مقالات

كورونا والعناية الإلهية

الهدى 1220                                                                                                                                  أبريل 2020

في الأزمات، نكون مُعرضين للانحياز لأحد اتجاهين متناقضين: الأول، نسب كل المعاناة لله، فهي عقوبة إلهية نتيجة لخطايا الإنسان. الثاني، افتراض أن الحياة مع الله لن تشتمل على أية معاناة. الاتجاه الأول يختص بمفهوم الغضب الإلهي، والثاني يختص بمفهوم العناية الإلهية، وهي الفكرة التي سوف نتحدث عنها في هذه السطور.

أولًا: مفهوم العناية الإلهية
بالرغم من أنَّ تعبير «العناية الإلهية» لم يُستخدم في الكتاب المقدس، إلا إنه استخدم تقليديًا كتلخيص لعلاقة الله المستمرة بخليقته. ويمكن التوقف أمام أكثر من مفهوم:

  1. إقرار إيمان هايدلبرج: ينص على أنَّ «قوة الله القديرة الأزلية التي بها رفع، كما لو كان يرفع بأيديه، السماء والأرض والمخلوقات، ويحكمها لدرجة أن أوراق الشجر والعشب، الأكل والشرب لا يأتوا بالصدفة بل هم من عطية الله الأبوية.»
  2. جون كلفن: كتب المُصلِح الإنجيلي جون كالفن عن العناية الإلهية قائلًا: «العناية الإلهية لا تعني أن الله يراقب خاملًا من السماء ما يجري على الارض، بل كقابض على المفاتيح يتحكم في كل الأحداث. الأمر لا يمتّ إلى يديه فقط بقدر ما يمتّ إلى عينيه، وهو ما اختبره ابراهيم في قوله لاسحاق: : «الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني» (تكوين 22: 8)
    «في أوقات العناء يجد المؤمنون عزاء وراحة في أنهم لا يعانون إلا ما سمح به، لكونهم تحت يده. إن انتبهتم سترون بسهولة، إن الجهل بالعناية الإلهية هو منتهى التعاسة، وأن اعظم البركات تكمن في معرفتها»
    «كل شئ في حياتنا ليس صدفة، الله كلي القدرة. كل ما هو مخلوق هو محمول بيد الله. عناية الله لا تعني فقط أنه يرى مسبقًا، بل تعني أيضًا يشرف على (over see) قوة الخلق هي ذاتها قوة العناية الإلهية، الاقرار بالخليقة يصاحبه الاقرار بعناية الله لنا. قد تكون العناية في صمت ولا نشعر بها، لكن الله يحرك الجانبين السلبي والايجابي، الجوانب المظلمة والمضيئة في حياتنا تحت سيطرته. وهذا يمنحنا الصبر وقت الشدة والشكر وقت الألم لان كل شيء في يده.»
  3. واين جرودم: «الله مشترك دائمًا مع كل الخليقة، بطريقة تجعله يبقيها موجودة محافظًا على الخصائص التي خلقها به. هو يتعاون مع الخليقة في كل عمل، موجهًا إياها لتحقيق مقاصده» ويمكن تلخيص هذا المفهوم في ثلاثة أفعال لله مع خليقته:
    الحفظ (الله يحفظ) – المشاركة (الله يرافق)- السيطرة (الله يوجه).

ثانيًا مفاهيم خاطئة عن العناية الإلهية

  1. عناية التمييز: واحدة من أكثر التعريفات المشوهة عن العناية الإلهية، هي التي تقدم الله بجانب مجموعة معينة، يحميهم ويشفيهم ويعتني بهم، دون غيرهم، أو على حساب غيرهم، وهذه المجموعه هي بالطبع شعبه وخدامه. هذه الصورة -للأسف- تعلن عن إله عنصري، وليس إلهًا عالميًا. وليس هذا فقط، لكنها تعلن بوضوح أيضًا أن هذا الإله هو من يخدم شعبه، بدلًا من أن يُخدم منهم!
    ومن يتبنون هذه النظرية يعتمدون على بعض النصوص الكتابية، التي توضح أن الله اختار بعض الأشخاص دون غيرهم، ابراهيم مثلًا. لكن الواقع، أن الله اختار البعض، لا ليميزهم، أو ليخدمهم، أو لكونهم أفضل من غيرهم، لكنه اختارهم ليبارك بهم الأخرين. وهذا ما أعلنه الله بوضوح في دعوته لإبراهيم «أباركك وتكون بركة»(تكوين 12: 2).
  2. عناية الاستحقاق: يرى البعض أن علاقتنا بالله هي علاقة المصالح المشتركة، أو تبادل المنفعة، بمعنى الإنسان يقدم لله عبادة وخدمة، وفي المقابل يوفر له الله العناية والرعاية، يقدم الإنسان الإيمان والله يقدم له الخلاص. وبمقدار ما يقدم الإنسان، يعطي الله. هذه الصورة عن العناية الإلهية تصور لنا الله كالتاجر الذي يقايض، لا الإله الذي يضحي!
    هذا التعريف عن العناية الإلهية، يتعارض بوضوح مع كلمة الله، التي تعلن عن فقر الإنسان وعجزه وعدم قدرته على تقديم شيء، وحتى ما يقدمه لا يمكن أن يرضي الله، لعدم صلاح الإنسان من الاساس، كما قال الرسول بولس: «الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد» (رومية 3: 12). من ناحية أخرى، الله غير محتاج لما نقدمه، فهو رب الخليقة كلها، كما قال الرسول بولس أيضًا: «لأن منه وبه وله كل الاشياء» (رومية 11: 36)، وكما قال داود أيضًا «للرب الارض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها»(مزمور 24: 1)، الله هو إله النعمة في كل تعاملاته مع خليقته، وحتى الايمان ذاته ليس من الإنسان بل هو عطية الله (أفسس 2: 10) عناية الله بأولاده غير مرتبطة اطلاقًا بما يفعلون لأجله، أو ما يقدمونه له من خدمات، التي قد تعطيهم الإحساس يومًا ما بأن الله مدينًا لهم!
  3. عناية الوقاية والحفظ: يُعتبر هذا المفهوم هو الأكثر انتشارًا في الوسط الكنسي، ويعني أن عناية الله بالمؤمنين تعني وقايتهم وحفظهم من الأمراض والأزمات والحوادث، فالمؤمن لا يمرض ولا يحتاج، وهو ما يُسمى بلاهوت الرخاء. فبحسب هذا المفهوم، نجد أن الأزمات بكل أنواعها تصيب فقط الخطاة كعقابٍ من الله لهم، والمؤمن هو في أمان وحفظ دائم.
    ولتأكيد هذا المفهوم عن العناية الإلهية، ففي أوقات الأزمات، كالتي نمر بها الأن، يتم استخدام العديد من الآيات الكتابية، في غير سياقها التاريخي والموضوعي، مثلما فعل الشيطان مع يسوع وهو يجربه قائلًا له، مكتوب: «لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك» (مزمور 91: 11-12؛ قارن متى 4: 6). لكن هل بالفعل العناية الإلهية تعنى الوقاية؟ ألم يعاني كل رجال الله في الكتاب المقدس من شتى الأزمات كالجوع والمرض والاحتياج والموت نفسه؟ معاناة المسيح نفسه طوال حياته، نفسيًا وجسديًا، انتهاء بالصليب، تؤكد أن العناية الإلهية لا يمكن أن تكون وقاية!
  4. عناية الإنقاذ الدائم: يرى البعض أنه من الجائز طبعًا للمؤمنين اختبار أزمات قاسية في حياتهم، إنما العناية الإلهية تعني الانقاذ الدائم من الأزمة، والشفاء الكامل من المرض. السبب وراء شعبية هذا المفهوم، هو ميلنا الطبيعي لكل ما هو فوق طبيعي، فدائمًا نحب قراءة النصوص الكتابية التي تؤكد هذا المعنى، كمعجزات المسيح، شق البحر، إنقاذ دانيآل من جب الأسود، وغيرها.
    لكن كيف يواجه هذا المفهوم النصوص الكتابية الأخرى التي توضح أن عناية الله لا تعني انقاذًا دائمًا. فإن كانت عناية الله أنقذت بطرس من السجن، فهي لم تنقذ يعقوب السجين معه في نفس المكان (أعمال 12: 2)، إن كانت عناية الله أنقذت دانيآل من الأسود، فهناك مؤمنون أخرون طافوا في جلود غنم مكروبين مُذلين» (عبرانيين 11: 37)؛ إن كانت عناية الله أنقذت الرجال الثلاثة من الآتون، فهناك مؤمنون أخرون رُجموا ونُشروا وماتوا قتلاً بالسيف. (عبرانيين 11: 37)، وما أجمل شهادة كاتب الرسالة إلى العبرانيين عمن لم تنقذهم العناية الإلهية:
    «هؤلاء كلهم مشهودًا لهم بالإيمان، وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم» (عبرانيين 11: 38)
  5. عناية السلبية والتواكل: لا تشجعنا عقيدة العناية الإلهية بأي حال من الأحوال على أن نجلس مكتوفي الأيدي منتظرين نتائج أحداث معينة، الاكتفاء بالقول إننا نتكل على الله عوضًا عن التصرف بروح المسؤولية هو تشويه للعناية الإلهية، أو خطية صامتة كما اسماها يعقوب «من يعرف أن يعمل حسنا ولا يعمل، فذلك خطية له» (يعقوب 4: 17)، يقول كلفن في هذا الصدد: «إذا عهد الله إلينا بمسؤولية حماية حياتنا فإن واجبنا هو أن نحميها، وإذا عرض علينا مساعدات مختلفة فإن واجبنا أن نستخدمها، وإذا حذرنا مسبقًا من المخاطر فعلينا ألا نندفع، وإذا وفرَّ لنا العلاج (الحل) فعلينا ألا نهمله»؛

وبالعودة للكتاب المقدس، نجد العديد من الأمثلة التي توضح عدم وجود تعارض بين العناية الإلهية والدور الإنساني، أكتفي بمثالين فقط، واحد من العهد القديم وأخر من العهد الجديد:

يُذكر في سفر صموئيل الثاني (10: 6 – 14)، قصة حصار جيشي بني عمون وآرام لداود، فما كان من يوآب قائد جيش داود، إلا أن يختار مجموعة معه لمواجهة آرام، وسلم بقية الشعب ليد أخيه أبيشاي لمواجهة بني عمون، وبعدها يقول لأخيه «إن قويَّ آرام عليّ تكون لي مُنجدًا، وإنه قوي عليك بني عمون أذهب لنجدتك. تجلَّد ولنتشدد من أجل شعبنا ومن أجل مدن إلهنا والرب يفعل ما يحسن في عينيه» (11، 12) هنا نجد أن يوآب بعد كل هذا التنظيم والاستعداد للحرب، ينهي كلامه بعبارة: «والرب يفعل ما يحسن في عينيه» الإيمان بالعناية الإلهية ليس قعودًا عن العمل، إنما حافزًا له!
ويذكر سفر الأعمال في العهد الجديد (18: 9-10)، عندما كان الرسول بولس في كورنثوس، ولئلا تثبط عزيمته أمام مقاومة اليهود، ظهر له الرب في رؤيا ذات ليلة، وقال له «لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك، ولا يقع بك أحد ليؤذيك، لأن لي شعبًا كثيرًا في هذه المدينة». لو كان الرسول بولس هنا يؤمن بالجبرية «القضاء والقدر»، أو ذو فهم غير سليم للعناية الإلهية، لسمع كلمات الله القائلة «لأن لي شعبًا كثيرًا في هذه المدينة»، واستنتج أن الله قد قضى بتخليص الكثير من أهل كورنثوس، ولهذا لا يهم إن بقيَّ هو في المدينة أو لا، لأن الله بالفعل اختار أشخاصًا كثيرين للخلاص، وكان يمكن له أن يفكر في حزم أمتعته والرحيل. لكنه لم يفعل هذا، لأنه أدرك أنه بما أن الله قد اختار أشخاصًا كثيرين، فسيخلص هؤلاء الأشخاص على الأغلب بواسطة كرازة بولس نفسه للإنجيل. ولهذا اتخذ قرارًا حكيمًا: «فأقام سنة وستة أشهر يُعلم بينهم بكلمة الله»(أعمال 18: 11) وبهذا عبَّر بولس عن هذا النوع من التصرف الشخصي المسؤول في ضوء العناية الإلهية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى