آراء

د. مشالي .. على درب المسيح الطبيب الأعظم

الهدى 1223                                                                                                                                 سبتمبر 2020

كان يردد «أنا خلقت للغلابة»، وكأنه أراد أن يقلد الطبيب الأعظم المسيح عليه السلام الذي كان يبرئ الأكمه «وهو الذي ولد أعمى وهي أصعب أنواع العمى» والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله.

شعر أن رسالة الإحياء التي ورثها الأطباء عن السيد المسيح هي أنسب الرسالات لشخصه وتكوينه، فقد عاش فقيرًا ولولا مجانية التعليم التي أدخلها الرئيس عبدالناصر ما استطاع دخول كلية الطب، وزاد في إحساسه بالفقراء موت والده فأصبح مسؤولًا عن أشقائه فتضاعفت مسؤولياته وازداد إحساسه بالفقراء واليتامى.
كان والده يشعر به ويحسن قراءة شخصيته مبكرًا فأوصاه قبل موته بالفقراء والمساكين، كان الرجل عند حسن ظن أبيه قبل وبعد موته، وعند حسن ظن أشقائه فلم يتخل عنهم أو ينكص عن واجبه نحوهم وكان عند حسن ظن الفقراء والمساكين به.
في بداية عمله بإحدى الوحدات الصحية جاءه طفل محروق حروقًا شديدة، ذُهل من هول الحروق واتساعها، وحاول علاجه بكل الطرق دون جدوى، كانت الحروق أكبر من إمكانياته، حتى إن الأهالي شاركوا في إنقاذه، ولفوه ببطانية لإطفاء الحريق.
علم د. مشالي قصة الطفل الموجعة وأنه هو الذي حرق نفسه فقد كان مصابًا بمرض السكر، يتيم الأب، تكاد أسرته تجد قوتها بالكاد، طلب من أمه أن تشترى له حقنة الأنسولين، قالت لا أملك سوى ثمن الطعام، فاختاروا بين الطعام والحقنة، ثم حسمت الأمر باختيارها للطعام.
هكذا الفقراء واليتامى كل خياراتهم مؤلمة وصعبة، وهكذا تمضي بهم الأيام من ألم إلى ألم ومن تعب إلى محنة وكدر، ونادرًا ما يتنفس الزمان لتحل الفرحة مكان الدمعة، والأمل بديلا عن الألم، لم يملك الطفل المريض أمام حسم خيارات الأم سوى أن يحرق نفسه، وأخذ يردد قبلها: «لقد وفرت لكم أجر الحقنة لتشتروا الطعام».
ذُهل د. مشالي من هول القصة التي عاش آخر فصولها فكرس حياته لإنقاذ هؤلاء من مثل هذا المصير المؤلم.
شعر أن الفقراء هم الأولى بالرعاية والعناية، فهم لا سند لهم في الحياة إلا الله ثم كفاحهم، داس على رغبات المال والعيون الخمس التي يتيه بها الأطباء، لم يفكر فيها.
كان يفحص المرضى بأجور رمزية وصلت في نهاية المطاف في القرن الحادي والعشرين إلى عشرة جنيهات في الوقت الذي يأبى السباك إلا أن يفحص الحنفيات بمائة وخمسين جنيها، ويأبى الميكانيكي أن يفحص السيارة إلا بمائتي جنيه.
ظل في مكانه مع الفقراء وفي القرى عاش لهم وبهم، نسى في غمرة اهتمامه بهم أن يطور عيادته أو يهتم بملابسه أو يركب سيارة، زوَّج أشقائه قبل أن يسأل في نفسه وحاجاته الإنسانية.
كان يمكن أن يموت دون أن يسمع عنه أحد، ولكن الله أبى إلا أن يعرف الناس بخيره، وينشر فضله بين الخلائق، فساق له الإعلامي المبدع أ. محمود سعد ــ الذي أراه يحب المساكين والفقراء ــ ليظهره في إحدى حلقاته ببرنامجه «باب الخلق».
كل الذين يتعاملون مع الله يكرمهم الله حتى وإن بالغوا في إخفاء خيرهم، أولياء الله أيقونة جميلة ولعل د. مشالي واحدًا منهم ولاية الله ليست دروشة ومسبحة طويلة وحضور موالد، ولاية الله تعنى توحيد الحق والرحمة بالخلق، تعنى حب الحق «سبحانه» ونفع الخلق، ولى الله هو أكثر الناس نفعًا للناس وشفقة عليهم.
قوة د. مشالي في إنسانيته وبساطته لم يتكلف يومًا في حديث أو ملبس أو يلمع نفسه، بدا أمام الشاشة مثل ما هو في المنزل، أو العيادة أو الشارع.
كانت وصية والده وقصة الطفل الحريق وقراءته لكتاب «المعذبون في الأرض» لطه حسين، محركات لطريق رعايته للفقراء الذي استمر لقرابة خمسين عامًا حتى أطلق عليه «طبيب الغلابة».
كان د. مشالي منعزلًا عن الدنيا كلها مع مرضاه الغلابة في قرية نائية فلم يقبل تطوير أدائه الطبي وهذا خطأ، وكذلك رفضه لمنحة عشرين ألف جنيه لتجديد عيادته حينما غلبته عاطفته، فتجديد العيادة كان سيصب في صالح الفقراء أيضًا، فالطب منظومة متكاملة تحتاج إلى تحديث وتطوير وتحسين للأداء باستمرار وما كان يصلح في الستينيات لا يصلح للقرن الحادي والعشرين، وأعظم الأطباء عطاء هو الذي يرعى الفقراء من خلال منظومة صحيحة متكاملة وبمستوى أداء رفيع مثل العلماء مجدى يعقوب، محمد غنيم، إبراهيم بدران، حسام موافي، والأخير أصر على أن يكون أجره حتى اليوم رمزيًا رغم قيمته وقامته، فجمع بين الحسنيين أو أولئك الذين أنشأوا المستشفيات التي تخدم الفقراء مجانًا مثل مستشفى 57357، أو مستشفى الناس، أو بهية، أو الأورمان للسرطان أو غيرها.
ولا مانع للطبيب أن يرعى الفقراء ويهتم بمظهره، ويرحم الغلابة من خلال منظومة متكاملة مثل مستشفى محمود التي أقامها د. مصطفى محمود، أو مستشفى المواساة التي أقامها والد د. أحمد عصمت عبدالمجيد، ولكن الذي اختاره د. مشالي لنفسه لا يستطيع أحد أن يعيبه عليه ولكن يختار أفضل منه وأشمل، ولعل نيته الطيبة هي التي رفعت شأنه وأعلت قدره وجعلت ذكره محمودًا في الآفاق، ولعلها صحوة جديدة توقظ بعض الأطباء الذين ملأهم الغرور والكبر وحولوا الطب من رسالة إلى تجارة ناسين قدوتهم الطبيب الأعظم المسيح عليه السلام الذي عالج مرضاه جميعا بالمجان قربة إلى الله.
والحقيقة أن آلاف الأطباء في مصر يسلكون مسلك د. مشالي بطريقة أفضل وأحسن وهم أقوى في تخصصاتهم، ولكن لا يعرفهم الكثيرون مثل الأساتذة إسماعيل موسى، جبريل يوسف، الأحمدي السمان، إبراهيم عامر في الرمد وفي الصعيد فقط فما بالنا بكل فروع الطب وربوع مصر، وقد تعلمت على يد أحد هؤلاء مثل د. طوسون زعزوع رحمه الله الذي وهب حياته وعلمه للفقراء والمحتاجين، حتى صار رمزا لبلدتنا كلها وكأنه واحد منها.
د. مشالي مدحه العالم كله، مدحه شيخ الأزهر، آثنت عليه كل منصات التواصل الاجتماعي بكل أطيافها وتنوعاتها، مدحه المسلمون والمسيحيون، كل هؤلاء أنطقهم الله بذكره الحسن رغم أنه لا يملك أي وسيلة للدعاية، إنه الله الذي يضع القبول لأهل ولايته في الأرض بالسبب ودون السبب وعكس السبب.
كرر د. مشالي قوله «أنا خلقت للغلابة».. تفوق د. مشالي تفوق أخلاقي في المقام الأول، وإنسانيته هي التي رفعته إلى هذا المقام العظيم، الأخلاق والرحمة بالذات ترفعك أعلى من كل مناصب الأرض مجتمعة وصدق الإمام الأكبر حينما وصفه «إنه نسيج وحده في الإنسانية والإيثار».. نعم لأنه أعاد للمهنة إنسانيتها ورحمتها بعد طول غياب.
عن جريدة الشروق المصرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى