لا لازدراء الإنسان
الهدى 1215-1216 نوفمبر وديسمبر 2019
نقرأ ونستمع كثيراً في هذه الأيام لعبارات جديدة على مجتمعنا وأسماعنا، من هذه العبارات، عبارة، «لا لازدراء الأديان»، ومع أننا نشجع كثيراً على احترام الأخر، أياً كان هذا الأخر، ديناً، أو إنساناً، دون النظر إلى عرقه أو لونه أو جنسه، إلا أن ما أثارني خلال هذه الحملة الشرسة المعنونة «لا لازدراء الأديان»، – بالرغم من إيماني العميق أن الأديان أسمى من أن تُحتَقر أو تُزدرى- هو ما يمكنني أن أسميه «ازدراء الإنسان»، فباسم الأديان والدفاع عن الإيمان، أُستُبِيحت كرامة، وحياة، وحقوق الإنسان، والتي هي أبسط الحقوق التي تضمنها الأديان، وتكفلها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
تدعو الأديان إلى اعتبار أن الإنسان مخلوقًا متميزًا، كما تؤمن المسيحية، بأنه مخلوق على صورة الله ومثاله، منحه الله حرية الإرادة والتعبير وإبداء الرأي، والقدرة على اتخاذ القرار، حتى وإن تعارضت هذه الآراء أو القرارات مع مشيئة الله ذاته، وفي هذا قمة احترام الله للإنسان.
قد يحتاج أصحاب الفتاوى المتشدقين بالدين، والمستبيحي الحريات، ومُهدري كرامة وحياة الإنسان للعودة مرة أخرى لدراسة مضمون الدين، ومعرفة قيمة الإنسان الحقيقية كما قدرها الله وأوصانا باحترامها.
وهنا يُمكنني أن أتناول مفهوماً كتابيًا أصيلاً، يُظهر قيمة الإنسان التي تجعلنا ونحن ننادي بعدم ازدراء الأديان آلا نسقط في فخ «ازدراء الإنسان».
تنص الشريعة على تقديس يوم السبت، فلا يحل لإنسان أن يأتي عملاً في يوم السبت، وتطرف فقهاء الشريعة في فهمهم وتطبيقهم للشريعة، حتى أنهم كانوا يعتبرون أن أعمال الرحمة لا تحل في ذلك اليوم، لقد نسوا تماماً –أو تناسوا- أن هدف الشريعة هو الإنسان، والحفاظ على قيمته، وإعلاء شأنه، لذلك حين سمح المسيح لتلاميذه أن يقطفوا من سنابل الحقول ليأكلوا، كان اليوم سبتاً، وحين شفى المسيح ذو اليد اليابسة كان اليوم سبتاً، وهنا فارت ثورة الغضب عند حماة الشريعة، وهاجموا المسيح، كيف يسمح لتلاميذه أن يفعلوا ما لا يحل يوم السبت، وكيف هو نفسه يشفي مريضاً يوم السبت؟!
هنا شرح المسيح لهؤلاء الفقهاء المدعين، المتمسكين بحرفية النص، ومن خلال النص أيضاً، أن هدف النص والشريعة إنما هو سعادة الإنسان والحفاظ على حياته لا إهدارها، فقد عاد بهم لما سجلته الشريعة عما فعله داود حينما جاع هو والذين معه قائلاً: «أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللَّهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟ أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ (متى 12: 1-13)، لقد حاول المسيح بمنتهى الاحترام والحفاظ على قيمة الإنسان.
إن الشرائع الدينية، والمواثيق الدولية جميعها وُضعت لأجل الإنسان، فالإنسان تاج خليقة الله، وله قيمته وتفرده الذاتيين، له الحق في التفكير والتعبير عن رأيه، وليس من حق أحد أن يُجحف أو يُصادر رأي غيره، للإنسان أن يعرف حقوقه ويُطالب بها، الإنسان مخلوق على صورة الله، وأي عدوان أو تهكم أو ازدراء على الإنسان إنما هو اعتداء وتهكم وازدراء مباشر على الله.
فيا أيها الإنسان الذي تُحقر الأخر وتسفه منه ..
ويا أيها الإنسان الذي تزدري بالأخر وتقلل من شأنه ..
ويا أيها الإنسان الذي تكمم الأخر وتكبل حريته ..
ويا أيها الإنسان الذي تُهدِر دم الأخر وتغتال حياته ..
ويا أيها الإنسان الذي يقترب إلى النص الديني لا لتفهم قصده، بل لإدانة الأخر وتكفره ..
ويا أيها الإنسان الذي تُنصِب من نفسك قاضياً ومشرعاً لأذية وقتل الأخر ..
ويا أيها الإنسان الذي باسم شريعة الله، تزدري صورة الله فيه ..
لك أقول، «لا لازدراء الإنسان»، و «كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ -الشريعة- وَالأَنْبِيَاءُ» (متى 7: 12).