كنيستي والثورة
الهدى 1249 مايو ويونيو 2023
مرت عشر سنوات على ثورة 30 يونيو 2013م، وقد كان المطلب في ثورة 25 يناير 2011م، «عيش.. حرية … عدالة اجتماعية»، ولما صار الحال من سيء إلى أسوأ، خرج المصريون من جديد ليثوروا ثورتهم في 30 يونيو 2013، لا في ميدان واحد فقط (ميدان التحرير)، بل في ميادين وشوارع كثيرة في ربوع مصر، وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على أن ثورة 30 يونيو كانت أكثر وعيًا، وأكثر امتدادًا لدى الشعب المصري، حتى إن السيدة البسيطة التي تجلس على عتبة بيتها مع جارتها أصبحت تشارك جارتها في شؤون البلاد، والعامل البسيط يشارك زميله في نفس الصدد.
نزفت مصر دمًا غزيرًا في ثورتي 2011 و2013، وعانت كثيرًا من محاولة اغتصابها وتمزيق جسدها ممن كانت لهم أغراض شخصية على حساب الوطن، وتباينت ردود أفعال المواطنين تجاه ذلك، لذا شبهها أحد الكُتَّاب بمجموعة من الشباب يحاولون التحرش بفتاة (مصر)، بينما تتباين ردود أفعال المارة، فمنهم مَن هو أردأ من هؤلاء الشباب، فانضم إليهم ليشاركهم (الانضمام)، ومنهم من تضايق على ما يحدث، لكن ما باليد حيلة! (التعاطف)، ومنهم من أخذته حماسته ليحاول الفتك بهؤلاء الشباب، لكنه سُحِقَ سريعًا (الحماسة)، ومنهم من وقف يشاهد ليرى ما سيحدث (المتفرج)، ومنهم من سخر من الفتاة (السخرية)، ومنهم من حكم على هذه الفتاة بالتسيب، وأنها تستحق كل ما يحدث لها، وأن ما يفعله الشباب بها إنما هو واجب وطني! (التطرف والحماقة)، ومنهم من سار في طريقه ولم يهتم (السلبية)، وغيرها الكثير من ردود الأفعال، لكن هناك رد فعل يتسم بالحكمة وهو أن واحد من المارة ذهب سريعًا واستدعى رجال الأمن لينقذ تلك الفتاة من هؤلاء الحمقى (حكمة التصرف).. أليس هذا عينه ما حدث في مصر؟!
الأصعب من ذلك كله هو تبرير محاولات اغتصاب الفتاة (مصر) باسم الدين لتحقيق الأغراض الشخصية للجماعة، وفي هذا الصدد يقول الدكتور مصطفى الفقي في كتابه العرب الأصل والصورة: «تميَّزَ المصريون خصوصًا بالارتباط بالدين، حتى قيل إن الطريق إلى قلب المصريين يمر عبر دياناتهم.» ولقد فطن الإسكندر الأكبر لهذه الحقيقة؛ فبدأ غزوه لمصر بزيارة لمعبد الإله آمون في سيوة؛ أملاً في السيطرة على مصر كطريق لتحقيق آماله وهي الإمبراطورية الواسعة، وفعل نفس الأمر بعد ذلك بعدة قرون نابليون بونابرت، حين بدأ حملته على مصر ببيانه الشهير الذي كتبه وهو في عرض البحر، والذي بدأه بالبسملة، وتظاهر أنه جاء لإنقاذ مصر من ظلم المماليك والعثمانيين، لأنه اكتشف هو الآخر أن المدخل إلى قلب مصر يمر عبر دينها، وتاريخ الكنيسة أيضًا يحكي لنا عن قسطنطين الذي تظهر أغراضه السياسية كالظلال من وراء الستار؛ فقد رأى في المسيحية أنها السبيل الوحيد لجمع شتات إمبراطوريته، وأنه بعلامة الصليب سينتصر! وكذلك حينما يُرفع شعارًا لدينٍ ما بأنه الحل بغية الاستظلال بقبة البرلمان!
ولقد شارك في ثورة 30 يونيو كافة أطياف الشعب المصري، وهنا سأتحدث عن دور الكنيسة في الثورة، في نقاط مختصرة:
1. الصلاة من أجل الوطن: جاء في سفر أرميا «وَاطْلُبُوا سَلاَمَ الْمَدِينَةِ… وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ.» (أرميا 29: 7)، وقال الرسول بولس: «فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ» (1تيموثاوس 2: 1-2).
2. الانشغال بالسياسة وليس الاشتغال بالسياسة! فالاشتغال بالسياسة حرية للأفراد (آيًا كان الدين)، أما الكنيسة تنشغل بها أو لا تشتغل بها! فتدعو –مثلاً- للخروج والمشاركة في الانتخابات، لكن لا تدعو إلى انتخاب شخص بعينه، وهكذا تعمل على زيادة الوعي السياسي من خلال متخصصين، أكرر من خلال متخصصين، ولا تُقحم نفسها في تكوين حزب أو الانضمام لحزب بعينه، فالانضمام للأحزاب حرية للأفراد أيضًا.. وهكذا.
3. المشاركة الفعَّالة: ليست الصلاة فحسب، وإنما المشاركة الفعالة من خلال القيام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق، وهنا تجدر الإشارة إلى كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية التي شكَّلَت بها –من خلال مجموعة من الأطباء المتخصصين- مستشفى ميداني للمصابين في ميدان التحرير، آيًا كان عقيدتهم، وآيًا كانت أعمارهم.
4. المساهمة في تجديد الفكر الديني: أقول تجديد «الفكر الديني»، وليس مجرد «الخطاب الديني»، ففي حقيقة الأمر لن يتجدد «الخطاب الديني» دون تجديد «الفكر الديني»!!! فـ «الخطاب الديني» هو «الظاهر/ المصب»، بينما «الفكر الديني» هو «الداخل/ المنبع»، ولن يكون المصب نقيًا ما لم يكن المنبع نفسه نقيًا. وهناك حكمة تقول: «إذا أردت أن تُصلح نهرًا، فاصلح منبعه»! فلن يتم معالجة العَرض ما لم يتم معالجة المرض!!! فالدعوة الصحيحة تكون لتجديد «الفكر الديني» وليس مجرد «الخطاب الديني»!! أكرر حتى لا يُساء الفهم: أقول تجديد الفكر الديني لا أقول تجديد الدين.
في الختام أقول تجاوزت مصر أزمات لم تتجاوزها دول أخرى إلى الآن، كل هذا إنما يدل على وحدة النسيج، الذي وإن كانت فيه بعض العُقَد، لكنه مترابط، فلتكن الثورة بداية انطلاق للإصلاح والتعمير، وليست محطة وصول.