النعمة المدهشة في قيامة المسيح
الهدى 1209 مايو 2019
في مَلْحَمة «جلجامش» الشَّهيرة، والتي كُتبَت في الألفية الثانية قبل الميلاد تقريباً، يسأل البطل السومري «جلجامش» نفسه: «هل هناك طريقة لأتخلَّص بها من الموت؟» وذلك بعد أن فجعه وخيّب أمله موت صديقه الحميم «إنكيدو».
لم يتقبَّل صدمة موت صديقه، لهذا بحث عن طرقٍ تساعده على حماية نفسه من مصير الموت المحتّم. وقد قيل له إنَّ هناك عُشْبة تنبت في بلادٍ بعيدة عليه أن يقوم برحلة طويلة وشاقة للوصول إليها. فلَمْ يُبْدِ أي تردُّد، بل قام بتلك الرحلة الطويلة حتى بلغ المكان المنشود. إلاَّ أنه ولسوء حظه وتعاسته المتجددة لم يعثر على العُشْبة، إذْ قيل له إنَّ الأفعى أكلتها وأنَّ هذه النبتة لم تعد موجودة. عندها أدرك عجزه أمام الموت، إذْ لم تفلح كل قوته وقدراته في منحه الخلود.
وعلى العكس من هذه القصة تخبرنا أخبار الفصح السارة أنَّ ما عجزت الإنسانية عنه عبر التاريخ قد حقَّقه الله في الفصح. هذا ما قاله يسوع لتلاميذه (لوقا 18: 27) «غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله». لقد فشل «جلجامش» وكافة البشر عبر التاريخ في محو الموت وإعلان الحياة. أما الرسول بولس فيقول لنا، خلافاً لهذا، ما قاله لتيموثاوس في رسالته الثانية بأنَّ الله خلّصنا ودعانا للقداسة لا لشيءٍ فعلناه بأنفسنا، بل بحسب مشيئته ونعمته. لقد مُنحَت هذه النعمة لنا قبل إنشاء العالم، إلاَّ أنَّها لم تتكشَّف أمامنا إلاَّ مع ظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأعلن الحياة وعدم الزوال من خلال الإنجيل (2تيموثاوس1: 9-11)
تبيّن قصة الفصح في إنجيل متىّ أنَّ الخطاة حاولوا تعويق الله ومنع قيامة ربنا يسوع المسيح. فيخبرنا الكاتب أنَّه بعد أنْ صُلبَ يسوع ومات ودُفن في القبر، تذكّر رئيس الكهنة والفريسيون أنَّ يسوع قال حين كان حياً إنَّه سيقوم بعد ثلاثة أيام. تحدث يسوع عن قيامته مرَّة واحدة، وإنْ بغموض، في متىّ حين قال ‹›وكما كان يونان النبي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ.» (متى12: 40) . إلاَّ أنَّه يبدو أنَّ الجموع فهموا أنه يتحدث عن قيامته هو. لهذا، ولكي يَحُولوا دون قيامته، اتَّخذ رئيس الكهنة كل الإجراءات العسكرية والسياسية بالاتفاق مع بيلاطس، الذي قال لهم: «عندكم حراس إذْهبوا واضبطوه كما تعلمون» ثم يتابع النص «فمضوا وضبطوا القبر بالحرَّاس وختموا الحجر» (متى 27: 65 – 66).
ولكن، في الفصح فشلت كل الجهود البشرية والإجراءات العسكرية والسياسية المتَّخذة لمنع قيامة المسيح. ففي فجر يوم القيامة، نزل ملاك الرب من السماء ودحرج الحجر، فارتجف الحراس بشدة وتجمدوا كالموتى من شدة الخوف. فقال الملاك للمريمَتَيْن الَّلتَيْن جاءتا باكرًا إلى القبر: «أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لإنه قام كما قال. هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعا فيه. وإذْهبا سريعا وقولا لتلاميذه إنه قام من الأموات.» (متى 28: 5-7). نعم، لم تعتمد قيامة المسيح على جهود البشرية الخاطئة، ولم تعتمد على ولاء التلاميذ وثقتهم في وعود المسيح أو حفاظهم عليها، خاصة وعده بقيامته. يسجل إنجيل متىّ العديد من المواقف التي يقول فيها يسوع لتلاميذه إنَّ ابن الإنسان سيموت ويقوم في اليوم الثالث. لكنّ ذاكرتهم، إمّا أن تكون قد خانتهم أو إنهم لم يفهموا ما كان يقول، مع أن رئيس الكهنة قد فهم ما قاله يسوع كما يبدو.
لننظر إلى موقفين أشار فيهما يسوع إلى قيامته أمام التلاميذ:
(1) يسجل (متىّى 16: 21): «مِن ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه إنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم». هنا يبدو أنَّ التلاميذ فهموا أنه يتحدث عن موته وليس عن قيامته. إذْ حين أنهى يسوع قوله السابق، أخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك يا رب لا يكون لك هذا (متّى 16: 22).
(2) الموقف الثاني (متّى 17: 22-23) أثناء تواجدهم في الجليل، يقول يسوع لتلاميذه: ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم. ويسجل الكاتب ردة فعل التلاميذ بعد سماعهم ما قال يسوع إذْ يقول إنهم «حزنوا جداً».
بالرغم من أنَّ يسوع تحدث عن ابن الإنسان الذي سيموت ويقوم، لا يبدو أنَّ التلاميذ حفظوا ما قاله أو فهموه. يقول لنا المصلح «مارتن لوثر» إنَ الخبرة علمته عن حنكة الذاكرة البشرية في حماية غرورنا وخطيئتنا. تكشفت هذه الخطيئة بوضوح عند اعتقال يسوع وتسليـمه لبراثــن الموت. يقــول (متّى 26: 56) إنه حين اعتقل يسوع «تركه التلاميذ كلهم وهربوا» نعلم أنَّ «يهوذا الإسخريوطي» خانه، وبطرس أنكره، أما التلاميذ العشرة الباقون فهربوا. لم يعتقد أيٌّ منهم أنه سيقوم من القبر، لهذا تفرَّقوا يأساً وخوفاً وبخيبة أمل. تشهد قيامة يسوع المسيح عن الضلال التام للطبيعة البشرية والتي نراها في سلوك رئيس الكهنة وفي ضعف ذاكرة التلاميذ وعجزهم عن فهم وعد الحياة الإلهي لنا. لو أنَّ قيامة الرب قد تأسست على ثقة التلاميذ وفهمهم، لبقي يسوع في القبر إلى الأبد وزالت المسيحية بعد موته، كما يؤكد بولس الرسول في (١كورنثوس 15: 17) «إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم.›› نعم، قد يكون إيماننا باطلاً لو أننا اتكلنا على الجهود والمصداقية البشريتَيْن. ولكن، شكرا لله لأنَّ قيامة المسيح شهادة عن نعمة الله المدهشة التي لا تتأسَّس على مزايانا بل تتحقَّق بالرغم من خطايانا وذاكرتنا الفاشلة وعجزنا عن فهم عطية الحياة الإلهية لنا. لقد انكشفت هذه النعمة، كما يقول بولس، بظهور مخلصنا يسوع المسيح، الذي أبطل الموت وأعلن الحياة.
لقد تحققت نعمة المسيح المدهشة من خلال تشكيل جماعة إيمان جديدة هي جماعة القيامة. يدوِّن إنجيل يوحنا حدث القيامة ومنح الروح القدس في يوم واحد، أول أيام الأسبوع. فيقول في الأصحاح العشرين أنَّ الرب ظهر عشية يوم القيامة لتلاميذه ونفخ فيهم قائلاً «خذوا الروح القدس». هكذا بدأت جماعة القيامة والإيمان التي لا تشتق هويتها وحياتها وحضورها من قدرات بشرية أثبتت عجزها وإنما من ربها المقام، الذي يدعونا لنثق في غفرانه لخطايانا والذي يدعونا لمعرفة واختبار قوة قيامته.
عندما قابل يسوع المريمتَيْن عند القبر، قال لهما: ‹›إذْهبا وقولا لأخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني» (متّى 28: 10). قال أحدهم: (أن تغفر يعني أن تنسى). لقد ظهرت نعمة يسوع المدهشة في غفرانه المدهش لتلاميذه ونسيانه لكل مواقفهم السيئة التي ظهرت يوم الجمعة العظيمة. لم يقوِّم غفران يسوع تلمذة التلاميذ فقط، بل جعل منهم أخوة معه في عائلة واحدة أيضًا لم يقل يسوع للمريمتَيْن إذْهبا وأخبرا تلاميذي، بل «إذْهبا وأخبرا أخوتي» بأنني أشتاق لهم وأحبهم، ويقول يسوع لنا: أشتاق لكم لأنني أحبكم. هذه هي جماعة الإيمان التي يدعونا الرب للانضمام بالروح القدس إليها ونحن نحتفل بالفصح. إنها جماعة أخوة وأخوات، جماعة محبة، جماعة لا تعتمد على امتيازات البشر وبرّهم الذاتي، بل جماعة تثق بنعمة الله المدهشة غير المحدودة… المسيح قام، حقاً قام.