به من الله، وهذه العبارة الأخيرة «مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ» تأتي في اللغة اليونانية الأصلية «ثيوبينستوس »، وفي اللغة الإنجليزية «Theopneustos»، وهي كلمة مركبة من «Theo» بمعنى الله، «pneustos» بمعنى نفخ، وتركيب الكلمة في الأصل اليوناني يأتي في المبني للمجهول، وعليه تكون ترجمة «موحى به من الله» أي «نُفِخت من الله»، بمعنى أن الكتب المقدسة صيغت بروح الله.
إنَّ الدراسة المتأنيّة لكلمات العهد القديم ترينا أن كتبة الوحي المقدس يستخدمون عبارات «هكذا تكلم الرب»، أو ما يناظرها مثل: «وقال الرب»، و «كانت كلمة الرب إليَّ»، أكثر من 3800 مرة؛ بالإضافة لما يقوله الكتاب نفسه أن هذه الكلمات هي كلمات الله بذاته، «.. وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» (تثنية 18: 18)، أو ما سجله النبي إرميا حين قال: «وَمَدَّ الرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي وَقَالَ الرَّبُّ لِي: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ» (أرميا 1: 9). والسبب الرئيسي لاستخدام كتبة الأسفار المقدسة لمثل هذه العبارات»، إنما لتدل على أن الكلام الذي يتكلم به النبي ليس إلا كلام قد أوحى به الله إليه ليعلنه للبشر.
لذلك فحينما يستخدم الرسول بولس التعبير الذي يصف الكتاب المقدس بأنه نفخة من الله، فهو تعبير قويٌ يريد أن يُفِهم تلميذه تيموثاوس أن الكتاب المقدس هو كتابٌ جديرٌ بالثقة، وهو الذي يستطيع أن يقوده لطريق الخلاص الأكيد، فهو الكتاب المقدس الذي جاء إلى الوجود بنفخة الله، وهو يستمد أصوله من الله، الواحد الحي.
ويستخدم الرسول بطرس ذات الفكرة للدلالة على أن الكتاب المقدس لم يأت بجهد بشر حاولوا أن يصيغوا تعاليمه، أو مفهومه عن الله، بل أنّ هؤلاء البشر هم الذين استخدمهم الله في كتابة الكتاب المقدس؛ وكانوا مسوقين بالروح القدس، فيقول «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بطرس1 : 21). ومعنى مسوقين من الروح القدس، محمولين بالروح القدس، فقد كان الله هو المصدر والينبوع الحقيقي والوحيد لما كتبه كًتَّاب الوحي جميعاً، ومع أنّ الرسول بولس يوضح أنّ الكتاب المقدس هو نفخة الله، فإنّ الرسول بطرس يشرح الطريقة التي جاء بها هذا الكتاب المقدس للوجود، فلقد استخدم الله مجموعة من الناس ليسجلوا جميعاً ما أراد أن يقوله للإنسانيّة، مع قدرته في أن يحفظهم من خلال الروح القدس في أن يكتبوا ما يقوله هو لهم، وقد استخدم الله ما في هؤلاء من وزنات أو ملكات خاصة، ليأتي الكتاب المقدس في صورته الرائعة، ليجمع في أسلوب كتابته بين النثر والشعر، والقصة والأمثال، والتاريخ وغيرها، كذلك نجد أسلوباً راقياً كأسلوب بولس وسليمان، وأسلوباً بسيطاً كعاموس، وبطرس.
وهكذا نرى إن الكتاب المقدس مصدره الله وليس الإنسان، وأنّ الروح القدس هو الذي نفخ به وأخرجه، لذلك نجد أن السيد المسيح حينما جاءه المجرب ليجربه، وبّخه بكلمة الله، قائلاً: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ» (متى 4 : 4)، ومن الجهة الأخرى، فإن الله حين عبَّر عن كلمته استخدم بشراً أحياء، لهم شخصياتهم، وأسلوبهم الخاص المتميز كلٌ عن غيره، فهو لم يستخدم أدوات جامدة لا حِراك فيها، ومع ذلك كانوا مسوقين من الروح القدس ليسجلوا ما أراد الروح القدس أن يسجلوا فجاء الكتاب المقدس كلمة الله، ورسالة محبّته للعالم أجمع.
ومع أن الله هو الذي أوحى بالكتاب المقدس وحياً كاملاً ومطلقاً، إلا أنّ «الوحي الكامل المطلق» لا يستلزم أن تكون كل عبارة أو فقرة في الكتاب المقدس هي تعبير عن الحق، أو تمثل الحق الكامل؛ فمثلاً الكلام الذي تكلَّم به الشيطان عبر الحيّة وضلل به حواء، حين قال لها: «هل صحيح أن الله قال: لا تأكلا من أي شجرة في الجنة؟ فقالت المرأة للحية: «بل نأكل من ثمر شجر الجنة، أما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه، ولا تلمساه، وإلا تموتا.» فقالت الحية للمرأة: «لن تموتا! فإن الله يعرف أنه يوم تأكلان منه، تنفتح أعينكما فتصيران مثل الله تعرفان الخير والشر.» (تكوين 3: 2-6)؛ قد سجله الوحي المقدس، لكنه ليس هو الحق؛ كذلك ما اقترحه بطرس على السيد المسيح، حين قال له: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!» (متى 16: 22)؛ أو ما فعله داود حين قتل أوريا الحثي وما فعله مع زوجته بثشبع لاحقاً (2صموئيل 11: 2 – 27)؛ أو الأفكار الخاطئة لأصحاب أيوب (أيوب 7:42-9)؛ أو أكاذيب بطرس عند إنكاره للمسيح (مرقس66:14-72). فرغم أن كل هذا وغيره مُسجل في الكتاب المقدس فهو مُسجلٌ بالوحي، وتسجيله في الكتاب المقدس تم بوحي من الروح القدس، إلا أن هذا لا يُعبر عن كون هذه الأحداث أو الأفعال حق يجب إتباعه، بل سُجلِت لكي تكون عبرة لنحذر منها ولنتعرف على فكر الله من جهتها.
كما أنّ الاعتراف بأنّ الكتاب موحى به وبكلماته «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بطرس1: 21)، ليس معناه أنّ الوحي الحرفي كان مجرد إملاء أو عملية ميكانيكية. وعندما نقول بالوحي الحرفي فإن المقصود هو أن الروح القدس سيّطر على استخدام الكاتب للكلمات التي كتب بها الأسفار المقدسة. وطبيعة الوحي لا يمكن إدراك دقائقها، فهي بمثابة سر من أسرار الله.
في العدد القادم سنستعرض معجزة الوحي في المسيحية.