الصليبقضايا وملفاتملفات دينية

المصلح مارتن لوثر ولاهوت الصليب

الهدى 1230                                                                                                          أبريل 2021

من المسائل الأساسية التي برزت في بنود لوثر الإصلاحية الـ 95 التي علّقها على باب كنيسة وتنبرغ في بداية دعوته للإصلاح، مسألة لاهوت الصليب، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم بيع الكنيسة لصكوك الغفران. فالفكر اللاهوتي لوثر تمحور حول يسوع المصلوب. قبل 4 سنوات من بدء إصلاحه، أي في عام 1513، شعر لوثر أن الصليب بمفهومه اللاهوتي والروحي الكتابي، كان خارج حياة المسيحيين. وقد عزى ذلك إلى سببين رئيسيين: السبب الأول: انتشار مفاهيم خاطئة عن التوبة. والسبب الثاني: سيادة ما سمّاه «لاهوت المجد».
بالنسبة للسبب الأول، كان مفهوم التوبة السائد في كنيسة القرون الوسطى، مؤلفًا من ثلاثة أجزاء في مراحل متتالية: مرحلة الندم على الخطية، ثم مرحلة الاعتراف بالخطية، وأخيرًا مرحلة الحصول على غفران الله. إلاّ أنّ الكنيسة، أدخلت ما بين مرحلة الاعتراف ومرحلة الغفران، مرحلة جديدة سميّت بمرحلة «أعمال الإرضاء»، والتي هي عبارة عن واجبات كنسية أخذت أشكال متعددة من أنواع قصاصات، كان يفرضها الكاهن على الإنسان المعترف بخطاياه، لبرهنة مدى جديّة اعترافه وتوبته. وقد تفاوتت، من قصاصات بسيطة: كزيارة مزار أو الذهاب لروية ذخائر لقديسين، إلى قصاصات أكثر تعقيدا: كالطلب من المعترف اعطاء أملاكه للدير أو الالتحاق بحملة صليبية، أو غيرها من الفرائض الأخرى. وقد اعتبرت الكنيسة هذه الفرائض، كصلبان جيدة على المعترفين أن يتحملوها طوعًا وبملء إرادتهم، لأن كل مسيحي مدعو إلى حمل الصليب. وقد علّمت الكنيسة، أنه يمكن للمعترف الحصول على إلغاء، لأعمال الإرضاء والقصاصات، واجتياز هذه المرحلة، للوصول إلى المرحلة الأخيرة، والتي هي نوال غفران الله، في الحياة الحاضرة، وأيضًا في بعض الأحيان شملت الحياة الأبدية، وذلك إذا ما قام المعترف بخطاياه بشراء صك غفران، من ما سمّي «كنز الاستحقاقات السماوي»، الذي هو عبارة عن بنك سماوي، يحتوي على حساب بالأعمال البارّة والحسنة الإضافية، للمسيح والقديسين، والتي هي ما فاض، من أعمال صالحة وبارة، وما زاد على البرّ المطلوب منهم، لدخولهم إلى السماوات. وبالتالي، بشراء المعترف بخطاياه لصك الغفران، فانه يمكنه يغطّي ما نقص لديه من أعمال صالحة وبرّ، ليصير مستحقّا لدخول السماء. لقد رأى لوثر رأى أن هذا المفهوم وتلك الممارسات الخاطئة، أفرغت صليب المسيح من معناه الذي يعلنه الكتاب المقدس، وأفقدت قوّة وفعالية الصليب في حياة المؤمنين. وهكذا ساهمت الكنيسة في تحويل تركيز المؤمنين، من قوة عمل الصليب، إلى قوّة صكوك الغفران. إن انتقاد لوثر، لأعمال الإرضاء وصكوك الغفران، ودعوته للنقاش والمناظرة اللاهوتية الأكاديمية، حول فعالية صكوك الغفران، في البنود الـ 95 التي علّقها على باب كنيسة وتنبرغ في 31 أكتوبر من عام 1517، كانت دعوة مفتوحة إلى تصحيح أخطاء هذه الممارسة، لإعادة قوّة صليب المسيح في مفهوم التوبة. في توضيحاته التفصيلية، التي أرسلها للكنيسة في العام 1518، للتحذير من خطورة صكوك الغفران على الحياة المسيحية، أجابت الكنيسة أن مارتن لوثر، يقلّل من قيمة وشأن صكوك الغفران، ويجعلها رخيصة ودون معنى. فرد لوثر قائلًا، «من الأفضل أن نقلّل من شأن صكوك الغفران، على أن نجعل صليب المسيح دون فعالية». قال لوثر، «على المسيحيين أن ينتبهوا من أخطار صكوك الغفران، لأن الكنيسة تنادي بها، بخلاف حقيقة الصليب، وتجعل الناس ينظرون إليها كإنجيل المسيح المقدّس من الله. فأعمال الإرضاء تنافس صليب المسيح». لهذا، دعا لوثر قادة الكنيسة إلى الغاء هذه الممارسة غير الكتابية. في البندين رقم 36 و37، من البنود الـ 95، التي أطلقها لبدء الاصلاح داخل الكنيسة، قال، «إن أي إنسان يتوب عن خطاياه توبة حقيقية، فإنه يشترك في جميع بركات المسيح، بدون صكوك غفران. فالتوبة الحقيقية تزيل، أعمال الإرضاء وصكوك الغفران». أما في البند رقم 62، قال لوثر، «إن كنز الكنيسة الحقيقي هو إنجيل مجد ونعمة الله. إن أخبار الإنجيل السارّة، هي حول ماذا فعل الله للإنسان في موت ابنه يسوع المسيح على الصليب. فإن الذي لديه هذا الكنز، لا حاجة له لأعمال الإرضاء ولا لصكوك الغفران».
أما السبب الثاني الذي رآه لوثر، وراء افراغ قوة الصليب من معناه أو كما قال الرسول بولس «تعطيل صليب المسيح» (1كورنثوس 1: 17)، كان، ما سمّاه لوثر، سيادة «لاهوت المجد». فلاهوتي المجد السكولاستيين، كما سماهم لوثر، تعلّموا من الفلاسفة اليونانيين أن يسعوا لمعرفة الله، من خلال إعلاناته في الطبيعة، بدلًا من أن يتعرفوا عليه في اعلانه الخاص عن نفسه في ابنه يسوع المسيح، وبالتحديد على الصليب. فلاهوتي المجد، اعتقدوا أنهم يستطيعون اكتشاف طبيعة الله غير المرئية، من خلال مصنوعاته المرئية التي تبرهن عن وجوده. وبالتالي، فقد بنوا لاهوتهم على القدرات الإنسانية العقلية، باستخدام معاييرهم البشرية كيما يقيّموا حقيقة الله. وبسعيهم هذا، ابتعدوا بعيدًا في تفكيرهم عن معرفة أهميّة الصليب في الحياة المسيحية، فيما ظنّوه أكثر أهميّة عن الله. فرّكّزوا على فضائل الله العامة: كفضيلة الحكمة والعدالة والصلاح وغيرها. والجدير ذكره، أن لوثر لمّ ينكر أهمية الادراك والانبهار والاندهاش بأعمال الله العظيمة في خليقته التي تعلن مجده. ولم يقلّل من أهمية صفات الله العامة، كالحكمة والعدالة والصلاح، لكنّه اعتقد أنه ليس من الكافي أن ندرك عظمة ومجد الله، فقط في إعلاناته في الطبيعة، بل يجب أن ندرك عظمته في خزي وعار الصليب. قال لوثر: «إن لم نعتبر موت المسيح على الصليب، كعمل الله الأعظم، كون هذا العمل يمنحنا الخلاص؛ إن لم يسمو عمل المسيح على الصليب على كل الأعمال والفضائل الأخرى؛ إن لم تتمحور حياة المسيحي حول الصليب، فإننا نُسيء استخدام هبات الله». اقتبس لوثر، كلمات الرسول بولس إلى أعضاء كنيسة كورنثوس، قائلًا: «لأني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا» (1كورنثوس: 2: 22).
لم يحاول مارتن لوثر اختراق أسرار الله، غير المعلنة في الكتاب المقدس. وقد أدرك أن هناك الكثير من الأمور المخبّأة في الله، والتي لا نعرف عنها شيئًا. اعتقد أن الحقيقة المسيحية لا تعلن بالعقل وحده، ولا في الأمور البديهية. قال في إحدى المرّات للمفكّر العظيم إيرسموس: « أفكارك عن الله إنسانية جدًا». اعتقد لوثر أنه، يجب أن نعرف الله، حيث أعلن عن نفسه، أي في الكتاب المقدس. فنظرة الإيمان هي التي تصنع الفرق. آمن لوثر أن الايمان هو عطية من الله، وليس قوة موروثة في الفكر الإنساني. لهذا للصليب منطقه الإيماني الخاص به، ومعرفة منطقه وأهميته، ممكنة فقط بعيون الإيمان وحده. وبالتالي، يجب أن ننظر إلى كل معنى حدث الصليب بالإيمان وحده. فبالنسبة للعيون البشرية، فقد بدى الصليب على أنه جهالة، أي الاقتصاص من إنسان ملعون من قبل الله. بدى الصليب وكأنه عثرة تقف في وجه إيمان اليهود. لكن لإظهار وجهة نظر عيون الإيمان وحده، اقتبس مارتن لوثر قول الرسول بولس، « نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة». (1 كورنثوس: 1: 23). وأيضًا، «فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة. وأما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله» (1كورنثوس 1: 18). وبالتالي، ما بدى فيه جهالة وعثرة، أي في الصليب، فقد ظهرت قوّة الله للخلاص، لأنه على الصليب أكمل المسيح عمله الفدائي العجيب على الصليب، إذ خلّص الناس من لعنة الخطيئة وصار لعنة لأجلنا. ان الأمر العجيب في حدث الصليب، هو أن جريمة صلب المسيح، الأكثر بشاعة في التاريخ البشري، كانت وفق إرادة الله. وما بدى الهزيمة الأكبر لله، انحدر منها بركات الخلاص للبشرية جمعاء. أمام هذه الحقائق الروحية التي يعلنها الانجيل، قال لوثر «على العقل أن يُغلق عينيه كيما يسود الايمان، حتى يستطيع الإنسان الخاطئ أن يفهم نظرة الله إليه كخاطئ، يحتاج إلى صليب المسيح ليخلصه من خطاياه». رأى لوثر في الصليب لقاء مع حقيقة الله، قال «يجب أن نبحث عن مجد الله في جلجثة الصليب».
وعليه، قدّم مارتن لوثر نصيحة روحية إلى صديقه الراهب، جورج سبنلايتن، قائلًا له: «عزيزي الراهب، تعلّم المسيح وإياه مصلوبًا. تعلّم أن تمجده ولا تعتمد على نفسك. قل له، أنت ربّي يسوع. أنت هو برّي، وأنا هو خطيّتك». اعتقد لوثر أن جوهر الإيمان المسيحي، يختصر في الصليب. ولاهوت المجد الحقيقي، لا نجده في لاهوت المجد، بل نجده في لاهوت الصليب. فالصليب ليس إلاّ مجدًا صافيًا. الصليب ليس إلاّ مجد الله الحقيقي.
لم يحصر لوثر لاهوته عن الصليب، فقط في معنى حدث الصليب، مع أنه الحدث الأعظم، لكنه رأى في هذا اللاهوت، المفتاح لفهم اختبارات الآلام البشرية. قال لوثر، «لم يكن صليب المسيح فقط للفداء، مع أنها فكرته الأساسية، إنما هو أيضًا اعلان عميق عن من هو الله وكيف يعمل مع خليقته». فصليب المسيح يعلن عن هوية المسيحي، الذي يجب أن يكون مستعدًا أن يحمل الصليب ويتحمّل الألم من أجل المسيح. فكما أظهر المسيح قوّته وجبروته بإعطاء نفسه، بشكل غير مشروط، من خلال آلامه وموته على الصيب، فإن الله يدعو أولاده، وبشكل غير مشروط إلى تقديم أنفسهم والتضحية في سبيل الآخرين، مهما سبّب ذلك من آلام. اعتقد لوثر أنه عندما ننظر إلى الصليب بعيون الايمان، فإننا نكتشف أن الله يعلن عن نفسه بشكل مخبأ عن الشكل الخارجي. قال، «الذي لا يعرف المسيح، لا يعرف الله المخبّأ في الألم». فلاهوتي الصليب، هو الذي يكرز بالله المخبّأ، في عمل المسيح الفدائي على الصليب. أنه الذي يعلن أن مواجهة الألم وحتّى الموت في سبيل المسيح أمر متوقع، ولكن دون محاولة السعي نحو الألم. فلاهوت الصليب، يقدّم هويّة سريّة لآلام المسيح وآلام الإنسان، ويدعو المسيحيين المؤمنين، لمواجهة الآلام بالإيمان والرجاء، وعدم الاندهاش والذهول، عندما يواجهون الألم. وانما عليهم أن يتوقعوا الآلام ويتحملوها عندما تأتي، ولكن يجب ألاّ يعتمدوا عليها من أجل خلاصهم. فلاهوتي الصليب، يجد أن مسيحية دون توقّع الألم، هي تناقض في التعبير. قال لوثر، «يجب علينا أن نكون مسحاء صغار بين جيراننا. لأنه عندما نقوم بذلك، نجد هويتنا الحقيقية كأولاد الله في الصليب».

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى