النضج المسيحي الحاجة الكبرى
الهدى 1224 أكتوبر 2020
من الأهداف الرئيسية لخدمة الكنيسة من خلال الوعظ والتعليم ونشر الكلمة، خلق جماعة مسيحية وكنيسة ناضجة، تعيش إيمانها وتلعب دورها الروحي والنفسي والاجتماعي، في حياة الناس والمجتمع.
يشبّه كتّاب العهد الجديد، مسيرة الحياة المسيحيَّة بمسيرة حياة الإنسان، الذي يولد طفلًا في العالم، ثم ينمو فينتقل من مرحلة الطفولة، وبعدها يتابع نموه وصولًا إلى سن النضج، فيصير انسانًا ناضجًا يتصرف بمسؤولية في سلوكه وعلاقاته مع الأخرين. هكذا أيضًا يجب أن تكون مسيرة حياة المؤمنين والمؤمنات، التي تبدأ بالتعرف على المسيح بالإيمان، فيما يُسمى الولادة الثانية، أو الولادة الروحية من الله بالروح القدس. ثمّ ينمو كطفلٍ ويكبر ويستمر في نموه، إلى أن يصل لمرحلة النضج المسيحي.
لكن للأسف، منذ وقت الرسل، ولا سيّما في أيامنا هذه، تتعثّر مسيرة النمو الروحي، لدى الكثير من المسيحيين. فبعد أن يختبروا الولادة الجديدة بالإيمان، ويكتسبوا بعض المعرفة الروحية، يتعثرون في مسيرة النمو، ولا يصلوا إلى مرحلة النضج، بل يظلون أطفالاً في إيمانهم وسلوكهم. هذه الحقيقة المخزية، واجهها الرسول بولس وكاتب سفر العبرانيين، بثلاث رسائل إلى كنائس تعاني، من أزمة الطفولية، وعدم النضج المسيحي.
ولكن، قبل التعرف على حالات الكنائس الثلاث، لا بد لنا أن نتذكر ما هي سمات الطفل؟ من سمات الطفل الرئيسية ما يلي: تناول الحليب وليس الطعام القوي. عدم اكتسابه للمعرفة، وعدم نمو قدراته العقلية للاستيعاب، بسبب صغر سنه. عدم الاعتماد على نفسه، بل يحتاج لمن يعتمد عليهم. التمركز حول نفسه، وعدم المشاركة مع أحد. القيام بتصرفات وحركات غير مسؤولة.
الكنائس الثلاثة هي: أفسس، وكورنثوس، والعبرانيين. وهي عانت من مشاكل طفولية، تمثلت في عدم النمو في عدة جوانب، منها: عدم النمو في معرفة الكتاب المقدس، وعدم النضج في التصرفات، وغيرها من الأمور. فبعد أن صرف الرسول بولس في كنيسة أفسس، ثلاث سنوات في التعليم، وتنمية المعرفة الروحية والأخلاقية لأعضاء الكنيسة، الأمر الذي ظهر من خلال قوله لهم، «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ اللهِ. « (أعمال الرسل 20: 27). لكنه بعد غيابه عن الكنيسة لفترة من الزمن، وجد أنهم لم ينموا في إيمانهم، ولم يتعمقوا ويثبتوا في معرفتهم بالتعاليم والعقائد المسيحية، بل بقوا أطفالاً في الإيمان والمعرفة. قال لهم في رسالته، «كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ « (أفسس 4: 14-16). فالمشكلة التي يعالجها بولس في أفسس، كانت تساهل بعض أعضاء الكنيسة، في قبول وإدخال تعاليم غريبة غير مستقيمة الرأي إلى الكنيسة، «محمولين بكل ريح تعليم»، مُستخدَمون من أناس ماكرون، لا غاية لهم سوى تضليلهم عن حقيقة الإيمان المسيح. تلك التعاليم الغريبة، سببت الضياع والبلبة والاضطراب، وعدم الثبات في المعرفة الكتابيّة والروحيّة التي علّمهم الرسول بولس إياها، لذا يصف الرسول حالتهم الروحية والمعرفية، بحالة الطفولة التي توقفت عن النضج، ولم يخجل أن يدعوهم بالأطفال في الإيمان المسيحي، «كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً» (أفسس4: 14).
أمَّا مشكلة كنيسة العبرانيين، فقد كانت مشابهة لكنيسة أفسس، من حيث عدم النمو في المعرفة الكتابية، لكنها كانت أكثر تعقيدًا وتأزمًا. كتب كاتب الرسالة إلى العبرانيين، قائلاً: «اَلَّذِي مِنْ جِهَتِهِ الْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا، وَعَسِرُ التَّفْسِيرِ لِنَنْطِقَ بِهِ، إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي الْمَسَامِعِ. لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ، وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى اللَّبَنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ، وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» (عبرانيين 5: 11-14). إن خيبة أمل كاتب الرسالة الى العبرانيين كبيرة جدًا. فبعد أن كان قد تعرّف أعضاء الكنيسة، على الايمان بالمسيح منذ زمن طويل، «لسبب طول الزمان». فقد توقّع أن يرى أعضاء كنيسته، قد قفزوا قفزة كبيرة في معرفتهم الكتابية واللاهوتية، بل توقع ان يراهم، قد صاروا معلِّمين للإيمان المسيحي. لكن للأسف لوجد أنهم، لم يتعمقوا، ولم يتقدّموا لا في المعرفة ولا في الايمان. بل على العكس، تراجعوا وأصبحوا محتاجين ثانية، لمن يعلّمهم الأمور البدائية والأساسية للإيمان، يسميها بولس، «أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ» (عبرانيين 5: 11). فحواسهم المسيحية، لم تتمرن ولم تتدرب بعد على التمييز بين الخير والشر. وأسنانهم ومِعَدهِم وأذهانهم لا زالت تتناول الحليب، ولم تتطور بعد، لتقبّل ما يسميه «الطعام القوي»، أي العقائد المسيحية الصلبة، مثل عقيدة الثالوث المقدس، وعقيدة طبيعتي المسيح الإنسانية والإلهية، وغيرها من العقائد المسيحية الأساسية. لهذا دعا كاتب العبرانيين أعضاء الكنيسة إلى ترك حياة الطفولة في المعرفة والإيمان، وبالاعتماد على المسيح، في مواصلة النمو والتقدم وصولًا إلى حالة النضج، قائلاً لهم: «لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح، لنتقدّم الى الكمال».
أما مشكلة عدم نضج أعضاء كنيسة كورنثوس فهي بالدرجة الأولى سلوكية. عدم النضج في السلوك والتصرفات. فتصرفات الأعضاء طفوليّة مشينة، تسيء إلى شهادة الكنيسة أمام الله، وأمام نفسها، وأمام المجتمع. كتب بولس إلى كنيسة كورنثوس قائلاً: «وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ سَقَيْتُكُمْ لَبَناً لاَ طَعَاماً لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ بَلِ الآنَ أَيْضاً لاَ تَسْتَطِيعُونَ» (1كورنثوس 3: 1-2). فالذين يأكلون اللبن، هم الأطفال، الذين لم تنم أسنانهم بعد، ولم تستعد معداتهم لتقبّل الطعام وهضمه، لأنهم لا زالوا أطفالًا.
إحدى الأزمات التي كانت تعاني منها كنيسة كورنثوس آنذاك، والكثير من كنائسنا اليوم، أزمة الانشقاقات والانقسامات، والتحزبات وتعدد الولاءات، الأمر الذي سببه انتشار الحسد والكراهية بين أعضاء الكنيسة الواحدة. يذكر بولس الأسباب التي أبقت الكنيسة في مرحلة الطفولية الإيمانيّة، قائلًا، لهم، «فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟» (1كورنثوس 3: 3). لقد قيّم بولس حالة كنيسة كورنثوس فوجد أنها طفوليّة في الإيمان، وتوقف عن النمو، وعدم بلوغ مرحلة النضج المسيحي.
أحبائي القراء، إن واقع كنائسنا الأليم، بل واقعنا كمسيحيين بشكل عام، هو أننا لا نزال عالقين في مرحلة الطفولة، ولم نبلغ سن النضج. لهذا فإن الرسالة التي يحملها إلينا الرسول بولس، الذي عالج موضوع الطفوليّة في الإيمان. يتلخص بما يلي: الرجوع إلى الله بالتوبة والإيمان، كي ما يجددنا ثانية، لنصير مشابهين لصورة مجد المسيح؛ العودة الى قراءة بل دراسة الكتاب المقدس يوميًا، والتعمق في معرفة إيماننا وعقائدنا المسيحية، لكي نثبت في إيماننا، ونميز الخير من الشر. لنسلك بالقداسة والحق كل أيام حياتنا، حتى يرى الناس أعمالنا الحسنة ويمجدوا أبانا الذي في السماوات