سر التقوى والتكليف الإلهي للكنيسة
الهدى 1217 يناير 2020
ينتهي الإصحاح الثالث من رسالة الرسول بولس إلى تلميذه تيموثاوس بهذه الأنشودة الرائعة: «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ». إنَّ هذه الأنشودة تمثل اعتراف إيمان بأنَّ يسوع المسيح هو الله الظاهر في الجسد، وربما تكون دحضًا متعمدًا من الرسول بولس للأنشودة التي يتغنى بها شعب أفسس في تعظيم الإله أرطاميس (أعمال 19: 28)، وليؤكد على أنَّ العظيم هو الله الحقيقي، ذاك «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي 2: 6-11).
إنَّ عظمة الله تتجلى بحسب بولس والإيمان المسيحي بأنَّ الله وهو العالي، لم يتعالَ، بل تنازل إلى البشر، وأخذ جسدًا حقيقيًا، وعاش بين الناس، وشاركهم آمالهم وآلامهم، وكما يكتب كاتب العبرانيين: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، .. مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين 2: 14-17). إنَّ السرَّ الذي يؤكِد عليه الرسول بولس هنا هو أنَّ الله أخذَ جسدًا وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجدًا.
ولا يقصد بولس أبدًا باستخدامه كلمة «سر»، الاستخدام المُعاصر لكلمة «السر»، والتي تعني «الغموض» أو «اللغز» الذي يصعب العثور على إجابة له، لكنَّ «السرَّ» عند بولس يُشير إلى ما تم حجبه مسبقًا، ولكن تم الإعلان عنه من خلال شخص وعمل المسيح، وقد أكَّد الرسول بولس على هذه الحقيقة فيما كتبه في رسالة رومية: «السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ وَلَكِنْ ظَهَرَ الآنَ وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلَهِ الأَزَلِيِّ لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ» (رومية 16: 25-26)، ومرة أخرى فيما كتبه في رسالته لشعب كنيسة أفسس قائلًا: «أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ» (3: 3). لذا لا يجب أن يُفهم السر في كتابات بولس أو الكتاب المقدس على أنّه الشيء الغامض أو غير المفهوم الذي يصعب فهمه أو يستحيل سبر أغواره، لكنّ السرَّ في الكتاب المقدس يجب أن يُفهم في إطار تلك المعلومات التي يعرفها الإنسان الذي في دائرة مشيئة الله، لكنها تظل مخفية ومُحجبة عن أولئك الذين هم في الخارج، وهذا ما أكَّد عليه المسيح حين قال: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا ..» (مرقس 4: 11-12).
يكتب الرسول بولس: «.. عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، ..»، وهو يقصد أنَّ يسوع المسيح هو سر التقوى، والتقوى ليست نظامًا أو برنامجًا لكنها الحياة المتمحورة حول الله، وسر هذه الحياة هو شخصٌ المسيح، الذي أظهر في حياته نموذجًا للحياة التي محورها الله، وفي نفس السياق يربط بولس بين سر التقوى، تجسد ابن الله ليُظهر الله للعالم، وبين ما يجب أن تقوم به الكنيسة، فليست الكنيسة «عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ» فقط، بل هي سر التقوى، أي التجسد الإلهي للعالم، فما يجب أن تقوم به الكنيسة هو أن تُجسد الله للعالم المحيط بها، أن تعيش وفق الحياة المتمحورة حول الله، وماذا علينا أن نفعل في الكنيسة، إلا أن نُعبِر عن الله ومجده، وأن نُعلنه للأخرين وللمجتمع المحيط، وفي تجسد المسيح رأت الملائكة الله لأول مرة، وسبحته ومجدته وأنشدت له (لوقا 2: 10-14)، وبموته غُفر للإنسان إثمه وخطيته، وكُرز به في الأمم، وكانت تلك المرة الأولى التي يُكرز بها ببشارة الخلاص، وهذه هي الإرسالية التي كلَّف بها المسيح كنيسته قائلًا: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 28: 18-20).
ونحن نحتفل بميلاد المسيح، «سِرُّ التَّقْوَى» هل تُدرِك الكنيسة دورها، في إعلان وكشف هذا السر، وأن تحيا -كما كان المسيح- الحياة المتمحورة حول الله، أمام الله والعالم؟