تراث الهدى

الفاتحة المقالة الافتتاحية للعدد الأول من مجلة الهدى

العدد 1                                                                                                                      الجمعة 6 يناير 1911

الحمد لله رب الهدى المانح لعباده المتقين الحكمة والحجى المنير بوحيه الصادق حنادس الدجي – الحافظ من اتبع صراطه من الغواية والهوى. المرشد المعتصمين بعروة انجيله الوثقى. الى محبته الوسطى المعلن حقه في انجيل طاهر، تنزيل سماوي هو النور الباهر. المدبر خلاصاً لجميع البشر. في مسيحه الاله المتأنس والانسان البار المقتدر

هذا ولما كان الانسان قد ضل عن الهدى. وسار في سبيل الغواية والهوى. واطاع الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس، وابتعد عن ربه الاعلى الذي خلق فسوى. فصار مستحقاً لنار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة. انها عليه موصدة. في عمد ممددة. فلم يشاء الله المحبة الحكيم. ان يترك كل البشر واردين على نار الجحيم. ليقاسوا فيها العذاب الاليم. ويقيموا فيها خالدين جزاء شرهم العظيم. فانزل كتابه الحق التوراة والانجيل المين من عنده هدى ونوراً ورحمة للعالمين، ولذا فقد اخترنا كلمة الهدى اسماً لمجلتنا بعد استخارة الله لا تحويه من المعاني السامية وتشير اليه من الاغراض الشريفة. فهو لغة مصدر على فعل كالعلى والسرى واصطلاحاً الرشاد والدلالة بلطف الى ما يوصل الى المطلوب. وقد جاء عن بعض الائمة الاعلام

ان الله منح الانسان اربع هدايات توصله الى سعادته «اولاها» هداية الوجدان الطبيعي والالهام الفطري ونكون للاطفال منذ ولادتهم فان الطفل بعد ما يولد يشعر بالم الحاجة الى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته (الثانية) هداية الحواس والمشاعر. وهي متممة للهداية الاولى في الحياة الحيوانية. و يشارك الانسان فيها الحيوان الاعجم بل هو فيهما اكمل من الانسان فان حواس الحيوان والهامه يكملان له بعد ولادته بقليل. بخلاف الانسان فان ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير (الثالثة) هداية العقل. و به يمتاز الانسان عن الحيوان لانه بالعقل يصحح غلط الحواس والمشاعر ويتبين اسبابه (الرابعة) هداية الدين فان العقل يغلط في ادراكه كما تغلط الحواس وقد يهمل الانسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية والنوعية. ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الملكة. فاذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل. واسترقت الحظوظ والاهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل – فكيف يتسنى الانسان مع ذلك ان يعيش سعيدا وهذه الحظوظ والاهواه ليس لها حد يقف الانسان عنده. ولا تغني عنه تلك الهدايات شيئاً، فاحتاج الى هداية ترشده في ظلمات اهوائه اذا غابت على عقله. وتبين له حدود اعماله ليقف عندها ويكف يده عما وراءها. ثم ان ما اودع في غرائز الانسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الاكوان ينسب اليها كل ما لا يعرف له سببا لانها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده. وبان له حياة وراء هذه الحياة المحدودة فهل يستطيع ان يصل بتلك الهدايات الثلاث الى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه ووهبه هذه الهدايات وغيرها وما فيه سعادته في تلك الحياة الثانية. كلا انه في اشد الحاجة الى هذه الهداية الرابعة وهي – الدين – وقد منحه الله تعالى اياها من منه وكرمه.

فيما تقدم يتضح لنا ان الراي متفق على ان المهدى هو هدى الله. وانه يأتي من الله راسا اذ لا يستطيع المخلوق من ملاك او نبي او رسول ان يهدي احدا لان الله قد حفظ لنفسه هذا العمل العظيم. وقد ابدت الكتب المقدسة من عهد قديم وعهد جديد هذه الحقيقة الناصعة فوردت فيهما كلمة هدى ومشتقاتها اكثر من اربعين مرة واغلبها يوه يد قولنا هذا. وفي فاتحة العهد الجديد قال زكريا عن المسيح انه النور المشرق من العلاء ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي اقدامنا في طريق السلام. وقال الرسول والرب يهدي قلوبكم الى محبة الله والى صبر المسيح، وان نظرة بسيطة الى حالة العالم وقت مجيء المسيح كافية لان تجعلنا ندرك انه كان في اشد الحاجة وقتئذ الى هدى سماوي كما هو اليوم ايضا لان ظلمة التقاليد اليهودية كانت قد سترت الحق عن الاعين فأمست الديانة طقساً بدون حياة ومع انها كانت خالية من شوائب الوثنية فإنها قد خلت ايضاً من روح التقوى والحياة الروحية التي تعمل على مبداء الانسانية العامة، وكانت الامم وقتئذ تتخيط في ديجور الفلسفة التي كانت تتلمس الاله الحقيقي ولكنها كانت اشبه بالمولودين في جوف مدينة ويكلكزيكا بالنمسا. وهي مدينة معادن تحت الارض يولد فيها المرء ويعمر ويموت وقلما يسمع عن وجود الشمس واذا سمع عنها فلا يدرك حقيقتها. هكذا كان حال الفلاسفة في ذاك الحين خارجين من ظلمات الوثنية بتلمسون معرفة الله واذ لم يكن لهم من يهدي سبيلهم اليه لم يستطيعوا بالحكمة ان يعرفوه. ولو سلمنا ان بعضهم توصل الى شبه معرفة بالاله الحي فانهم لم يعرفوا كيف يعبدونه وكيف ينالون رضاء وما هي علاقته بالبشر الخطاة. زد الى هذا ظلمات الوثنية المدلهمة بفضائحها وفظائعها وخرافاتها التي جعلت الناس مثل الاموات بل واجلستهم في ظلال الموت. فما كان احوج العالم من يهود وفلاسفة ووثنيين الى ظهور شخص قادر ان يهديهم الى النور الحقيقي ويسدد اقدامهم في سبيل السلام بل يكون هو الهدى بعينه. فجاء المسيح طاهرا لا عيب فيه وولد بكيفية خاصة به لم يسبقه اليها فى وان يناظره فيها مولود امرأة وعاش عيشة لم يكن عليها غبار ولا مسته فيها خطية ولا اصابه وزر من مهده الى لحده الى ان رفعه الله اليه حيا. وقد برهن للعالم على صدقه لا بفصاحة اللسان ولا بقوة البرهان بل بشرف المبادئ العملية التي سار بموجبها فغير بها صفحات تاريخ الكون تغييرا محسوساً و يعمل كفارته الكاملة الكافلة وبرضاه التام ان يخلص جميع البشر وباكتشافه طريقا جديدا لتطهير القلوب وذلك بإرساله اليها روحه القدوس ودوام عمل نعمته في النفوس. ولا يزال المسيح قائماً بعمل الهداية الى يومنا الحاضر لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي يقول رب الجنود. او ليست معجزة المعجزات ان يترك وراءه نفراً من فقراء يهود عصره حول لهم ولا طول فلم يمض على عملهم جيل او جيلان يحيط بهم السيف والنار وتتهددهم المذابح المخيفة والاضطهادات المريعة وتحاربهم القوة الرومانية الباطشة ولكن مع كل ذلك فقد تغلبت مبادئ، سيدهم على كل المبادئ.

الفلسفية والدولية وأصبح قوله المدى المبين هذا وان كنا نعترف بالأسف انه جاء زمن على المسيحية انطمست فيه معالم الحقيقة واشترى الناس الضلالة بالهدى فان جرثومة الحياة الكامنة في تعاليم المسيح لم يهدأ لما حال بل عملت بقوة الى ان انفجرت الحياة ظاهرة في اصلاح اور با دينيا وعلميا ومنها امتد الهدى الى سائر انحاء الكون وكأني بالغرب قد قام بما عليه للشرق واليوم اذا اردت ان ترى مبادي. المدنية الحقة ودلائل الانسانيه العاملة لخير الانسانية العامة والاخذ بناصر الضعيف والقيام بالواجب نحو الله والانسان. المبادئ التي تعتبر الانسان اخا للانسان لانه ابن الله مع غض النظر عن دينه وجنسه ومدنيته المبادي. التي تعلم بالعصبية العامة بين جميع افراد البشر. فإنك لن تجد ذلك على اكمل معانيه واتم مظاهره الا بين تابعي المسيح حتى اصبح البعيدون عنه يستصرخونهم ويستنجدونهم ويأخذون عنهم وينسجون على منوالهم و يتشبعون بمبادئهم ويتعشقون سبلهم ولو كانوا بعيدين عن احضان كنائسهم

ولما كان قصدنا في اصدار هذه المجلة تبيين المدى الحقيقي الا تي من عند الله في المسيح المرسل هدى للعالم واننا سنجعل جل ابحاثنا قاصرة على وصف كمال هذا الهدى وتثيره في النفوس بكيفياته الهادئة وطرقه السلمية والله يهدي قلوب جميعنا الى محبة الله والمسيح.

عن أرشيف مجلة الهدى مجلة الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى