الاختيار 3 المعنى والأسس الكتابية
الهدى 1250-1251 يوليو وأغسطس 2023
في العددين السابقين شرحنا معنى الاختيار الإلهي، وذكرنا أنه مؤسس على أسس كتابية ذكرنا منها: إنه مؤسس على النعمة المخلصة، وأنه مؤسس على سلطان الله، وأنه بحسب حكمته ومسرة مشيئته.
وفي هذا العدد نستكمل موضوعنا:
سادساً- اعتراضات تبدو منطقية في نظر المعترضين :
تواجه عقيدة الاختيار اعتراضات كثيرة من كثيرين من مؤمنين وغير مؤمنين، وجميع هذه الإعتراضات مردود عليها، وأهم تلك الإعتراضات هي:-
أ-الله ظالم وغير عادل : الرد كالتالي:
يقول الرسول بولس: «بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رو3: 22-23 انظر أيضاً مز14: 3، 51: 5).
ومن أقوال الوحي في الكتاب المقدس-وبحسب الإختبار البشري لجميع البشرفي كل زمان ومكان- نرى أن الجميع زاغوا وفسدوا معاً، وصار على الجميع حكم الموت والطرح في جهنم (الجحيم) حكماً عادلاً ونزيهاً، فمن لم يختره الله في المسيح فالعدل قائم عليه وهوالهلاك في الجحيم، وهذا ما يقوله داوود في مزموره:» إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ.»(مزمور 51: 4).
• ولدى الله لكل انسان معترض على قضائه-بعدم اختياره- لديه فيلم كامل(صوت وصورة)إن جازالتعبير، بكل أعماله الشريرة النجسة قولاً وفكراً وعملاً تحكم عليه بالموت والهلاك الأبدي حكماً عادلاً. بل في رسالة رومية وصف مروع ومفزع عن مدى شرالإنسان على الأرض، فيقول الوحي:
«لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ. …» (رو1: 18 -الخ)، انظر أيضًا رو3: 9-18).
• الله عادل في قضائه واختياره وليس عنده ظلم البته، يؤكد ذلك صراحة بولس الرسول في رسالة رومية (9: 11-20).
• ويقول الوحي أيضاً: «لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالإستفامة» (مز98: 9). فليس من حق أي انسان وليس لديه أن يقول لله: لماذا جئت بي إلى الجحيم ههنا؟!
«…. لكي يستد كل فم ويصيركل العالم تحت قصاص من الله» (رو3: 19).
ب- أين حرية إرادة الإنسان في الاختيارالإلهي؟ :
• نعم إن الله أعطى للإنسان مساحة من الحرية المحدودة، لكن إرادة الإنسان الحرة لا ولن تخرج عن إطار وخطة الله وقضائه الحكيم، ويذكر الفاضل القس الياس مقارفي كتابه إيماني عدة تشبيهات ليؤكد توازن إرادة الله مع إرادة الإنسان، فهماأشبه بدائرتين إحداهما صغرى(وهي البشرية) والأخرى كبرى (وهي الإلهية)، والدائرة البشرية (الصغرى) موضوعة في داخل الدائرة الكبرى(الإلهية)، أو مثل ترس من تروس الجلات أو الساعة يتعانق أويتشابك مع ترس آخر، كلاهما يسير ويندفع. (إيماني: القضاء المتوازن ص200). ويقول أيضاً: «مطلوب من الإنسان أن يستعمل حريته وإرادته ومسئوليته في دفع الشر بكل ما يملك من قوة…. أن يعمل الإنسان بكامل حريته كما لوكانت إرادته هي الأول والآخر، كما أنَّ له أن يستسلم بعد ذلك إلى ما يحدث من نتائج باليقين الخالص والثقة الكاملة كما لوأن الإرادة الإلهية هي وحدها التي تعمل كل شيء، وتبتلع وتسيطرسيطرة تامة على كل ما يمكن أن تفضي أو تنعكس عنه الإرادة البشرية» (إيماني: القضاء المتوازن ص200).
• وعن مسؤولية الإنسان يقول الوحي: «إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ.»(فيلبي2: 12-31).
• ومن ناحية أخرى، منذ سقوط آدم سقط الجنس البشري كله من كل قداسة وبر، وتشوهت صورة الله فيه وتكبلت إرادته بقيود الخطية، وساد الفساد الكلي في قلب الإنسان (انظر مز14: 3، 51: 5، إش53: 6). فصارت إرادة الإنسان كلها ميول ورغبات شريرة فاسدة أنانية تنحدر به بقوة نحو هاوية الجحيم. فاختيار الله العجيب قائم وفعَال وهو مطلق غير مشروط بأي استحقاق في الإنسان وغير مقيد بحرية إرادة الإنسان في القبول أو الرفض!!
ج- اعتراضات باستخدام آيات من الكتاب المقدس :
أهم تلك الآيات الكتابية قول الرسول بطرس في رسالته الأولى: «بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى الْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، الْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ.» (1بط1: 1-2). ومن ناحية منطقية لا يمكن الفصل بين علم الله السابق وتدبيره الأزلي، فهذا الفصل بينهما (أي العلم السابق والتدبير) هو لدى البشرفقط، لكن بالنسبة لله فهذا الفصل غير موجود.
+ والمقصود «بعلم الله السابق» -بحسب معظم المفسرين– الترتيب أوالتخطيط أو التنظيم، وبنفس المعنى في قول الرسول في رسالة أفسس: «سبق فعرفهم» أي سبق فدبر ونظم. (إيماني ص199). وكلمة «علم» ترادف في الأصل اللغوي كلمة «المشورة أو التدبير أو التنظيم»، وقد جاءت في سفر الأعمال حيث قيل عن ترتيب الفداء الإلهي في الصلب: «هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ.» (أع2: 23). «ولا يقف هذا الأمر(التدبير) موقف المراقب أوالمنظم بل يمتد الأمر إلى ما هوأعظم وأجل وأبهى إلى البذل والفداء»(إيماني ص200). يقول أيضاً القس الياس مقارفي كتابه:»وهكذا يتضح أن قضاء الله (ويشمل اختيارالمؤمنين) من أوله إلى آخره معين ومرتب من الله، الله وحده» (ص200)
+ آيات كتابية أخرى تستخدم في الاعتراض على عقيدة الإختياروالتعيين المسبق: «أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ،»(تث30: 19) « ولما كان في أورشليم في عيد الفصح، آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع، لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع»(يو2: 24) « الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ.»(1تي2: 4) «هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي.»(رؤيا3: 20)
الرد كالتالي: الدعوة الكرازية ظاهريًّا هي للجميع، وهذه هي القاعدة العامة في الكرازة، فالدعوة موجهة للجميع، لكن الذين يقبلون الدعوة ويخلصون هم فقط جميع المختارين، وليس جميع المكروزلهم « لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» (مت20: 16، 22: 14، لو13: 24)، انظرأيضاً: (لو10: 22،مت11: 27، يو6: 64-65).
المختارون هم عطية من الله الآب للابن (يسوع المسيح)، وهم فقط الذين يقبلون الدعوة ويخلصون، يقول السيد المسيح:» كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا.» (يو6: 37).
سابعاً- نتائج الإيمان بعقيدة الاختيار والتعيين المسبق :
1- يقين الخلاص : اختيارالله لنا والإيمان بهذه العقيدة ينتج عنه إيماناً راسخاً لا يتزعزع ويقيناً قوياً بخلاصنا وبالرجاء الأبدي، ويجعل المؤمن أن يحتمل بصبروسروركل ما يتعرض له من ضيق وألم واضطهاد حتى الموت. فلا شيء يفصله عن محبة المسيح. (رومية8: 35-39) ويقول أيضاً: «لأني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادرأن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم» (2تي1: 12).
2- الضمان الأبدي: وتؤكده الشواهد الكتابية التالية: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي.» « حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهَلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. (يوحنا10: 27-29، 17: 12). «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ.» (عب10: 14).
• أما بخصوص ما ذكر في رسالة العبرانيين (6: 4-8)، فيرى بعض المفسرين أن من يتكلم عنهم الوحي في تلك الآيات هم أناس ارتدوا عن الإيمان الذي لم يعرفوه أصلاً، ولم يختبروه في قلوبهم. ويرى مفسرون آخرون أن المقصود من تلك الأعداد الكتابية هو مجرد التحذير فقط من السقوط والارتداد. (انظر تفسير القس غبريال رزق الله في تفسيره لتلك الآيات. ويؤكد ذلك قول الرسول في الرسالة نفسها: «وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ النَّفْسِ.» (عب10: 39).
• وبكل تأكيد يتضمن ويشمل الاختيار الإلهي المطلق غير المشروط من يؤمنون بهذه العقيدة ومن لا يؤمنون بها من أبناء الله في الكنيسة المنظورة حتى يفاجأون بصحة هذه العقيدة عند ملاقاة رب المجد في السماء!!
3- الاختيار الإلهي يعمق الاختبار الروحي لدى المؤمن: الاختيار الإلهي اختبار شخصي عظيم لدى كل مجدد مؤمن بهذه العقيدة، فتملأه بالسلام والطمأنينة، وتقوي شركته الروحية مع الله. (رو5: 1-5).
+ لو لم يوجد اختيار إلهي لهلك كثير من بسطاء وجهلاء البشر، لذا يقول الرسول بولس في أسلوب قوي: «بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ.»(1كو1: 27-29)، ولا يعني هذا أن الاختيار الإلهي لا يمكن أن يصل الفئات العليا من الناس، فالاختيار الإلهي بعمل الروح القدس قد يعمل في قلوب ملوك ورؤساء وعلماء…..الخ فيغير حياتهم تغييراً جذريًّا، وقد يعمل عملاً عجيباً في خلاص أعتى المتعصبين وأعتى المجرمين ضد الإنجيل كما حدث مع شاول الطرسوسي والذي أصبح رسولا عظيماً للإنجيل.
+ شكراً لله الذي اختارنا في المسيح، بالرغم من عدم استحقاقنا، وبالرغم من ضعف وقصور ادراكنا- كبشر محدودين- لاستيعاب كل المفاهيم العميقة والأسرار العجيبة لعقيدة الإختيار الإلهي والتعيين المسبق للمؤمنين.
+ حقاً عندما نختبر نعمة الله في اختياره لنا فإننا ندخل إلى قدس الأقداس، وندرك حقاً كم تفاضلت نعمته علينا لأناس لا يستحقون. فشكراً لإلهنا ومخلصنا وفادينا الرب يسوع.