ترجمات الكتاب المقدس .. كلمة الله ولغات البشر
الهدى 1222 يوليو وأغسطس 2020
بين ليلة وضحاها، ومع الجدال القائم حول الترجمات الجديدة للكتاب المقدس، باتت ترجمات الكتاب المقدس هي حديث الساعة الذي امتلأت به كل وسائل التواصل الاجتماعي.
ربما الكثيرون لم يكُن لديهم الاهتمام من الأساس بموضوع ترجمات الكتاب المقدس إلى أن حدثت هذه الضجة الكبرى التي جعلتهم يدركون أهميّة وحساسيّة هذا الموضوع.
وبالرغم من توتر الأجواء وحدتها، إلا أنَّها قد تكون هي الفرصة الأكثر ملائمة للحديث عن هذا الموضوع بشكلٍ عام وتفصيلي.
أولًا: ترجمات الكتاب المقدس تأصيل كتابي:
لعلكم تتذكرون معي ما كتبه بيلاطس فوق صليب الجلجثة: «يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ» (يوحنا ١٩: ١٩-٢٠)، وكانت تلك الكلمات بلغات ثلاث: العبريّة لغة اليهود لمكانتها الدينيّة الخاصة، اليونانيّة لغة الثقافة والعلوم، اللاتينيّة لغة السلطات الرومانيّة والقانون والنظام في البلاد. ولعل بيلاطس أكَّد بذلك، من حيث لا يدري، أنّ المسيح للبشريّة كلها وأنّه يجب أن يعرف البشر جميعًا بمختلف لغاتهم محبة الله التي ظهرت في الصليب.
كما أنّ يوم الخمسين كان حدثًا تأكيديًا آخرًا على ذلك، عندما حلّ الروح القدس على جماعة التلاميذ وكلهم يهود يستخدمون اللغة الآراميّة، اذ بهم يحدثون الجموع الغفيرة التي أتت الى أورشليم من سائر بلاد العالم بلغاتهم المختلفة. لقد سمع كل واحد من تلك الجموع الكبيرة رسالة الله باللغة التي ولد بها (أعمال ٢: ١-١١) وبذلك قدم الروح القدس للكنيسة درسًا هامًا ونموذجًا مباركًا لما يجب أن تكون عليه خدمة الكنيسة ورسالتها، فكل إنسان يجب أن تصل إليه رسالة محبة الله بلغته الخاصة التي يفهمها. الله لا يتقيد ولا يقيد البشر بلغة بعينها ليعرفوه من خلالها.
ثانيًا، ترجمات الكتاب المقدس تأصيل تاريخي:
لترجمات الكتاب المقدس، أو على الأقل بعض من أجزائه، تاريخ طويل، سوف نتوقف أمام أهم محطاته التي نبدأها أولًا بالترجمات غير العربيّة:
1) الترجمة الآراميّة: أثناء فترة سبي الشعب اليهودي في بابل والتي استمرت سبعين عامًا، ومع انتشار اللغة الآراميّة -لغة تجمع بين العبريّة والكلدانيّة- لم يعد الشعب يفهم اللغة العبريّة، وأصبح في حاجة ماسة ليفهم أحكام الشريعة باللغة الآراميّة. كان الواعظ يُفسر الشريعة باللغة العبريّة والمترجم يقوم بالترجمة للغة الآراميّة. وهذا ما حدث أيام نحميا «وَقَرَأُوا فِي السِّفْرِ فِي شَرِيعَةِ اللَّهِ بِبَيَانٍ وَفَسَّرُوا الْمَعْنَى وَأَفْهَمُوهُمُ الْقِرَاءَةَ.» (نحميا 8: 8) ثم تمت كتابة الترجمةً ليتمكن الجميع من قراءة الشريعة، ودعيت هذه الترجمة «الترجوم.»
2) الترجمة السبعينيّة: هي أول الترجمات الكاملة للعهد القديم. كانت في مدينة الاسكندريّة عام 280 ق م، حيث أحضر بطليموس 70 شيخًا من أورشليم لترجمة كل العهد القديم من العبريّة إلى اليونانيّة، وهي اللغة التي انتشرت بعد ذلك في كل العالم آنذاك، وذلك ليتمكن يهود الاسكندرية من قراءة كتبهم المقدسة باللغة التي كانوا يستخدمونها ويفهمونها في ذلك التوقيت.
3) الترجمات السريانيّة: اللغة السريانيّة هي اللهجة الشرقيّة للآراميّة. هذه الترجمات هي أول مجهود بُذل لترجمة الكتاب المقدس من لغاته الأصليّة. والذي قام بهذا العمل الكبيرتاتيان السوري (الآشوري) الذي تتلمذ على يد جستنيان الشهيد.
4) الترجمات القبطيّة: في القرن الثالث الميلادي، كان عامة الشعب في مختلف أنحاء مصر يستخدمون اللغة القبطيّة، والتي لم تكن لهجة واحدة، لذا فتم ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القبطيّة باللهجة الصعيديّة أولًا في القرن الثالث، ثم اللهجة البحيريّة، والفيوميّة في القرن الرابع.
5) الترجمة اللاتينيّة: ظلت اللغة اليونانيّة لغة الكنيسة الغربيّة حتى منتصف القرن الثالث الميلادي، حتى أصبح استخدام اللاتينيّة كنسيّا أمرًا سائدًا، لذا كانت الحاجة ملحة لترجمه لاتينيّة. في القرن الرابع وهكذا قام العلامة الكبير جيروم بعمل ترجمة لاتينيّة على أساس اللغات الأصليّة وعُرفت باسم «الفولجاتا» أي الشعبية. وظلت هذه الترجمة هي الرسميّة لكل أوربا لمدة تزيد عن ألف عام حتى جاء عصر الاصلاح.
5) كان لحركة الاصلاح الانجيلي الدور الأكبر في ترجمات الكتاب المقدس، وذلك لنظرتها الرفيعة للغاية لكلمة الله. فمنذ القرن الرابع عشر قام المُصلِح جون وكليف في أنجلترا بترجمة الكتاب المقدس عن الفولجاتا اللاتينيّة إلى اللغة الإنجليزيّة. وكانت كلمات وكليف مُعبرة بحق عن الغاية من وراء الترجمات المتعددة للكتاب المقدس، حين قال:
«أتوق لأن يتغنى بكلمات الكتاب المقدس الفلاح وهو يسير خلف محراثه، والذي يغزل الصوف وهو يسمع طنين مغزله، والمسافر ليُسري عن نفسه تعب الرحلة وهو يتأمل قصص الكتاب المقدس.»
ثم مع مطلع حركة الإصلاح في القرن السادس عشر قام مارتن لوثر بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانيّة وطُبعت هذه الترجمة عام 1534.
ثالثًا: تأصيل تاريخي
ساد في القرون الوسطى، في الشرق استخدام الترجمات اليونانيّة والقبطيّة إلى أن بدأت اللغة العربيّة تحتل مكانًا بارزًا في حياة الشعوب. لذا بدأت الترجمات العربية للكتاب المقدس ولها قصة طويلة، سنتوقف أمام أهم محطاتها:
1) هناك قرائن وحقائق تاريخيّة تؤكد على وجود مسيحيين عرب في الجزيرة العربيّة في القرون الأولى، وهذا يؤكد على أن الكتاب المقدس، أو أحد أجزائه، كان مُترجمًا في الجزيرة العربّية على نطاق واسع. قس بن ساعدة أسقف نجران (600م)، والقس ورقة بن نوفل (610م)، كانا يترجمان الإنجيل إلى اللغة العربيّة. وهناك من يؤكدون وجود ترجمات لأجزاء من الكتاب المقدس في الحيرة لما عُرف عنها من تقدم ثقافي ولوجود المسيحين المتعلمين بها. أما أقدم المخطوطات الموجودة لأجزاء من الكتاب المقدس باللغة العربيّة تعود إلى القرن الثامن الميلادي.
2) لا يعرف العلماء على وجه التحديد متى وأين تمت أول ترجمة عربيّة للكتاب المقدس خارج الجزيرة العربية. أبرز الآراء تقول إن أحد الأساقفة الأسبان، اسمه يوحنا، في أوائل القرن الثامن، هو من قام بترجمة الأناجيل إلى العربيّة من ترجمة الفولجاتا اللاتينيّة.
3) أهم ترجمة مبكرة للعهد القديم كانت على يد سعيد بن يوسف الفيومي، الذي وُلِد بالفيوم عام 892م، حيث كان مديرًا لمدرسة يهوديّة. احتلت ترجمته عند مَن يستخدمون العربيّة نفس مكانه الترجمة السبعينيّة عند من يستخدمون اليونانيّة. الجدير بالذكر إنَّ سعيد بن يوسف هو أول من قال صراحة عن ترجمته أنها «ترجمة تفسيريّة»
4) أهم ترجمة ظهرت بين المسيحيين في القرون الوسطى تلك التي قام بها العالم السكندري هبة الله بن العسال عام 1252. حيث قام بجمع اثنتي عشرة مخطوطة للعهد الجديد مُترجمة عن اللغات الهامة في الشرق، وقام بمراجعتها وتنقيحها حتى وصل إلى نص ثابت موحد.
5) شهد القرن التاسع عشر نشاطًا ملحوظًا في ترجمة الكتاب المقدس بكل اللغات، وكان للغة العربيّة نصيبًا كبيرًا. ولابد من التوقف بشيء من التفصيل أمام الترجمة الأهم لمسيحي الشرق الأوسط، ترجمة البستاني- سميث- فان دايك.
بدأت قصة هذه الترجمة عندما رأت الإرساليّة الإنجيليّة في سوريا الحاجة إلى ترجمة عربيّة حديثة. وقام مجلس الإرساليّة بتكليف الدكتور «عالي سميث» للقيام بهذا العمل وهو بدوره اختار لمعاونته المعلم بطرس البستاني اللبناني الجنسيّة، والشيخ نصيف اليازجي وكان كلاهما ضليعين في اللغتين العربيّة والعبريّة. لكن عالي سميث وافته المنية عام 1854 قبل أن ينتهي من ترجمة كل الكتاب المقدس، كان سفر التكوين والخروج والأناجيل تمت طباعتها. اسندت الإرساليّة العمل عام 1857 إلى طبيب بارع هو كرنيليوس فان دايك، ليستكمل ما بدا فيه سميث، فسهر على إنجاز المهمة مع نفس فريق الترجمة الذي عمل معه سميث مع إضافة رجل أزهري هو الشيخ يوسف بن عقل الأسير رغبة منه في الاستفادة من شخص يجيد اللغة العربيّة دون تأثر بمفردات مسيحيّة. تم الانتهاء من طباعة العهد الجيد عام 1860، وتم الانتهاء من طباعة وتجليد الكتاب المقدس كاملة عام 1865. تتميز هذه الترجمة بدقتها والالتزام الكامل بحرفيّة النص. هذه الترجمة هي الموجودة الأن في كل الكنائس، وهي التي يعود الفضل فيها للكنيسة الإنجيليّة منذ أن بدأت خدمتها في مصر في القرن التاسع عشر.
رابعًا: لماذا يهتم المسيحيون بترجمة الكتاب المقدس؟
للإجابة على هذا السؤال، نحتاج التوقف أمام بعض الكلمات الهامة:
1) الوحي:
نحن نعرف الله فقط عندما يختار الله أن يكون مُعلنا لنا. الإعلان الإلهي يشير إلى أن الله قد أتخذ مبادرة ليجعل ذاته معروفًا لنا. بدأ هذا الإعلان بشكل عام في الطبيعة، وبشكل خاص في تجسد المسيح والكتاب المقدس. كلمة الوحي تشير إلى الطريقة التي أعلنّ بها الله عن نفسه في الكتاب المقدس. يقول الرسول بولس: «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ» (2تيموثاوس 3: 16). كلمة الوحي تعني أيضًا « أنفاس الله». فكلمة الوحي لا تعني أن الله نفخ في الكُتّاب ليمكنهم من كتابة كلمته، ولا تعني أيضًا أنّه نفخ في الكتابات فحولها من كلمات بشرية إلى إلهيّة، لكن الوحي يعني أن ما كتبوه كان أنفاسًا من فم الله. كما أن الكلام البشري ينقل أفكارنا في كلمات ليخرجها من فمنا بواسطة أنفاسنا، هكذا الوحي، ينقل لنا أفكار الله بنفس الطريقة.
إلا أنّ الكتاب المقدس يأتي، بنفس هذا اليقين، من دم وعرق ودموع شعب الله عبر العصور. القول بإن الكتاب المقدس موحى به من الله لا يلغي إنسانيته، كلمات الله في الكتاب المقدس تنبع من عمق تربة بشريتنا، بما فيها من شوائب وسقطات. الكتاب المقدس هو كلمة الله والبشر معًا، هو إلهي بالتمام وبشري أيضًا بالتمام، لذلك لم يكن غريبًا أن نلمح شيئًا من أسلوب هذا الكاتب، أو ذاك وما ينطوي عليه من تنوع في التعبيرات واختلاف في المفردات. لم يلغ الله شخصية الكتّاب، وهو ما يوضحه جون ستوت بالقول: «لقد تكلَّم الله بكلماته بواسطة كلماتهم بطريقة جعلت كلماتهم بصورة متزامنة هي كلماته. وبالتالي، ما يقولونه هو كلام الله ذاته.»
المسيحيون إذا لا يؤمنون بكتاب مقدس نزل من السماء بكلماته وحروفه. المفردات العبريّة أو الآراميّة أو اليونانيّة لم تكن يومًا هي نهاية المطاف، فيكون لزامًا على الفرد أن يتعلمها ليفهم رسالة الله للبشر. من هنا أدرك المؤمنون عبر كل الأجيال أن الكتاب المقدس لا يمكن أن يكون بلغة واحدة، حتى في كل لغة يجب ألا يتوقف عند ترجمة واحدة بعينها. وهذا ما نراه من ترجمات متعددة باللغة العربية، واحدة تلو الاخرى، ترجمة فاندايك، اليسوعيّة، العربيّة المشتركة، فالحياة المبسطة، وغيرها.
2) كلمة الله
الكلمات المطبوعة على صفحات الكتاب المقدس ليست في حد ذاتها هي كلمة الله، بل بالأحرى، تصير كلمة الله نتيجة الشهادة الداخليّة للروح القدس. يذكر إقرار إيمان ويستمنستر:
«إنَّ اقتناعنا وثقتنا الكاملة بالحقيقة المعصومة والسلطان الإلهي الموجود في الكتاب المقدس، هو من العمل الداخلي للروح القدس الذي يحمل الشهادة مع الكلمة في قلوبنا. الحديث عن كلمة الله دون الحديث بشكل موازٍ عن قوة الروح القدس يعني فصل الكلمة عن مصدرها، لأنَّ القوة التي تنجح في توصيل وتأكيد كلمة الله في قلوبنا تكمن فقط في الروح القدس.»
يُعرِّف كارل بارت الكتاب المقدس أيضًا، بأنّه:
«وثيقة إظهار كلمة الله يسوع المسيح، الذي كتب عنه البشير يوحنا: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ.»(يوحنا 1:1)
الكتاب المقدس إذًا هو كلمة الله المكتوبة، بينما يسوع المسيح هو كلمة الله المتجسد، نحن لا نعبد الكتاب المقدس، الكلمة المكتوبة، إنما نعبد إله الكتاب المقدس، يسوع الكلمة المتجسد، الذي أُعلِنَ بقوة الروح القدس من خلال الكلمات المكتوبة. مَن لا يُدرك هذه الحقيقة، فإنّهَ ينزلق في واحدة من المخاطر والانحرافات التي قد يقع فيها البعض، دون أن يدري، والتي تكمن في أن الكتاب المقدس نفسه قد يصير محل عبادة، وبالتالي يصبح هذا نوعًا من الوثنيّة المرفوضة.
3) عملية الترجمة
عملية ترجمة الكتاب المقدس ليست بالأمر الهين، فهي تواجه الكثير من التحديات، منها:
أولًا، المعنى الحرفي للكلمة:
لكل لغة تعبيراتها الخاصة التي ترتبط بمفردات خاصة، لذا ترجمة هذه المفردات ترجمه حرفيّة، في بعض الأحيان، لا تُقدِم المعنى أو المضمون الذي تنطوي عليه المفردات في اللغة الأصليّة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
1) يقول فرعون ليوسف «أَنْتَ تَكُونُ عَلَى بَيْتِي وَعَلَى فَمِكَ يُقَبِّلُ جَمِيعُ شَعْبِي.». (تكوين 41: 40) ترجمة المفردات العبريّة هنا ترجمة حرفيّة، لا يساعد على فهم ما يعنيه النص. الفكرة ببساطة، إنَّ الفم يعبر عن الكلام، والفعل يُقبّل يعبر عن المحبة والتوقير، لذا يمكننا القول إنّ ما قصد فرعون قوله ليوسف هو أن كل الشعب يخضعون لكلام يوسف.
2) يوبخ الرب شعبه على لسان عاموس «وَأَنَا أَيْضاً أَعْطَيْتُكُمْ نَظَافَةَ الأَسْنَانِ فِي جَمِيعِ مُدُنِكُمْ وَعَوَزَ الْخُبْزِ فِي جَمِيعِ أَمَاكِنِكُمْ فَلَمْ تَرْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ الرَّبُّ» (عاموس 4: 6) لعلنا نعلم أنّ الحديث عن نظافة الأسنان أيام عاموس كان كنايّة عن الجوع، أمَّا اليوم فالحديث عن نظافة الأسنان له معنى مختلف تمامًا!
3) كلمة «باب» أو «أبواب»، التي نقابلها مرات كثيرة في العهد القديم مع أنها تُكتب «باب»، إلا أنها تحمل عدة معانٍ يجب أن تكون واضحه أمام القارئ. فهي في بعض الاماكن أبواب البيوت (أمثال 14: 19) أو أبواب المدن (يشوع 2: 5، 7) أو الساحة عند مداخل المدن (أيوب 29: 7) أو المكان الذي يجلس فيه الملوك (1ملوك 22: 10) كانت تستخدم أيضًا بمثابة سوق المدينة (2ملوك 7: 1) وأحيانًا تكتب للتعبير عن المدن نفسها (تثنية 5: 14) بل ايضا تعبر عن المواطنين أنفسهم (راعوث 3: 11). وتستخدم مجازيا ايضا، مثل باب السماء (تكوين 28: 17). او الساحة التي يجلس فيها القضاة للنظر في المنازعات (تكوين 19: 1)، مثل كلمات عاموس» ثبتوا الحق في الباب»(عاموس 5: 15) والتي عند قراءتها بشكل حرفي لن يفهم المعنى المقصود منها وهو اقامة العدل في ساحة القضاء.
4)كما أنّ تعبيرات مثل» يقرعون صدورهم»، لا تعني في بعض القبائل الأفريقيّة التعبير عن التوبة، بل على العكس يعتبرون أنَّ «يقرعون صدورهم»، تعني «يهينون أنفسهم»
الاهتمام بترجمة وتفسير المعنى، أكثر أهمية من الحرف، أمر هام جدًا لفهم النصوص الكتابيّة، ونجد هذا في ما يلي:
( نحميا 8: ١١ ) قرأوا ببيان وفسروا المعنى « وَقَرَأُوا .. بِبَيَانٍ وَفَسَّرُوا الْمَعْنَى».
هذا يعني أنّهم قرأوا سفر الشريعة على الشعب باللغة العبريّة، إلا أن الشعب كان قد نسى في السبي لغته العبريّة، لذلك ترجم عزرا المعنى لهم باللغة الآراميّة التي يستخدمونها ويفهمونها.
4) تطور اللغة
من ضمن تحديات الترجمة أن اللغة كائن حي في تقدمٍ وتطور مستمر. اللغة العربيّة، مثلًا، لغة غنية بالمفردات منها السهل ومنها الصعب، ومن وقت لآخر تظهر فيها مفردات جديدة، كما أنَّ المفردات القديمة يتغير معناها ومضمونها بمرور الزمن. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب المقدس:
أ) كلمة «فسد- فاسد» في (1كورنثوس 15: 53) كانت تعبر عن التحلل والفناء لكن عند قراءتها اليوم يعطي معنى مختلفًا بعد أن أصبحت ذات مضمون أخلاقي. هكذا نفس الأمر مع كلمة «بطّال» في (متى 20: 6) التي تعبر عن التعطل عن العمل، أصبحت اليوم أيضًا لها مضمون أخلاقي بالدرجة الأولى.
ب) كلمة «بُطل» مثلًا في (رومية 8: 20) هي كلمة تكاد لا تستخدم اليوم، نجد عوضًا عنها كلمة «ضياع- فراغ».
ج) كلمة «دبابات» (تكوين 1: 24) التي كانت تعني بمفرداتنا المعاصرة «دواب» وهي الحيوانات التي تدب على الأرض. اليوم تفهم بمعنى مختلف كأداة من أدوات الحرب.
د) كلمة «مواعيد» (2كورنثوس 1: 20) التي كان يقصد بها وعود الله لشعبه، اليوم تعني شيئًا آخر كمواعيد العمل والمقابلات الشخصية.
هـ) كلمة «تعيّن ابن الله بقوة» (رومية 1: 4) الكلمة في أصلها اليوناني تعني «تبين، تبرهن، أظهر، تحدد»، المعروف أن هذه الكلمة لا تُستخدم اليوم بنفس هذا المعنى المقصود في الآية، بل تُستخدم بمعنى شغل وظيفة معينة!
و) كما أنّ هناك بعض المفردات معروفة في بعض البلاد بمعنى وفي بلاد اخرى بمعنى مختلفًا. مثل كلمة «ملحمة» (1كورنثوس 10: 25) تستخدم اليوم للإشارة للقصص البطولية للأفراد والشعوب، وهو بالطبع معنى مختلف تمامًا عن الذي قصده الرسول بولس، كمكان لبيع اللحوم، وهو المكان الذي نسميه اليوم (جزارة) وليس (ملحمة).
أخيرًا، بعد كل هذا العرض التفصيلي لموضوع ترجمات الكتاب المقدس، بعد معرفة الخلفيّة الكتابيّة والتاريخيّة، مع التوقف أمام المفهوم المسيحي للوحي وكلمة الله، الذي يختلف عن التنزيل. وانتهاء بالسؤال عن أسباب اهتمام المسيحيين بترجمة الكتاب المقدس؟
يمكننا التأكيد على الأهمية القصوى لوجود ترجمات كثيرة للكتاب المقدس بمختلف لغات العالم لتخاطب كل جيل وكل ثقافة بالمفردات المناسبة والأسلوب الواضح. وهذا ما حرص عليه آباء الكنيسة في الشرق والغرب، كما رأينا من ترجمات مبكرة للكتاب المقدس في القرون الأولى كالسريانيّة والقبطيّة واللاتينيّة، وداخل كل لغة لم تكن هناك ترجمة واحدة، كالترجمات القبطيّة التي كانت بأكثر من لهجه كالبحيريّة والصعيديّة. فإنَّ كان أباؤنا لهم هذه الرؤية وهذه الاهداف فليس أقل من أن نتعلم منهم دروسًا نافعه لتكون كلمة الله المكتوبة بين أيدي الناس في وضوح ويُسر.
بعض المراجع للدراسة:
١- ستيفن و. بلونكيت. أساسيات الإيمان الانجيلي. ترجمة وجدي وهبة. القاهرة: دار الثقافة، ٢٠٠٩.
٣- عبد المسيح إسطفانوس. تقديم الكتاب المقدس. القاهرة: دار الكتاب المقدس، ٢٠٠٩
٤- دونالد كي ماكيم. العقائد المشيخية. ترجمة هدى بهيج. القاهرة: دار الثقافة، ٢٠١٠.
٥- ويلفريد كورت. التفسير الصحيح لقول الله الصريح. ترجمة لويس كامل. القاهرة: الرابطة الانجيلية بالشرق الأوسط، ٢٠٠٦