سلسلة نسب يسوع والأخبار السارة
الهدى 1240-1241 فبراير ومارس 2022
ربما لم يفكر الكثيرون، وهم يبدأون قراءة العهد الجديد، الالتفات ولو قليلا لهذه القائمة الطويلة من الأسماء التي يستهل بها البشير متى قصته عن حياة يسوع وخدمته. (متى 1: 1-17). وقد يكون لهم بعض العذر في ذلك، فبداية كتاب بسلسلة أنساب أمر يبعث على الضجر، وما الداعي أساسًا من هذه الاسماء التي لا نعرف عن الكثيرين منهم أي شيء؟! لماذا لم يبدأ إنجيل البشير متى القصة من حيث نحب، بشارة الملاك للعذراء مريم، حيث اختار الروح القدس أن يبدأ من حيث لا نحب، من هذه القائمة الطويلة؟!
يرتب البشير متى الأسماء في سلسلة النسب في ثلاث مجموعات، كل مجموعه مكونة من أربعة عشر جيًلا: من إبراهيم إلى داود (الأعداد 1-6) من سليمان إلى السبي (الأعداد 7-11) من السبي إلى ميلاد يسوع (الأعداد 12-16). هذه السلسلة، بالرغم من صعوبتها وعدم اعتيادنا على قراءتها، إلا أنها تحمل لنا الكثير من الأخبار السارة:
أولًا: لم يكن من الغريب أن يبدأ البشير متى إنجيله بسلسلة نسب يسوع، فهي وإن لم يهتم الكثيرون بقراءتها، الا أن اليهود أنفسهم يهتمون جدًا بسلاسل النسب، بل يفتخرون بها أيضًا.
كانت هذه السجلات يتم حفظها بواسطة مجلس السنهدريم، وكان الكهنة يحتاجون لهذه السجلات لإثبات نسبهم إلى هارون، وبالتالي ممارسة خدمتهم. لذا لابد للكاهن من حفظها لإثبات نسبه إلى سبط لاوي وإلا يُرفض من الكهنوت. وهذا ما حدث بالفعل بعد العودة من السبي عندما لم يتمكن بعض الكهنة من العودة لممارسة خدمتهم في الهيكل لعدم قدرتهم على اثبات نسبهم لسبط لاوي (عزرا 2: 62)
وقد حاول الملك هيرودس اتلاف هذه السجلات، لانه كان نصف ادومي، حتى لا يثبت أحد أنه أنقى منه نسبا. لذا نجد في العهد القديم العديد من سلاسل النسب، مثل سلسلة نسب آدم (تك٥)، نوح (تكوين 10)، ابراهيم (تكوين ١١)، موسى وهارون (خروج ٦)
لكن السؤال الهام لنا، هل تكررت سلاسل النسب بعد ذلك؟ بالطبع لا. إن سلسلة نسب يسوع -سواء في إنجيل متى أو إنجيل لوقا- هي أول وآخر سلسلة نسب تُذكر في العهد الجديد، فلم يكتب أحد التلاميذ بعد ذلك سلسلة النسب الخاصة به، فبطرس ويعقوب في مقدمة رسائلهم يربطون أسماءهم فقط باسم يسوع (يعقوب 1: 1؛ 2بطرس 1: 1) وحتى بولس أشد المتعصبين ليهوديته، لم يفتخر أبدًا بنسبه الجسدي بل يقول في مقدمة معظم رسائله:» بولس عبد يسوع المسيح» (رومية 1: 1؛ فيلبي 1:1؛ تيطس 1:1)
الخبر السار هنا، أن ميلاد يسوع هو ميلاد للخليقة الجديدة التي تضم الجميع دون فرق أو تمييز، فلا أفضلية داخل شعب الله لعرق او لجنس او لطائفة. جميعنا أفراد في عائلة يسوع الجديدة. وهو مأكده الرسول بولس لكنيسة غلاطية: «لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحدًا في المسيح يسوع.» (غلاطية 3: 26، 28).
ثانيًا: يمكن فهم رسالة العهد القديم من سلسة نسب آدم المذكورة في (تكوين 5: 1)، كما انه يمكننا فهم رسالة العهد الجديد من سلسة نسب يسوع المذكورة في (متى 1: 1)، والملاحظ ان نفس الكلمة هي التي كُتبت في السلسلتين «كتاب ميلاد»، وبوضع السلسلتين في مقارنة سريعه، يمككنا التوقف أمام خبرين سارين:
1- كتاب مواليد آدم (تكوين 5: 1)، الذي يقدم لنا تاريخ عائلة آدم، هو في الحقيقة تاريخ محزن! فحتى وإن احتوت هذه السلسلة على أعمار طويلة كمتوشالح ٩٦٩ عام، لكن الموت يغلب على هذه القائمة، فيأتي فيها فعل «مات» ثماني مرات، كأن الموت هنا صوت جرس يعلن عن جنازة! كتاب مواليد آدم يعلن بوضوح حقيقة أنه» أجرة الخطية هي موت» (رومية 6: 23). لكن اذا انتقلنا لكتاب مواليد يسوع (متى 1: 1) نجد أن فعل «مات» لم يأتِ ولا مرة واحدة، فهو كتاب حياة وليس كتاب موتٍ، وهي رسالة العهد الجديد بكامله:» أما هبة الله فهي حياة ابدية بالمسيح يسوع ربنا» (رومية 6: 23)
2- يختتم كتاب مواليد آدم بنوح (تكوين ٥: ٢) وهو من وجد نعمة في عيني الرب، إلا ان في أيامه جاء الرب بالطوفان، أما في يسوع فلا دينونة على الذين هم فيه (رومية ٨: ١) في يسوع نرى باستمرار قوس قزح علامة العهد الذي قطعه يسوع على نفسه بان يكون لنا الها ونكون نحن شعبه على الدوام.
ثالثا: تحتوي سلسلة نسب الرب يسوع (متى ١) على تقريبا ٤٦ شخصًا، اختلفوا كثيرا في شخصياتهم وخلفياتهم وحالتهم الروحية. منهم من كانوا أبطالا في الإيمان معروفين لدى كل الشعب، مثل ابراهيم واسحاق وداود، وهذه اسماء وجودها في سلسلة النسب أمرًا كان طبيعيًا ومتوقعا. لكن الغريب نجد في سلسلة النسب أيضا أشخاصا عاديين جدا، مثل حصرون ونحشون وعميناداب، اسماء ربما لا نعرف عنها شيئا!
سلسلة نسب يسوع تؤكد لنا بوضوح أن الله لم يستخدم فقط الأبطال، ذوي القامة الروحية العالية، لتحقيق مقاصده. فقد أستخدم أيضًا الأشخاص العادية البسيطة غير المعروفة حتى يأتي إلينا ويتمم رسالته. الخبر السار لنا، أنه لا أحد مستثنى من عمل الله، أو بعيدا عن استخدام الله له، فحتى أصحاب الوزنة الواحدة لهم دور ورسالة في تحقيق ملكوت الله، بشرط أن يدركوا هم ذلك!
رابعًا: بالطبع القارئ اليهودي لم يكن سعيدا بالمرة بقراءة أسماء أربع نساء في سلسلة نسب الرب يسوع. المرأة- كما كانوا يعتقدون- ضمن ممتلكات الرجل، فكانت صلاة اليهودي لله:
«أشكرك لأنك لم تخلقني عبدًا أو أمميًا أو أمراة». لذا ذكر أسماء بعض السيدات في سلاسل النسب بشكل عام أمر غير وارد بالمرة! وما زاد الأمر تعقيدًا خلو هذه السلسلة من أسماء أربع نساء قديسات عظيمات، وهن سارة، ورفقة، وراحيل، وليئة، والحديث عن أربع نساء، ثلاثة منهن سمعتهن غير مشرفة بالمرة، كثامار وراحاب وبتشبع. والامر ليس متعلق فقط بأفعالهن، لكنهن أيضا، ومعهن راعوث، أمميات بعيدات عن شعب الله، ثامار (كنعانية) راحاب (أريحا) بتشبع (حثية) راعوث (مؤابية) هُن نساء خطاة أمميات!
هذه هي المفارقة الكبرى في ميلاد الرب يسوع، وهي أيضًا الخبر السار لنا اليوم، أن يسوع المسيح جاء للغريب، للمُلام، جاء للمستحين من ماضيهم، جاء للمهمشين البعيدين عن دائرة الضوء. نعم جاء الينا، ربط نفسه بنا، دون أن يستحي من زلاتنا، جاء ليرسم لنا مستقبلا جديدا دون أن يتوقف أمام عثرات ماضينا!
خامسًا: الملاحظ في سلسلة نسب الرب يسوع، أن متى لم يتبع خط المواليد الطبيعي، بل يستقصي عن ارادة الاختيار الالهي الذي بدأ بابراهيم صاحب الوعد والعهد، لذا الطبيعي أن يذكر بعده ابنه اسحاق وبعده يعقوب. انما الغريب بعدها هو التركيز في الحديث على يهوذا ابن يعقوب، وهو لم يكن الابن البكر ليعقوب. بالاضافة إلى أن يهوذا هذا لم يكن تاريخه مشرفًا بالمرة، وهو ما يتعمد البشير متى ذكره، فيقول» وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ» (متى 1: 3). لم تكن ثامار زوجته، لكنها زوجة ابنه الذي مات. ولم تكن هذه هي الخطية الاولى ليهوذا،
فهو صاحب فكرة بيع أخيه يوسف لتحقيق استفادة مادية من ورائه.
هذا هو يهوذا صاحب القصة غير المشرفة التي شرفتها واكرمتها نعمة الله ووضعتها في كتاب الحياة لتكون علامة على قوة النعمة التي تستر كل خطايا الماضي وعيوبه. الخبر السار لنا، أنه هناك دائمًا رجاء لكل ساقط، حتى وان يأسنا نحن من أنفسنا، نعمة الله لا تيأس أبدًا منا!
سادسًا: نرى أخيرًا في سلسلة نسب الرب يسوع، أشر الملوك (الملك منسى) وأسوأ العصور (عصر السبي). الخبر السار لنا، الله قادر أن يشق طريقه إلينا في أسوأ الظروف وأحلكها، ورغم أنف أشر الشخصيات وأصعبهم. وعد الله بالخلاص لا يقيده شخص أو شر، زمان أو مكان. يبقى الله صاحب السلطان على كل الأحداث والظروف، هو يقول ويفعل، يأمر فيصير. قد لا نعلم كيف او متى يتدخل، لكنه حتمًا سيتدخل ليعلن عن ذاته. سلسة نسب يسوع تشجعنا وتقوي ايماننا، فلنتذكر ونعيش رسالتها باستمرار: «مفيش حاجه وقفت أو هاتقف قدّامه»!
لا أجد ختامًا أفضل من تلك الكلمات التي كتبها الفاضل الدكتور القس فايز فارس
في ظلمة الحقد عاش الناس أزمانًا
يحيون في كره وأضغان بدنيانا
فالحق مهضوم والإحسان قد ضاعا
والخير لاقى من الانسان نسيانا
أين الفضيلة أين الخير ألقاه؟
أين التعاطف أين الحب يلقانا؟
يا من بحثتم عن الحب بلا أمل
جاء المسيح فصار الحب إنسانا