العقيدة الإنجيلية حول القديسة مريم العذراء
الهدى 1212 أغسطس 2019
في سوق العمل حينما يتقدم شخص لوظيفة ما يُطلب منه أن يقدم السيرة الذاتية ويكون اختيار في الغالب في الأماكن التي ليس بها وساطة والتي تعمل وفق معايير معينة حسب ما كتب الشخص في سيرته وفق من هو؟ وما هي مؤهلاته؟
تتشكّل نظرة الإنجيليين عن مريم العذراء على أساس عاملين أساسيين: العامل الكتابي، والعامل التاريخي. بالنسبة للعامل الكتابي: فالإنجيلين وانطلاقًا من مبدأ الكتاب المقدس وحده، هو المصدر الوحيد للعقيدة والحياة، يتمسكون بما يورده الكتاب المقدس عن مريم العذراء. أما العامل التاريخي، فهو زمن الاصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر، اذ احتج المصلحون الإنجيليون على المبالغة في النظرة إلى مريم، التي أخرجتها عن الإطار الطبيعي الذي يعلنه الإنجيل، وحجبت مريم العذراء الأنظار عن الرب يسوع المسيح، رئيس إيماننا ومكمله.
بالنسبة العامل التاريخي، فإنه في زَمَن الإصلاح الإنْجيلي في القرن السادس عشر، احْتَجَّ المُصلِحون الإنْجيليون على الكثير مِن المُمارسات التي كانَت شائِعَة في الكنيسة آنَذاك في أوروبا، ومِنْها المُمارَسة التي ارْتَبَطَت بمَرْيم العذراء التي سادَها الكثير مِن المُبالَغة والتَّمجيد إلى حَدِّ العبادة والتَّألِيْه. وقَدْ رأى المُصلِحون الإنْجيليون أنَّ تلك المُمارسات خَرَجَت عَن إطار تعليم الكتاب المقدس وسِجِلّ الكنيسة الأولى في سِفْر أعمال الرسل. وأخْرَجَت مريم عن إطارها الكتابي وأُطْلِقَ عَلَيْها الكثير مِن الألقاب المُخْتلفة التي لَمْ يُطْلِقها الكتاب المقدس عليها. فسُمِّيَت «شَريكةٌ في الخَلاص»، «أمّ الرَّحْمَة»، «شَفيعَة بَيْنَ السَّماء والأرض»، «مُوزِّعَة النِّعَم»، وغيرها مِن الألقاب التي لا يجوز أنْ تُطْلَقَ إلاَّ على شَخْصِ الرَّب يسوع المسيح وَحْدَه. فتحوَّل تَمْجيدها عقيدة مَرْيمِيَّة. لهذا مُدِحَت ومُجِّدَت، وأُقِيْمَت لها الصَّلوات والقَداديس والاحْتفالات. في هذا الجَوّ مِن المُبالَغَة في تَمْجيد مريم العذراء، بَرَز المُصلِحون الإنْجيليون في القَرْن السادس عشر، فنَقَدوا تِلْك المُمارسات المَرْيمية المُبالَغ فيها، التي أخْرَجَتْها عن كَوْنِها مَخْلوقاً لتُنافِس شَخْص المسيح في العِبادة والشَّفاعة والوَساطَة، بل وتَحْجُبُه عَن الأنْظار وتَحُلّ مَحَلَّهُ في بَعض الأحيان. وقَدْ كانَت ردَّة فِعْل المُصلِح مارتن لوثر، هي أن تُلْغَي كُلّ مُمارسةٍ لها علاقة بمريم العذراء، حتى لا يَبْقى المسيح الرَّب مَحْجوباً عن أنْظار المؤمنين. وهكذا رَفَع المُصلِحون شعار العودة في العبادة والعقيدة، إلى الجذور الأولى، إلى كنيسة الرسل التي شدَّدَت على مركزية الرَّب يسوع المسيح في كلّ الحياة، كَيْما تستَعِيد مريم العذراء مكانَتها ودَورها الطَّبيعي الإنْجيلي الذي يُعْلِنه ويعلِّمه الكتاب المقدس.
إلا أنه بالرغم من انتقاد المصلحين لتلك الممارسات المبالغة التي سادت حول مريم آنذاك ، فقد حافظوا على النظرة الكتابية في تكريم مريم العذراء في روحانيتهم ووعظهم وتأملاتهم. فالمصلحون الرئيسيون الثلاثة مارتن لوثر، جون كلفن، وأولترخ زوينكلي، كرّم كل بدوره مريم العذراء كما يسمح الإنجيل بتكريمها. في تفسير قول الملاك لمريم: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». ومديح اليصابات لمريم: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ (لوقا 5: 28 و42 و43) قال المصلح جون كلفن: «لا نستطيع أن نفرح بالنعمة المعطاة لنا في المسيح، دون أن نتذكر في الوقت عينه سمو الإكرام الذي منحه الله لمريم حين اختارها لتكون أمًا لابنه الوحيد وحين كلّمها الملاك بالكلام الذي قالته لها اليصابات». أيضا أضاف كلفن: «لا يمكن أن ننكر بأنَّ الله باختيار مريم لتكون أم ابنها، قد منحها الشرف الأعظم. أما مارتن لوثر فقال بأنَّ «اليصابات استخدمت كلمات رائعة لم تسمعها إمراة في الكون، فمريم هي أكثر من امبراطورة أو ملكة، هي أعظم من حواء وسارة … ولا نستطيع تكريمها كفاية، فتكريمها محفور في أعماق قلب الانسان. وعلى المسيحي أن يدرك حقيقتها ويحترمها «. أما المصلح زوينكلي فقال:» كلما أحببنا واحترمنا المسيح أكثر، فإننا نقدّر ونحترم مريم العذراء أكثر فأكثر، لأنها حملت لنا المخلص في أحشائها». إن نظرة الإنجيليين إلى مريم العذراء انسجمت مع مضمون الكتاب المقدس، فهي لم تحجب المسيح، ولم تقلل من سيادته المطلقة على الحياة، بل كما قالت للخدام في عرس قانا «مهما قال لكم فافعلوه» (يوحنا 2: 5).
وهنا لابد من التذكير أن جميع المصلحين الإنجيلين الرئيسين، قبلوا بالتعبير الكريستولوجي اليوناني (ثيوتوكوس) والذي يعني «والدة الإله « أو «حاملة الإله» الذي أُقِرّ في مجمع أفسس سنة 431، ثم تثبّت في مجمع خلقدونية سنة 451، وقد أقرّ آباء الكنيسة هذا التعبير، لا لوصف شخص مريم العذراء، وإنما للتشديد على الطبيعة الانسانية للإله المتجسّد يسوع المسيح والتي هي متّحدة مع طبيعته الإلهية وإنما متمايزة عنها. وبالتالي، فالمسيح ذو طبيعة إنسانية، لأنه وُلِد من والدة بشرية هي مريم العذراء، وذو طبيعة إلهية كونه ابن الله الأزلي. لقد أوضح اللاهوتي الإنجيلي المعاصر كارل بارت، هذا التعبير بقوله: «من خلال مريم العذراء، ينتمي المسيح إلى الجنس البشري. ومن خلال المسيح فإنّ مريم هي والدة الإله». كما أوضح كارل بارت «يجب على الإنجيليين ألا يقلقوا من استخدام تعبير «والدة الإله» لمريم العذراء، ولكن شرط أن يُفهم هذا التعبير بمعناه الحقيقي، أي للتأكيد على طبيعتي الرب يسوع الإلهية والإنسانية، ولكن إذا ما أسيء فهم هذا التعبير، فالأفضل أن لا يستخدم». وفي تعليقه على بشارة الملاك جبرائيل لمريم، أيضًا قال كارل بارت: «عندما بشّر الملاك جبرائيل مريم العذراء، كان هناك كلمة مدح وكلمة تحذير. فقد مدح الملاك أهمية اختيار نعمة الله لها، مما يدل على أنها أعظم من كل الشخصيات أعظم، من إبراهيم وموسى وداود ويوحنا المعمدان، فهي دون أي شك، الشخصية المميزة في الكتاب المقدس. لكن هناك أيضًا كلمة تحذير، لأننا سنسيئ فهم حقيقة ودور مريم إذا ما بقينا في المدح. وكلمة التحذير لنا، هي أن نتذكّر أن مريم احتاجت لنعمة الله. فالله يأتي إليها ليكون معها ويجعلها مميزة. وبالتالي، فميزتها ليست من ذاتها، بل لأن الله أنعم عليها وميّزها وباركها، لأنها سمعت صوته وقبلت دعوته لتكون أداة لتجسد ابنه يسوع.
تلتقي الكنائس الإنجيلية مع الكنائس الأخرى الشقيقة في بعض الأمور التي ذكرناها، حول مريم العذراء، ويختلفون معهم في عقيدتين أساسيتين، هما:
(1) عقيدة الحَبَل بِلا دَنَس، التي أعْلَنها سنة 1854م البابا «بيوس» التاسع. وتفيد بأنَّ العذراء حُفْظَت مِن تلوُّث الخطيئة الأصلية مُنْذُ اللحظة الأولى للحَبَلِ بِها، بواسطة امْتياز فريد مِن الله. وهي عقيدة موحاة بِها مِن الله، كما أعلن البابا. إلاَّ أنَّ الإنْجيليِّين، وبما أن الكتاب المقدس الذي له السُّلطة العُلْيا، والمَصْدر الوحيد للعقيدة، وبما أنَّ هذه العقيدة لا تَذْكُرها الأناجيل، فهُم لا يقبلون بها.
(2) عقيدة انْتِقال مريم العَذراء إلى السَّماء بالجَسَد والنَّفْس، والتي أعلنها البابا «بيوس» الثاني عام 1950م. وتفيد بأنَّ العذراء وبَعْد حياتها على الأرض انْتَقَلَت بالجَسَد والنَّفْس إلى مَجْد السَّماء. إلاَّ أنَّ موقِف الإنْجيليِّين مِن هذه العقيدة هو الموقف نَفْسه، مِن عقيدة الحَبَل بِلا دَنَس، لأنّ لا أساس لها في الكتاب المقدس.
يبرز في العالم المسيحي الإنجيلي، ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم اهتماماً جديداً لإعادة تقييم النظرة إلى مريم العذراء على ضوء الصورة الحقيقية الاصلاحية والكتابية. يقول تيموثي جورج عميد كلية إنجيلية: «أنا أرجو من بروتستانت اليوم، أن يعودوا في التاريخ إلى المصلحين الإنجيليين، ليستعيدوا الصورة الحقيقية والإصلاحية والكتابية لمريم العذراء».
بعد سنين طويلة من الصمت الإنجيلي حول مريم، صدرت كتب ودراسات ومقالات جديدة كتبها إنجيليون لإعادة النظر إلى العذراء مريم، على ضوء التاريخ المُصلح والكتاب المقدس معًا.
مما لا شك فيه، يعتبر الإنجيليون، أنّ القديسة مريم العذراء، هي مثال لكل إنسان مسيحي، يريد أن يكون تلميذًا حقيقيًا للمسيح. فهي في عرس قانا قالت للخدّام «كل ما يقوله لكم المسيح أفعلوه». ومن الأقوال الجميلة التي سمعتها عن مريم، والتي تدعونا للتمثل بإيمانها وطاعتها وقداستها، أنَّ الرب يسوع المسيح لم يولد فقط من رحم مريم العذراء، لكنه ولد أيضًا من ايمانها وطاعتها وقداستها. فدعونا نتعلم من القديسة مريم العذراء الايمان، بالخضوع لإرادة الله، نتعلم من مريم أن نقدّم المسيح للعالم، في صلواتنا وأفكارنا وتصرفاتنا.