أسرار الليلة الأخيرة
الهدى 1230 أبريل 2021
كلما تحدث يسوع لتلاميذه عن «الصليب»، كان هذا بالنسبة لهم -منذ أن تبعوا يسوع- كرواية خيالية، قاوموها في مرات، فنجد بطرس يقول مثلًا: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!» (متى 16: 22)، ولم يجادلوا يسوع فيها في مرات أخرى، إذ أن مفهومهم عن المسيا لم يختلف عن انتظارات الجميع منه وقت الاحتلال الروماني، حتى إن أم يعقوب ويوحنا ابني زبدي طلبت من يسوع قائلة: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هَذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ» (متى 10: 21)، ولو أدركت أنه سيأتي الوقت ليُصلب يسوع على الجلجثة وواحد عن يمينه وآخر عن يساره ما طلبت هذه الطلبة لابنيها! وها قد حان الوقت ليتم هذا الحدث (الصليب) في الغد (الجمعة)، ولا يتبقى إلا ساعات قليلة، ستتبخر سريعًا في دجى الليل، ومازالت انتظاراتهم من يسوع كما هي! فكيف يتصرَّف يسوع في هذه الليلة الأخيرة التي تفصله عن الصلب؟
أولًا: تهيئة التلاميذ
استطاع يسوع أن يهيئ التلاميذ لهذا الحدث من خلال الفصح الجديد وتصريحاته، فرموز العشاء الرباني –الذي صنعه يسوع في هذه الليلة- ستساهم بشكل كبير في تهيئة التلاميذ لحادثة الصلب، ليس هذا فحسب بل أيضًا التوقيت نفسه، ففي هذا الوقت كان الاحتفال بعيد الفصح عند اليهود، وبهذا يعلن للتلاميذ عن فصحٍ جديدٍ حقيقة لرمزٍ قديمٍ.
كذلك هيئهم عن طريق تصريحاته، مثل تصريحه لبطرس أنه سينكره، وتصريحه ليهوذا أنه سيسلمه، فتصريحه لبطرس حين قال له: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» (متى 26: 34)، يا ترى لماذا قال يسوع هذه الكلمات الصادمة لبطرس؟ إنه يريد أن يقول له: «أنا أقبلك بمحدوديتك، ورغم علمي بما ستفعله، اقبل أنت محدوديتك»، هذا لأن بطرس في مرات كثيرة كان متزعمًا وبطلًا –في عيني نفسه- يصعب تكراره، ذلك الصياد الذي اعتاد على مخاطر البحر وظلام الليل! ذلك التصريح لبطرس لم يكن قسوة من يسوع على بطرس، بل كانت رحمةً ببطرس، وإعلان محبته غير المشروطة له، وقبوله لمحدوديته.
كما صرَّح الرب يسوع ليهوذا قائلًا: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي» (متى 26: 21)، صرَّح الرب يسوع بهذا لأنه قد حان الوقت، وفي حقيقة الأمر لم يكن بيع يهوذا ليسوع لأجل الثلاثين من الفضة، بدليل أنه ردَّها (متى 27: 3)، ولكن لأن يهوذا كان من حزب الغيورين المقاومين للاحتلال الروماني، وكان ينتظر من يسوع أن يحررهم من هذا الاحتلال، فعل يهوذا هذا ليستحث يسوع لكيما يشمر عن ذراعيه، ويُفتك بهؤلاء الرومان! وهذا بالطبع لا يعفيه من المسؤولية.
ونحتاج أن نتعلم من يسوع كيف نهيئ الآخرين للفكر الجديد، الذي ربما سيصطدم في مرات مع التقاليد الموروثة والأفكار البالية، لأن هذا ليس بالأمر الهين، فالصدمة في الحدث مهما كانت صعوبته، أيسر بكثير من الصدمة في المعتقد مهما كانت تفاهته! وفي موقف التلاميذ تزاحمتا معًا صعوبتا المعتقد والحدث!
ثانيًا: تصحيح المفاهيم
كثيرًا ما كانت المشاحنات بين التلاميذ على «من هو الأعظم؟»، يقول البشير لوقا: «وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضًا مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ» (لوقا 22: 24)، ولكن كان رد يسوع عليهم: «مُلُوكُ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هَكَذَا بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ. لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ» (لوقا 22: 25- 27)، ليس هذا فحسب، بل يخبرنا أيضًا الرسول يوحنا أن يسوع «قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا» (يوحنا 13: 4- 5)، فمنطق التلاميذ –والبشر عمومًا- «الصعود إلى القمة»، لكن يسوع يعلن منطق غريب وهو «النزول إلى القمة»! القمة عند خدمة بعضنا لبعض، وليست عندما يترأس بعضنا على بعض، إنها قوة الحب لا حب القوة.
فمفهوم العظمة –لدى العقلية الشرقية- يكمن في «القوة»، حتى الأطفال في معظمهم! لا أنسى أبدًا في بداية خدمتي بكنيسة نواي الإنجيلية (إحدى كنائس مجمع ملوي الإنجيلي)، وطلب مدرس مدارس الأحد من الأطفال أن يذكروا أسماء أبطال من الكتاب المقدس، فبعضهم قالوا: شمشون، وبعضهم: داود، وعندما سألهم لماذا داود؟ قالوا: لأنه انتصر على جليات، وآخرون: جدعون، ولما أراد منهم أن يقولوا أسماء سيدات، فقالوا: دبورة! كل هؤلاء كانوا أبطال حرب، لم يذكروا يوسف مثلًا أو يوحنا أو غيرهما، لأن البطولة تشكلت في عقولهم على أنها القوة!
بهذه الأفعال وهذه التصريحات، أراد الرب يسوع أن يصحح مثل هذه المفاهيم لدى التلاميذ، فالعظمة ليست في شهر السيف، بل في الاتزار –الاختياري- بالمنشفة.
ثالثًا: الخروج عن الذات
لم يتوقف الأمر عند «العلية»، لكنه امتد إلى «البستان» (بستان جثسيماني)، الوقت الذي كان بين فصح العلية، وفصح الصليب! الوقت الذي كان بين الرمز والحقيقة، إذ ذهب يسوع ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا إلى بستان جثسيماني، يقول د. ق. إبراهيم سعيد: «إذا كان المسيح قد ترك التلاميذ الثمانية في الدار الخارجية من هيكل جثسيماني، وإذا كان قد أخذ الثلاثة المختارين وأدخلهم معه إلى القدس، فإنه دخل وحده إلى قدس الأقداس، وانفصل عنهم نحو رمية حجر، لأن عيون التلاميذ لا تقوى على رؤية العليقة الجديدة تتوقد بالنار من غير أن تحترق!»
مرة أيقظه تلاميذه، ومرة هو أيقظهم، أيقظوه بشيء من عدم اللياقة قائلين: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» (مرقس 4: 38)، أما هو أيقظهم بكلمات رقيقة قائلًا: «أَهَكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟» (متى 26: 40)، أيقظوه فهدئ عاصفتهم، أيقظهم ولكن عاصفته كانت تشتد وهربوا، يقول د. ق. إبراهيم سعيد: «أليس من المحزن أن محبي المسيح نيام، ويهوذا الخائن يقظان؟! أليس من المحزن أن قوات الشر ساهرة، وقوات الخير ساهية؟!»
في وسط كل هذه الآلام يقول للآب: «لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لوقا 22: 42)، وكم من مرات صلينا قائلين: «لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ» (لوقا 11: 2)، وعندما تأتي مشيئته غير متفقة مع مشيئتنا نتذمر! بينما كان الرب يسوع المثل الأعظم لنا في الخروج عن الذات، أو كما يسميه تيموثي كلر «حرية نسيان الذات».
وفي وسط آلامه انشغل أيضًا بسلامة الآخرين، إذ عندما أتوا ليمسكوا بيسوع، وكان معه تلاميذه، قال: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ» (يوحنا 18: 10)، كان من الممكن أن يطلب الرب يسوع من تلاميذه أن يدافعوا عنه، وأن يأتوا معه إلى المحاكمة، لكنه انشغل بسلامتهم حتى في قلب الأزمة، بل ويشفي أذن «ملخس» عبد رئيس الكهنة، الذي أتى مع المتآمرين، بل وهو على الصليب، يطلب الغفران لأجل صالبيه، وبينما جسده متألمًا ينشغل بمريم أمه ويوحنا!
إن الليلة الأخيرة قبل صلب المسيح لهي كنز من الأسرار، حاولنا إبراز ثلاث جواهر لامعة منه، إنها دعوة لأن نُهيئ فنتعلم كيف ومتى وماذا ولمن نتكلم، ودعوة لأن نصحح حتى وإن غردنا في مرات كثيرة خارج السرب، ودعوة للخروج عن الذات، فلا ندور في فَلَك ذواتنا، بل نكون كحبة الحنطة التي إذ تموت، فتصير شجرة تتأوى فيها طيور السماء.