الصحافة الإنجيليَّة وأحداث الوطن .. الهدى نموذجًا
الصحافة الإنجيليَّة وأحداث الوطن .. الهدى نموذجًا .. دراسة توثيقيّة
أولاً: إطلالة تاريخية
-
لمحة عن الصحافة في القرن التاسع عشر:
قبل الحديث عن مجلة الهدى بصفة خاصة أو عن الصحافة الإنجيليَّة بصفة عامة يجدر بنا إلقاء الضوء عن الصحافة في القرن التاسع عشر كقرينة تاريخية وثقافية للعمل الإنجيليّ؛ فيقول الدكتور أحمد طاهر حسانين: ” لم تعرف مصر جريدة تصدر باللغة العربيّة إلا في ختام القرن الثامن عشر، وكان ذلك على يد الحملة الفرنسية، وكان أسمها (الحوادث اليومية) وقد عهدت بتحريرها إلى الشيخ إسماعيل بن سعد الخشاب، ولكنها توقفت بخروج الحملة.حتى إذا كان عصر محمد علي صدر (الجرنال) بمطبعة القلعة، وكان يضم التقريرات الخاصة بنظام الأقاليم والمصالح وشئونها الإدارية. ثم اقتضى الأمر إخراج جريدة تتناول شئون الحكومة والمحكومين معًا فتعطل (الجرنال) وصدرت (الوقائع المصريّة) عام 1828: فلما كانت حملة الشام وضاقت الوقائع عن ذكر تفصيلاتها العديدة، دعت الحاجة إلى إنشاء جريدة سُميت (الجريدة العسكريَّة) وطبعت في مطبعة (ديوان الجهادية) وذلك في مستهل حملة الشام 1833م. وبالجملة فقد أدى جرنال الخديوي وظيفته من حيث تمثيله للنظم القديمة، كما أدت الوقائع المصريّة رسالتها من حيث أنها كانت أكثر عمومية وأوسع إدراكًا لمعنى الجريدة بصفتها الرسمية والعامة كما أنها كانت لسانًا طيبًا لإصلاحاته العسكرية، فقد أرتبط وجودها باتساع الجيش اتساعًا لم يكن معهودًا من قبل. ويواصل الدكتور حسانين كلامه بالقول: “ولن نفري بتتبع هذه النشأة الرسمية علي وجه التفصيل، وإنْ كنا نشير إلى أنَّ “الوقائع” لقيت من الضيق في عهد عباس الأول ما حجبها عن الفرّاء معظم أيام حكمه، ولم يكن حظها في عهد “سعيد” أحسن منه في عهد سلفه، ولكنها عادت إلى الاستقرار من جديد في عهد إسماعيل الذي أصدر بجوارها مجلة “يعسوب الطب” بتحرير الشيخ إبراهيم الدسوقي والبقلي سنة 1865 ثم “روضة المدارس” سنة 1870 على يد علي مبارك. وبهذه الروضة تبلغ مصر أخر مراحل نشاطها الصحفي من الوجهة الرسمية “[1]
ويتحدث الدكتور حسانين عن جانب آخر من العمل الصحفيّ الذي قام به الشاميّون المهاجرون إلى مصر ويعدد في كتابه “دور الشاميين المهاجرين إلى مصر في النهضة الأدبية الحديثة ص ( 81 – 84) سبعة وأربعون مجلة وجريدة أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر الأهرام 1876م، الهلال 1892م، والمنار 1898م.
أردت في الطرح السابق أنْ أوضح أنَّ بذرة الصحافة والعمل الصحفيّ بدأت في مصر في بداية القرن التاسع بدأت رسميَّة من الحكومة واستمرت أهليَّة أي من المؤسسات الأهليَّة ولقد كان للمهاجرين من الشام إلى مصر دور بارز في ذلك.
ولقد لعبت الصحافة في القرن التاسع عشر دورًا كبير في النهضة العربية والقومية ويذكر أنيس الفصولي أنَّ من أسباب النهضة العربيّة في القرن التاسع عشر تسعة أسباب ذكر منها: “انتشار فن الطباعة الراقي في الشرق الأدنى، ثم اهتمام أبناء البلاد بالصحافة والتأليف” [2].
أما عن الصحافة القبطية يذكر رياض سوريال: “برز الأقباط في الصحافة منذ نشأتها الأولى في مصر ويرجع إلى قائمة أو بيانًا بعشرة مجلات قبطية ويقول لم يذكر البيان مجلتين دينيتين للبروتستانت الأولى: “المرشد” أسست سنة 1894 ومنذ سنة 1911 غير أسمها إلى الهدى وهي لسان حال الكنيسة الإنجيليَّة، والمجلة الثانية هي نجم المشرق وقد صدرت سنة 1900″[3].
- الصحافة الإنجيليَّة في مصر: تاريخ طويل.
إنه من الفخر أنْ نذكر أنَّ عمر الصحافة الإنجيليَّة في مصر ونحن نحتفل بمرور 150 عامًا على بداية الكنيسة الإنجيليَّة في مصر (1854 – 2004) هو مائة وأربعين عامًا. فلقد بدأت الصحافة الإنجيليَّة بعد مرور 10 سنوات من بداية العمل الإنجيليّ في مصر بصدور “النشرة الإنجيليَّة المصريّة” سبتمبر 1864 وكان هذا هو التاريخ الفعلي لبدء الصحافة الإنجيليَّة في مصر، وعلي نسقها صدرت “النشرة الأسبوعيَّة” في بيروت في عام 1865م.
مائة وأربعون عامًا من بدء الصحافة الإنجيليَّة في مصر، وخلال هذا التاريخ الطويل المجيد حملت الصحافة الإنجيليَّة في مصر التميز الدينيّ المبني على الفكر المصلح الأصيل مع الاندماج الثقافيّ للمجتمع المصريّ، فوضعت بذور النهضة والتنوير، وأرست حرية الضمير والتفكير، وعبرت الصحافة الإنجيليَّة عبر تاريخها الطويل في مصر على أنَّ الشعب المتلقي لإبداعها هو شعب مثقف يدرك قيمة الكلمة والفكر، ويشجع روح الإبداع، ويذكي قيمة النقد الذاتي البناء. ففي الصحافة الإنجيليَّة منذ بدايتها ونحن نلمس الرأي والرأي الآخر ووجود مساحات للنقد البناء الهادف.
إنّ الصحافة الإنجيليَّة في مصر هي صحافة تنويرية مبدعة، حملت راية التنوير في ربوع بلادنا المصريّة في الريف والمدينة، في الشمال والجنوب، للرجل وللمرأة. ونستطيع أنْ نقول – بحق – أنَّ الصحافة الإنجيليَّة شاركت في صياغة وتشكيل عقل الأمة المصريّة والعربيَّة. فالقارئ للصحافة الإنجيليَّة يجد التشديد على الدور الإنساني لنهضة الوطن والتركيز على أنَّ الإنسان يكون فاعلاً مشاركًا في رقي بلاده ونهضتها، وهذه هي رسالة الكنيسة الإنجيليَّة في مصر منذ تأسيسها وهي تعمل على نهضة وتنمية وتحديث وإعادة صياغة المجتمع المصريّ.
-
الصحافة الإنجيليَّة: التكوين والمسار التاريخيّ
يذكر أديب نجيب في دراسة له تحت عنوان “الصحافة الإنجيليَّة في مصر” عن بداية تكوين الصحافة الإنجيليَّة في مصر ومسارها التاريخيّ فيقول: “في سبتمبر 1864 (أي بعد حوالي عشر سنوات من بدء العمل الإنجيلي في مصر) صدرت نشرة شهرية بعنوان “النشرة الإنجيليَّة المصريّة” وعلى نسقها صدرت النشرة الأسبوعيَّة في بيروت في 1865. والمعروف أنَّه قد صدر منها في بداية عام 1866 عددان وإنَّ تكلفة الطباعة في ذلك الوقت كانت مرتفعة جدًا، كما كان بين محرريها شخص يدعى عطية أفندي شمس. وفي فبراير 1892 صدرت نشرة روحية أخرى للكنيسة سُميت من 5 يناير 1894 باسم “المرشد” وكانت نشرة أسبوعية، في 8 صفحات، واتخذا شعارًا لها الآيتين: سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي مز 119: 105 والحكيم بالإرشاد يقبل معرفة أمثال 21: 11.”[4]
وفي جولة الأسبوع لعدد 16 يناير 1954 كتبت مجلة الهدى تحت عنوانًا “السنة الرابعة والأربعون لمجلة الكنيسة” [5] يذكر سبب اختيار اسم المرشد فتقول المجلة: “قد اخترنا اسم المرشد من بين الأسماء التي أتحفنا بإرسالها أعزاؤنا قراء جريدتنا ليكون اسمها بدل “النشرة الإنجيليَّة المصريّة” وذلك بالأخص نظرًا لكون اسم النشرة خاصًا بأخوتنا في بيروت. فالورقة التي تعوّد مشتركينا الكرام أن يروها ويقرؤوها في السنة الماضية باسم “النشرة الإنجيليَّة المصريّة” ها نقدمها اليوم هذه السنة باسم “المرشد” بصفاتها وغاياتها ومواضيعها كما هي وسنجتهد في تحسينها أكثر فأكثر أملين أنّ الذي وعد شعبه بإرسال روحه القدوس للإرشاد والتعليم يوازر أتعابنا بالنجاح والفلاح لنرتشد ونرشد في طريق الحق عينه لمجد فادينا وخلاص كل من يقبل إليه بإيمان الحي الفعال “.
هذا ما سجله رئيس تحرير المجلة(مجلة المرشد) في الصفحة الأولى من العدد الذي ظهر يوم الجمعة 5 يناير 1894م وكان رئيس التحرير على ما نعلم المرحوم عطية شمس. وفي سنة 1908 استقال المرحوم عطية شمس وتعين المرحوم الشيخ متري صليب الدويري رئيسًا للتحرير ورئيسًا لتحرير “نجم المشرق” أيضًا.
ويذكر أديب نجيب في الدراسة المشار إليها سابقًا: أن النشرة الإنجيليَّة المصريّة هي أول صحيفة مصرية صدرت بمصر. وقد توقفت ” المرشد ” عن الصدور عام 1910. وعلى صفحات ” المرشد ” كتب القس غبريال الضبع ثلاث مقالات في عامي 1899و 1900 يدعو فيها إلى إنعاش الكنيسة ووسائل تحقيق ذلك وكانت ثمرة هذه المقالات بدء انعقاد احتفال الصلاة السنوي 1900م.
وفي 6 يناير 1911 ماتت المرشد وصدر أول عدد لمجلة ” الهدى “في مدينة الإسكندرية وكانت أسبوعية بنفس نظام المرشد في ثماني صفحات و اتخذت شعارًا لها الآيتين “لكي يهدي الرب أقدامنا في طريق السلام” (لو 1: 79)، “والرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله ” (1تس 3: 5) وكانت تطبع في مطبعة جرجي غرزوري بشارع فرنسا بالإسكندرية كانت مادتها عبارة عن مقالات روحية طويلة وقصص كثيرة جدًا تساعد الراعي في تحضير مادة مواعظه، وبعض الأخبار والإعلانات السنودسيّة وظلت الهدى تصدر أسبوعيًا حتى عام 1935 ثم تعدل عدد مرات صدورها في السنة فأصبحت تصدر بمعدل 20 عددًا في السنة وبعدها أصبحت تصدر شهريًا.
تُظهر هذه الديباجة تمسّكَ الكنيسة الإنجيليّة آنذاك بعروبتها، كما أنّها تؤكد على أنّ الكنيسة الإنجيليّة كانت تدرك، آنذاك، ضرورة التعبير عن إيمانها بطريقة قرينيّة. كتبت “الهدى” تقول:
الحمدُ لله ربّ الهدى،
المانح لعباده المتقين
الحكمةَ، والحجى،
المنير بوحيه الصادق حنادسَ الدجى،
الحافظ مَنْ اتبع صراطه من الغوايّة،
والهوى،
المرشد المعتصمين بعروةِ إنجيلهِ الوثقى،
إلى محبته الوسطى،
المعلن حقّه في إنجيلٍ طاهرٍ،
تنزيلٌ سماويٌ هو النور الباهر،
المدبر خلاصًا لجميع بني البشر،
في مسيحه الإله المتأنس،
والإنسان البار المقتدر.
هذا ولمّا كان الإنسان قد ضلّ عن الهدى،
وسار في سبيل الغوايّة والهوى،
وأطاع الوسواس الخناس،
الذي يوسوس في صدور الناس.
وابتعد عن ربه الأعلى،
الذي خلق فسوى.
فصار مستحقاً لنار الله الموقدة،
التي تطّلع على الأفئدة.
إنّها عليه مؤصدةٌ،
في عَمَدٍ ممدّدة،
فلم يشاء إلهُ المحبة الحكيم أن يترك كلّ البشر واردين على نار الجحيم،
ليقاسوا فيها العذاب الأليم.
ويقيموا فيها خالدين جزاء شرهم العظيم.
فأنزل كتابَه الحقّ:
التوراة،
والإنجيل الثمين،
من عنده
هدىً،
ونورًا،
ورحمةً للعالمين.
“يُظهر هذا النص، بما لا يدع مجالاً للشك، وعيًا مستنيرًا بالقرينة العربيّة والإسلاميّة التي كانت، وما زالت الكنيسة تعيشها في الشرق الأوسط. كذلك، يظهر مدى مرونة الكنيسة الإنجيليّة في تبني تعبيرات إسلاميّة، مأخوذة بشكلٍِ مباشرٍ من نص القرآن الكريم، أو بشكل غير مباشر من الصيغ الإسلاميّة. تقتبس الديباجة الحديث عن الوسواس الخناس، الوارد ذكرُه في سورة الناس 4-5، كذلك، الحديث عن النار والأفئدة، وهو اقتباسٌ مباشر من سورة الهمزة 6-9، كذلك الاقتباس من سورة المائدة 46 في وصفه للإنجيل: بالهدى وبالنور”[6]
وفي سنة 1936 سلمت المرسليَّة الأمريكيَّة إدارة المجلتين (الهدى – نجم المشرق) للسنودس وعبر كاتب ومحرر جولة الأسبوع في عدد 16 يناير 1954 على هذا الحدث بالقول وبالرغم من ثقل هذه المسئولية فقد قام السنودس بها ولا يزال مطمئنًا إلى رعاية وتعضيد الكنيسة والذين يعرفون شيئًا عن الصحافة يدركون متاعب القائمين بالأمر خصوصًا في ما يتصل بالصحافة الدينيَّة. ولكن المحرر لا يستطيع إلا أن يعترف بالفضل لذويه ممن أرسلوا نفثات أقلامهم ومن أرسلوا اشتراكاتهم ومعونتهم المالية وذكرت إشارة ذكرها المحرر في هذا العدد أن يتغير حجم المجلة وجعلها أوسع رحابًا حتى تتمكن من قبول أكبر كمية من نفثات أقلام الكتاب.
ومن خلال العرض التاريخي السابق نجد أنَّ الصحافة الإنجيليَّة بمصر وإنْ بدأت بمجلة النشرة الإنجيليَّة المصريّة 1864 ولكن عبر مسارها التاريخيّ، نمت، وازدهرت؛ فخلال مائة وأربعون عامًا نسمع ونقرأ عن النشرة الإنجيليَّة المصريّة 1864م، المرشد 1894م ، الهدى 1911م، نجم المشرق 1900.أجنحة النسور 1959، أعمدة الزوايا 1957، رسالة النور 1956.وأصبحت هذه الصحافة معبرة عن فكر ورأي الكنيسة الإنجيليَّة بمصر، والتي نتمني لها الدوام ومزيد في الفكر والإبداع.
-
مجلة الهدى: النموذج الصحفي المتميز في الاستمرارية والأداء
تدخل الهدى العام عامها المائة (1911 – 2010) خلال هذا القرن من الزمان: “سطرت المجلة عبر صفحاتها جزءًا كبيرًا من تاريخ الكنيسة الإنجيليَّة في مصر، بحيث أصبحت المرجع الأول لدي الباحث في هذا التاريخ، وكان للهدى عمقها الروحيّ، كما كانت لها إسهاماتها الإعلامية الكبيرة. وعبر هذه السنين تطورت أنماط المواد التحريريّة، وتطور حجم المجلة كما تطور أسلوب طباعتها وإخراجها، حتى غدت الآن واحدة من أرقى بضع مجلات مسيحيّة عربيّة في منطقة الشرق الأوسط”.[7]
كانت مجلة الهدى ومازالت لسان حال الكنيسة بل هي المرآة التي تعكس فكر الكنيسة على صفحاتها، وتميزت عبر تاريخها الطويل بنشر الخبر والدراسة، والقصة، والحوار، والتاريخ، وعرضت على صفحاتها قضايا كثيرة تخص الكنيسة والمجتمع.
واستمرارية مجلة الهدى حتى الآن عبَّر عن اهتمام الكنيسة بالنشر وأن يكون لها مجلة ناطقة باسمها، معبرة عن فكرها.
وبالحق أقول: من خلال اضطلاعي على أعداد مجلة الهدى في سنواتها السابقة، وعلى المراحل المختلفة في أجيالها وكتّابها هي بحق شعاعة فكر، وطريق نضال. وإنْ كان المرجو من المجلة أكثر من ذلك بكثير فهذا يحتاج إعادة نظر من المهتمين والمهمومين بقضايا الإعلام والصحافة الإنجيليَّة بمصر.الاستمرارية والأداء المتميز هما ما يميز الصحافة الإنجيليَّة متمثلة في مجلة الهدى.
-
الهدى مصدر من مصادر تاريخ الكنيسة الإنجيليَّة بمصر.
هل يمكن الاعتماد على الصحافة لكي تكون مصدرًا من مصادر التاريخ؟
هذا السؤال يشغل بال الكثيرين من الباحثين في مجال التاريخ في علاقتهم بالصحافة، وهذا يقودنا إلى التنبير على أهمية المعلومات الصحفية يقول عبد المالك خلف التميمي: “وعندما نتطرق إلى أهمية المعلومات التي تتناولها الصحافة يمكننا الجزم بأنه لا يستطيع باحث تاريخيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو غيرهم أن يتجنب الرجوع للمادة المنشورة في الصحافة عند بحثه في قضية من القضايا المعاصرة. إنَّ معرفة طبيعة الأوضاع السياسيَّة والاقتصادية والاجتماعية والثقافيَّة لبلد ما في مرحلة ما يمكن الوصول إليها عن طر يق ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى من معلومات في الوقت الحاضر فالصحافة لا تقتصر على مجال دون آخر فهي مرآة لما يجري في الواقع من جهة كما أن هناك صحافة رأي وتحليل حول وقائع كثيرة ومهمة حدثت وتحدث في الواقع من جهة أخرى وهل يحتاج الأمر إلى أدلة وأمثلة لنؤكد ذلك؟ يكفي أن نلقي نظرة على ما نشرته الصحافة عن أحداث معينة خلال فترة معينة سواء كانت تلك الأحداث سياسية أم اقتصادية أم غيرها لنتأكد من أهمية وخطورة المعلومات التي نُشِرت خاصة في الماضي القريب. ويمكن القول أيضًا أن هناك سياسات واستراتيجيات قد سقطت وأخرى شُيدت بناء على معلومات نشرتها الصحافة، فالصحافة شاهد عيان على ما يحدث ومن خلالها يمكن قياس توجهات الناس ونبض الشارع والتعرف على مشكلات المجتمع”.[8]
ومن خلال هذا التوجه السابق تعتبر الصحافة مصدرًا من مصادر التاريخ كذلك أيضًا تعتبر الصحافة الإنجيليَّة بمصر (الهدى نموذجًا) مصدرًا من مصادر التاريخ الكنسيّ فمن خلال الصحافة الإنجيليَّة بمصر نعرف توجهات الكنيسة في كافة القضايا الدينيَّة والثقافيَّة والوطنيَّة في زمن معين.ولقد وضع أديب نجيب مجلة الهدى ضمن مصادر التاريخ الكنسيّ في الشرق الأوسط.[9]
-
مجلة الهدى ديوان الحياة الكنسَّية المعاصرة.
على غرار ما سبق الإشارة إليه باعتبار الصحافة مصدرًا من مصادر التاريخ تصبح مجلة الهدى كما أشرنا مصدرًا من مصادر التاريخ الكنسيّ في مصر فهي تصبح ديوانًا للحياة الكنسيَّة في مصر. وفي الاحتفال باليوبيل الماسي لمجلة الهدى كتب صموئيل حبيب: “إن تاريخ الهدى هو تاريخ الكنيسة الإنجيليَّة.”[10]، وكتب أيضًا يقول: “إنَّ الهدى هي المجلة المسكونيَّة الأولى ببلادنا المصريّة بل أنني أقول الحق أنها مجلة الخبر المسكونيّ في العالم العربيّ … إنَّ الهدى مجلة الفكر النزيه، الثأئر، المتحرك، لقد أخذت الهدى على عاتقها أن تنشر “الخبر” الذي يثير الفكر، ويدفع للعمل، ويواجه التحديات، … إنّ الهدى هي قصة الكنيسة في مصر كل يوم” [11]
وعلى صفحات مجلة الهدى نادى صموئيل حبيب أيضًا بأن: “تحمل الكنيسة دورها القوميّ كجزء أصيل من رسالتها والكنيسة في مشتمل عملها تعتبر أن تأكيد حب الوطن والمواطنة الصادقة بالانتماء عمل هام من أعمالها”.[12]
لم تهتم مجلة الهدى بالبعد الداخليّ للكنيسة فقط بل عاشت أحداث الوطن خرجت من نطاق الذات إلى الآخر فنشرت الخبر المسكونيّ وعبرت عن دور الكنيسة الأصيل المليء بالوطنيَّة والانتماء والوحدة الوطنيَّة تجاه أبناء الوطن الواحد مع الاحتفاظ بالتميز الدينيّ صاحب الاتجاه والبعد التنويريّ في مصر.
-
الهدى: الهوية والرسالة.
وبالرجوع إلى العناوين الفرعيّة التي تأتي بعد الهدى والتي أخذتها الهدى تعريفًا لها وتحديدًا لاتجاها مثل: جريدة دينية أدبية تصدر كل أسبوعين، مجلة الكنيسة الإنجيليَّة بوادي النيل، شعاعه فكر وطريق نضال، مجلة الكنيسة الإنجيليَّة بمصر تأسست 1911، التاريخ مرآتنا والمستقبل مرجعيتنا.هذه التعريفات أسوقها على سبيل المثال وليس الحصر بالإضافة أنَّ كلمة الهدى وهي كلمة عربيَّة أصيلة كان في تصميمها دائمًا شمسًا تصدر أشعة أو نفس المعنى كخلفية لكلمة الهدى إلى أن أخيرًا ترسم الشمعة داخل كلمة الهدى، ولعل هذا له مغزى عن إعلان الهويّة والرسالة.
فالهدى مجلة مصريّة وطنيّة إنجيليّة أصيلة، هي لسان حال الكنيسة الإنجيليَّة بمصر رسالتها دينية تنويرية تحمل الفكر المستنير أساسًا لرسالتها، وهي دائمًا في طريق النضال بالكلمة والرأي والفكر المصلح الذي يصلح ويجدد ذاته باستمرار؛ فهي مجلة الكنيسة الإنجيليَّة بمصر رائدة التنوير في العالم العربيّ.
ولا نكون مجاملين إذا قلنا أن مجلة الهدى هي عبر تاريخها الطويل هي درة الصحافة الإنجيليَّة بمصر وهذا من منطلق هويتها ورسالتها وعن رسالة الهدى يذكر لنا صموئيل حبيب: ” حملت الهدى رسالتها الصحفية بأمانة عبر سنوات طويلة كانت الهدى أمينة للقارئ. قدمت له الخبر الصحيح، والرأي الصحيح قدمت الهدى للقارئ إلى جانب ذلك مقالات ودراسات في شتى المجالات، حملت الهدى الرسالة بأمانة للكنيسة ففي مرحلة التغيير الكنسي عاونت الهدى على نشر الفكر والرأي كانت الهدى وستظل أمينة للفكر والفكر الآخر سمحت الهدى للمقالات التي تحمل الفكر دون الإساءة للأفراد كانت الهدى وستظل مجلة الرأي العام الكنسيّ … مجلة الجميع ” [13].
شاركت الهدى في الرسالة العامة للصحافة الإنجيليَّة التي تتبناها الكنيسة الإنجيليَّة في مصر، فبالإضافة إلى الهدى وهي مجلة الرأي والخبر المجلة الرسمية للكنيسة الإنجيليَّة بمصر نجد مجلة ” أجنحة النسور ” مجلة الثقافة المسيحية، وهي مجلة مستقلة أُسست عام 1959، يقدمها أفراد وأبناء الكنيسة على مسئوليتهم الشخصية، “ورسالة النور” أُسست عام 1956 وهي مجلة التنمية الاجتماعيذَة، وتصدر عن الهيئة القبطية الإنجيليَّة للخدمات الاجتماعية. ومجلة “أعمدة الزوايا” أُسست عام 1957 وهي مجلة المرأة الإنجيليَّة تصدرها شهريًا رابطة السيدات العامة لسنودس النيل الإنجيليّ ويذكر صموئيل حبيب عن مجلات الكنيسة بالقول: “إنَّك لا تستغني عن واحدة منها فكل واحدة تعطيك اتجاهًا فكريًا مناسبًا. إنها مجلات العصر تطابق العصر الحاضر، وتواجه مشكلاته وهي مع ذلك تتمسك بالحق القويم في كتاب الله دون أن تمسه. إنهن أخوات يمثلن صحافة راقية رسمية عميقة إنك لا تستغني عن واحدة منهن.”[14]
وفي جولة العدد كتب رئيس التحرير، لبيب مشرقي في الهدى يناير 1977 صـ4 عن الهدى ورسالتها: “كانت رسول الارتباط بين أبناء الكنيسة في مصر وفي الشرق العربيّ كله واستطاعت أن تجد طريقها غربًا إلى أوربا وأمريكا، بل قد استطاعت أنْ تسير إلى روسيا … وظلت رسالتها رسالة الحق، دافعت بكل يقين عن هذه الرسالة، وهي تذكر بالشكر لله أن كثيرين عضدوها بصلواتهم ومقالاتهم وبأموالهم وبتشجيعاتهم وقد بدأت أُراجع أعداد المجلة لأسجل أسماء الذين حملوها على قلوبهم، إنَّه سجل فخار للكنيسة الإنجيليَّة قسوس وشيوخ وشمامسة وعلمانيون ومبشرون، سجل طويل للكنيسة أن تفخر به.
ثانيًا: الهدى وأحداث الوطن
دراسة مبنية على الوثائق التي نشرتها الهدى
مقدمة:
تفاعلت الهدى- مجلة الكنيسة الإنجيليَّة بمصر مع الأحداث المصريّة العامة، وظهر هذا في بعض الوثائق التي عبرت عن رأي الكنيسة صراحةً في الأحداث الجارية والمعاصرة، وبذلك تكون مجلة الهدى هي صوت الكنيسة الناطق في تفاعلها مع قضايا الوطن. وبالرجوع إلى أعداد مجلة الهدى وقرأتها نجد فيها مادة غنية للبحث عن دور الكنيسة الوطني تجاه قضايا الوطن وأحداثه والصحافة الإنجيليَّة ( الهدى نموذجًا ) جزء من الصحافة العامة التي دخلت قاموس المصادر لدى الباحثين في التاريخ الكنسيَ والوطنى المعاصر، ولا يمكن الاستغناء عنها لما تحتويه من معلومات تنير لنا الطريق وتوضح لنا تاريخنا المجيد الذي أعطى مجالًا لحرية الكلمة والنشر وحرية إبداء الرأي، والديموقراطيّة.
إنَّ الصحافة الإنجيليَّة بمصر(الهدى نموذجًا) عبَّرت عن الحس الدينيّ التنويريّ العميق، والبعد الوطنيّ الأصيل، الذي يأتي من إدراك وفهم للواقع المصريّ بهمومه وثقافته، وقضاياه، وأحلامه.
والصحافة الإنجيليَّة بمصر (الهدى نموذجًا) هي آله من آليات إعلان الفكر وتوثيقه؛ فهي مرآة عكست ومازالت تعكس فكر الكنيسة تجاه القضايا الداخلية (الكنسيَّة) والخارجية (الوطنيَّة). ويصبح الدور الكنسيّ تجاه الأحداث متحركًا فاعلاً، وليس ساكنًا جامدًا. فالكنيسة جزء أصيل من كيان المجتمع وهي مؤسسة من مؤسسات المجتمع. ولقد ظهر اتجاهًا واضحًا على صفحات مجلة الهدى عبر تاريخها الطويل أُلخصه في كلمتين:
الأولى: الخصوصية
التميز الدينيّ والمذهبيّ الذي حمل فكر الإصلاح وعمل النعمة المجانيين مع احترام كافة العقائد الأخرى المسيحية منها والإسلاميّة على حد السواء وظهر هذا من خلال الاتجاه المسكونيّ الذي ظهر بعد تكوين مجلس الكنائس العالميّ 1948 ومجلس كنائس الشرق الأوسط وظهور اتجاه يتبنى قيمة الحوار الدينيّ Interreliguos-Dialouge وفهم الآخر كما هو.
الثانية: الانفتاح
بجانب التميز الديني نجد الاندماج الثقافيّ في معرفة القضايا والأحداث والكنيسة جزء فاعل من خلال أبنائها وأعضائها الذين يعملون في كافة المؤسسات الوطنيَّة. ولقد عبرت الهدى على دور الكنيسة فتقول: “لا تقدر الكنيسة أن تنتزع نفسها من موقعها البشري، وبالتالي تقف الكنيسة مسئولة عن ممارسة دورها الحقيقي داخل المجتمع، فللكنيسة دور سياسيّ اجتماعيّ هما من صميم دورها الروحيّ. ودور الكنيسة يشمل اهتماما بالقيم كاهتمامها بالممارسة، ودور الكنيسة القوميّ بعضه في إبداء الرأي، والبعض الآخر في المشاركة الفكريَّة والعمليَّة، والكنسيَّة تحتاج بين الحين والآخر أن تعلن عن رأيها وتمارس حقها.” [15]
وعبرت المجلة في وقت أخر بالقول: “الكنيسة ليست قوقعة مستقلة عن المجتمع لكنها جزء منه، فكل فرد من شعب الرب يعيش حياته اليومية في المجتمع ويسهم فيه بحسب مهاراته ويصبح عضوًا صحيحًا في الكيان الإنساني القائم، فإن الدعوة للمواطنة دعوة ليكون كل شعب الرب عضوًا حيًا يخدم الوطن ويسعى لرفاهية الإنسان إنها دعوة ليدرك كل فرد مسئولية حقوقه والمواطنة الصادقة تهتم بالمسئوليات قد اهتمامها بالحقوق التي تدفع المواطن لأن يكترث لمطالب المجتمع واهتمامه قدر اكتراثه لمطالب الفرد وحقوقه.” [16]
[1] أحمد طاهر حسنين: دور الشاميين المهاجرين في النهضة الأدبيَّة الحديثة، دمشق: دار الوثبة. طـ1 1983 صـ 80
[2] أنيس الفصولي: أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر. حققه وقدم له الدكتور عبد الله الطباع. بيروت. دار ابن خلدون طـ1 1985م صـ 57، 58.
[3] رياض سوريال : المجتمع القبطي في مصر في القرن (19). القاهرة مكتبة المحبة ص181.
[4] الهدى مايو 1985 صـ 20- 21.
[5] الهدى 16 يناير 1954 صـ 1
[6] وجيه يوسف، تطور اللغة العربيّة، المؤتمر الدوليّ الرابع للمخطوطات، مكتبة الإسكندريّةن مايو 2007م.
[7] الهدى مايو 1985 صـ 20
[8] عبد الملك خلف التميمي: الصحافة هل تنفع مصدرًا للتاريخ. مقال مجلة العربي الكويتية يناير 2004، العدد 542 صـ 20-23 .
[9] أديب نجيب. دراسات في تاريخ الكنيسة الإنجيليَّة في الشرق الأوسط. ما قبل تأسيس الكنيسة الإنجيليَّة المصريّة. ملحق مجلة الهدى عدد سبتمبر وأكتوبر 2003 صـ10. يضع الأستاذ أديب نجيب مجلة الهدى ضمن الدوريات كمصدر من مصادر التاريخ الكنسي في الشرق الأوسط.
[10] الهدى مايو 1985 صـ 2.
[11] الهدى فبراير 1978 صـ 3.
[12] الهدى نوفمبر وديسمبر 1989 صـ 2.
[13] الهدى يناير 1991 صـ2.
[14] الهدى ديسمبر 1977 صـ3 يتحدث الدكتور القس صموئيل حبيب في ذلك الوقت في باب ريشة العدد عن ثلاث مجلات فقط وهي ( الهدى، رسالة النور، أجنحة النسور ) ويمكن تطبيق كلامه على كافة الصحافة الإنجيليَّة في عصرنا الحاضر.
- بالرجوع إلى الهدى أكتوبر ونوفمبر 1993 صـ 19- 23 يتحدث الأستاذ أديب نجيب عن “الصحافة الإنجيليَّة في مصر والشرق الأوسط ” يعدد في هذه الدراسة المجلات والصحف الإنجيليَّة التي ظهرت في مصر حسب ترتيبها تاريخيًا فيذكر:
النشرة الإنجيليَّة المصريّة 1864، المرشد 1894، الهدى 1911، القول الحق 1898،مصباح الشرق 1898، برهان الحق 1899، نجم المشرق 1900، المحيط 1901، بشائر السلام 1901، بوق القداسة 1903، الشرق والغرب 1904، كوكب الصبح 1909، المرشد المدرسي 1912، المراعي الخضراء 1920، بوق القداسة 1920، صحيفة المساعي 1927، المثال المسيحي 1927، رسالة السلام 1935، بشير الإنجيل 1936، رسالة الخلاص 1948، الأخبار السارة 1951، أعمدة الزوايا 1957، أجنحة النسور 1959.
[15] الهدى يناير 1992 صـ3.
[16] الهدى مايو ويونيو 1983 صـ 22.