الإخلاء .. العبور من الأنا للأخر
الهدى 1205-1206 يناير وفبراير 2019
يتحدث الرسول بولس في فيلبي عن صورتين: الأولى وهي النموذج الذي يجب أن تكون عليه الكنيسة، وهي: «تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ، بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا» (فيلبي 2: 2)
ثم يتعرض للصورة المشوهة في الكنيسة: «لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ» (فيلبي 2: 3)
وما بين العبور من الصورة المشوهة للصورة المثلى والصحيحة لجماعة المؤمنين معًا يضع لهم نموذج المسيح في (فيلبي2: 5- 11)، والقادر على شحنهم بالفِكْر لكي يتغير السلوك «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْر الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 2: 5)
المسيح النموذج والمثال:
قال المسيح: اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ (متى 11: 29- 30)، وفي حادثة غسل الأرجل قال: لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا(يوحنا 13: 15)، وفهم الرسول بطرس هذا الأمر فقال: فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ» (1بطرس 2: 21).
وأكدَّ الرسول يوحنا على هذاالأمر بالقول: مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضًا» (1 يوحنا 2: 16)، ويقول الرسول بولس في فيلبي «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْر الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاس.ِ وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.» (فيلبي 2: 5- 11).
يبقى يسوع المسيح هو النموذج والمثال في التضحية والحب والعطاء فإذا انهارت كل النماذج من حولنا، أو صدمنا فيها، فيبقى هو النموذج الأعظم الذي يجب أن نتمثل به ونتشبع بفِكْر الإخلاء منه. فهدف الخدمة والوجود هو العبور للأخر. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا» (فيلبي 2: 4)، «حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي 2: 3).
فِكْر الإخلاء: العبور من الأنا (الذات) إلى الآخر
ومن خلال فِكْر الإخلاء وهو عبور الذات (الأنا) إلى الآخر، نقف عند بعض الأمور العملية التي تقود الجماعة إلى الصورة المثلى في العلاقات والتفاعل معًا، تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا»أو كيف نتعلم من الإخلاء لنحيا مفهوم الجسد الواحد؟ من خلال فِكْر الإخلاء نقف عند خمسة أمور هامة لتحقق الكنيسة الصورة المثلى من معايشة فِكْر الإخلاء، وهي:
أولاً: القدرة على التواصل
أخذ المسيح في الإخلاء صورة عبد صائرًا في شبه الناس، دخل إلى العالم بطريقة مختلفة، بصورة مفهومة وملموسة، يستطيع أن يفهمها البشر. «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ» (1 تي 3: 16). «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا (يوحنا 1: 14).
«اللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ،الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ. (عبرانين 1: 1- 4).
فِكْر الإخلاء هو فِكْر القدرة على التواصل تواصل الله مع البشر في المسيح، لكي يتواصل البشر بعضهم مع البعض من خلال المسيح. ففي المسيح تسقط كل الحواجز التي تفصل بين البشر لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (غلاطية 3: 28). الحواجز والفواصل ضد فِكْر الإخلاء، وبذلك قاوم الرسول بولس فكرة التحزب (الشللية)، «أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: «أَنَا لِبُولُسَ»، و«َأَنَا لأَبُلُّوسَ»، وَ«أَنَا لِصَفَا»، وَ«أَنَا لِلْمَسِيحِ». هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟» (1 كورنثوس 1: 12: 13)
العجب والكبرياء أمران مدمران في مسيرة الحياة الروحية والكنسية، فالتحزب أو الحزبية داخل الكنيسة والكبرياء يعيقان وحدة الجسد الواحد. فإذا انقسمت الكنيسة إلى شلل أو أنتشر فِكْر الكبرياء تكون هذه بمثابة موت الكنيسة.
التواصل الجيد من خلال فِكْر المسيح يؤدي إلى الفهم الصحيح ثم يؤدي إلى السلوك الصحيح، والتصرف اللائق، طريق وسلوك التواضع.
ثانيًا: القدرة على العطاء
مفهوم الإخلاء هو في ممارسة العطاء، المسيح أعطى ذاته بإرادة كاملة وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. وهو الذي علم عن حبة الحنطة «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير» (يوحنا 12: 24). وقد شهد بولس عن افرتدوتس كنموذج للعطاء: «لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَمَلِ الْمَسِيحِ قَارَبَ الْمَوْتَ، مُخَاطِرًا بِنَفْسِهِ، لِكَيْ يَجْبُرَ نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي» (فيلبي 2: 30).
ويضع الرسول بولس نموذج أخر للعطاء كنيسة مقدونية الذين أعطوا فوق طاقتهم «ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ. وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ اللهِ.(2 كورنثوس 8: 1- 5).
فِكْر الإخلاء هو فِكْر العطاء والبذل والتضحية، هو رحلة الصليب والألم مع المسيح من أجل الأخر. المسيح الذي أعطى لنا ذاته طواعية، هو يدعونا لكي نقدم نحن أيضًا ذواتنا بحب للأخرين.
ثالثًا: القدرة على المعرفة
لماذا كان الإخلاء؟ لماذا قام المسيح بهذاالعمل وبهذه المبادرة والخطوة الهامة؟ تكون الإجابة أخلى المسيح ذاته لكي نعرف الله، اقترب منا بهذ الصورة المميزة لكي نقترب نحن إليه من خلال المعرفة. كان الله صورة غامضة، بعيدًاعن الناس، لا يمكن التواصل معه، حتى أن البعض صنع إلهًا مجهولاً له. فالله تعالى عن البشر، ولكنه في مفهوم الإخلاء تنازل بين البشر ومن أجل البشر. اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ (يوحنا 1: 18).
في الإخلاء عرفنا من هو الله، أقترب من البشر، لنقترب إليه. ومن خلال الإخلاء نحن مدعون كل يوم لكي نعرف الله من خلال شخص يسوع المسيح. «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. (يوحنا 17: 3).
هذه المعرفة التي لا تنتهي لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ (فيلبي 3: 10)، ومن أجل هذه المعرفة مستعد الرسول بولس أن يخسر كل شيء: لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ.» (فيلبي 3: 7- 9).
معرفة الله تقودنا إلى معرفة النفس. وكل ما نعرف نفوسنا جيدًا نسير في رحلة التواضع أمام الله، وفي تواضع مع البشر.
رابعًا: القدرة على العيش بتواضع
لم يعالج الرسول بولس السلوك بسلوك مضاد ولكنه عالج السلوك بفكر، فإذا أردنا أن نغير حياتنا فعلينا بتغيير أفكارنا وهذا هو لب الفِكْر والإيمان المسيحي، تغيير الذهن يؤدي إلى تغيير الحياة. كانت معاناة البعض سلوك يدعو لحياة الشللية (التحزب داخل الكنيسة) ثم الحياة بكبرياء (العجب). لما أراد الرسول بولس أن يغير هذا السلوك أحل محله فكرًا مختلفًا فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْر الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 2: 5)، «أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا» (فيلبي 4: 8).
التواضع هو أن يرى الإنسان ذاته كما هي، دون النظرة الطاووسية (الكبرياء أو العجب) أو النظرة الدودية (الاحتقار والإذدراء). «وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذلِكَ يَقُولُ: «يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (يعقوب 4: 6).
أخذ المسيح صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وضع نفسه حتى الموت موت الصليب. رفعه الله أعطاه اسما فوق كل اسم. «في جنوب السودان توجد مناطق جافة يصعب الحصول فيها على الماء، ولكي يحصلون على الماء يحفرون بئرًا عميقة بدايتها ممر صغير لينزل أحدهم فيه ويسحب جزءًا قليلاً من الماء، وتصادف أن نزل شاب من أحد القبائل ليحضر ماء وانحشرت قدمه في حفرة وأنكسرت وكان لابد من الاستعانة بزعيم القبيلة (وهو أقوى إنسان في القبيلة)، خلع زعيم القبيلة رداء الزعامة وعمامة الكرامة ونزل إلى البئر لينقذ الشاب. هل قلل هذا من كونه زعيمًا، هل استهزأت به القبيلة أم قدَّره كل من رآه.»
الإخلاء فِكْر وأسلوب حياة لكي نتعلم منه التواضع كنموذج ومثال، فنعيش لا لذواتنا ولكن لأخرين أيضًا: «بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْلاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا» (فيلبي1: 3- 4).
خامسًا: القدرة على العيش في حياة الوحدة
فِكْر الإخلاء يتعامل مع مفهوم الوحدة، لأن التحزب (الشللية) والعجب (الكبرياء) يحطمان ويضعفان وحدة الجسد تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا» (فيلبي 2: 2). «رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ» (أفسس 4: 6)
الوحدة المقصودة هنا ليس وحدة التناسخ أي يكون أعضاء الكنيسة نسخًا مكررة، وليست وحدة القولبة أو النمطية، ولكنها وحدة التمايز في إطار الهدف والرؤية التي تجمع الكل معًا في واحد. تسمى هذه الوحدة بالوحدة في تنوع والتنوع في وحدة.
من أروع الأغنيات التي تعبر عن فِكْر الميلاد وفِكْر الإخلاء هذه القصيدة للشاعر اللبناني منصور اللبكي، والتي انشدتها فيروز بالقول:
ليلة الميلاد يُنمحى البغضُ
ليلة الميلاد تُدفَنُ الحربُ
ليلة الميلاد تُزهرُ الأرضُ
ليلة الميلاد يُنبتُ الحبُّ
عندمانسقي عطشانا كأس ماء
نكون في الميلاد
عندما نكسي عريانا ثوبَ حبّ
نكون في الميلاد
عندما نُجفِّفُ الدموع من العيون
نكون في الميلاد
عندما نملأ القلوب بالرجاء
نكون في الميلاد
نكون في الميلاد
عندما أقبل رفيقي دون غش
نكون في الميلاد
عندما تموت فيّ روح الإنتقام
نكون في الميلاد
عندما يزول من قلبي الجفاء
نكون في الميلاد
عندما تذوبُ نفسي في كيان اللّه
نكون في الميلاد
فِكْر الإخلاء الذي عاشه المسيح يجب أن نعيشه نحن أيضًا كأفراد وكنيسة. في تواصل فعّال دون حواجز، في وحدة وتماسك وتناغم دون تشرذم، في بذل وحب وعطاء دون أنانية، في تواضع حقيقي دون كبرياء، في بحث دائم ومستمر عن الله دون إدعاء الاكتفاء، فنعرف الله ونعرف أنفسنا. فنترك كل كبرياء وذات وشللية وتحزب وتعالي، لكي نستطيع من خلال فِكْر الإخلاء، أن نحيا الفِكْر الواحد، الإيمان الواحد، والمحبة الواحدة، والنفس الواحدة، والكنيسة الواحدة. بذلك نعبر في مسيرتنا الروحيّة من الأنا (الذات) إلى الأخر.