الهدى 1239 يناير 2022
ينَاقش هذَا الكِتَاب مِيلاَد وطفولة ابن الله مِن خلال بشارة متى الإصحاح الأول والثاني، بنظرة سياقية ونقدية عن عدة موضوعات مرتبطة بميلاد المسيح وطفولته: سلسلة النسب وما وراءها من مغزى لاهوتيّ تاريخي – البشارة بميلاد المسيح – المجوس وهيرودس وعلاقتهم بالمسيح والهروب إلى مصر. ويُقدم الكاتب ربط بين قصة ميلاد المسيح وباقي البشارة (بنوية يسوع، يسوع في صراعة مع العنف، الشريعة والعدل في رواية متى، يسوع والأطفال)، فسرد ميلاد المسيح عند متى يُعبر عن منهجية الكاتب في باقي بشارته. قام بتأليف هذا الكتاب إليان كوفيلييه: قس فرنسي ومفسر وعالم لاهوت وأستاذ في كلية اللاهوت البروتستانتية في مونبلييه، قام بترجمته القس. يوسف سمير، وصدر عن دار الثقافة.
يبدأ الإنجيل الرابع (يوحنا) بافتتاحية تضع يسوع المسيح خارج التاريخ الإنساني، ويبدأ إنجيل مرقس بوضع يسوع في ثورة الأنبياء. أمَّا لوقا ومتى فاختارا أنّ يبدئا بقصة ميلاد يسوع، مع وجود تنوع من جهة سرد القصة الكتابية. وسيكون التركيز على رواية متى عن ميلاد المسيح (1، 2): فيضع متى يسوع المسيح في إطار تاريخي ديني خاص بشعب إسرائيل. ويعد سرد متى عن ميلاد وطفولة ابن الله بمثابة تعريف بمَن هو المسيح من خلال ثلاثة أجزاء: سلسلة النسب (1: 1 _ 17)، ميلاد المسيح (1: 18 _ 25)، المسيح والمجوس (2: 1 _ 12). وبُناءً على هذه النصوص الثلاثة نرى في سلسلة النسب: يسوع هو المسيا الذي ينتظره الأنبياء، وفي البشارة بالميلاد تفرد شخصية المسيح، وفي زيارة المجوس إعلان مُلك يسوع على العالم.
«تاريخية وهُوية يسوع المسيح»
1- ما تحمله سلسلة النسب (متى1: 1- 17).
يسوع هو المسيا الذي ينتظره الأنبياء.
اعتادَ البعض أن يتجاهل سلسلة النسب بداعي أنها مجرد أسماء لا تحمل رسالة لنا اليوم أو لأنها لا تحمل بُعدًا لاهوتيًّا لنا يمكن صياغته في قالب معين! ولكن هذه الأسماء تحمل في داخلها أهداف تتعدى مجرد السرد الأدبي وقصدَ الكاتب بهذا السرد إظهار لنا بُعدًا آخر: فتُنير أذهاننا إلى عدة أبعاد روائية ولاهوتية وإنسانية. فكان لسلاسل الأنساب في اليهودية القديمة وما بعد السبي أدوارًا محددة. أولًا: تساعدنا سلاسل النسب على بناء تاريخ محدد عن جماعة ما أو عائلة ما مثل سلاسل النسب في سفر التكوين (11: 10 _ 26). ثانيًا: بعد العودة من السبي ظهر احتياج شديد لسلسلة النسب من أجل تأصيل الأفراد في المجتمع وخاصةً الجانب الديني، ويظهر هذا في أهمية تأصيل الطبقة الكهنوتية في مكانتها لبيان نقاء أصولها لممارسة عملها. ثالثًا: تستخدم سلسلة النسب في خدمة هدف محدد ومقصود، وفي داخلها نستطيع أنّ ندرك خطاب ما يريد أنّ يخبرنا به الكاتب في ضوء النسب. فتتكون سلسلة النسب من ثلاث مجموعات كلًا منها أربعة عشر جيلًا (ينقصها جيلًا). ومتى يعود في نسبه إلى شخصيتين مركزيتين في تقليد إسرائيل وفي الفكر الديني اليهودي هما إبراهيم وداود: فإبراهيم واحد من الشخصيات التي أسست إيمان إسرائيل، وعودة متى إلى إبراهيم في سلسلة النسب لتأصيل يسوع المسيح في الشعب اليهودي. الشخصية الثانية داود: فإعطاء المسيح لقب ابن داود يعبر عن اقتناع الكاتب بان يسوع هو الذي يحقق رجاء إسرائيل المنتظر، هذا الرجاء هو من ذرية داود، الملك المنتظر الحقيقي. فيُعبر متى في الآية الأولى لسلسلة النسب عن بدء حياة جديدة، عصر جديد بمجيء المسيح، مرحلة أخرى كان ينتظرها الجميع. ووجود النساء في سلسلة نسب المسيح أمر له العديد من المدلولات في ظل المجتمع الذكوري، فهو يعتبر إشارة على الترابط بين شخصية مريم وهؤلاء النساء! من جهة الظروف التي اجتازت بها في وقت ميلاد المسيح، وأظهر الله أنه قادر على العبور بهم في ظل هذه العوائق التي تقف أمام الميلاد العذراوي؛ وأيضًا دليل على نعمة الله التي تبرر مَن لا يستحق والتي تسلك طرق لا يتوقعها البشر. فسلسلة النسب تؤكد على عدة حقائق كتابية لاهوتية: إنَّ المسيح هو من نسل داود ويشغل مكانة خاصة في التاريخ اليهودي الذي يصل لصورته النهائية فيه. المسيح يمتلك شرعية النسب الداودي لممارسة وظيفته ومكانته، ومن جانب هو يمتلك شرعية إلهية ليست من هذا العالم: فالمسيح من نسل إبراهيم وداود وولد من مريم وليس من يوسف. فتشير بقوة سلسلة النسب للتدخل الإلهي في التاريخ، وكيفَ أن المسيح هو التحرك الأُخروي لله من جهة إسرائيل والعالم.
2- بشارة ميلاد الرب يسوع تُعلن (متى1: 18 – 25).
تفرد شخصية المسيح.
لقد حدث مع مريم أمر غير معتاد عند البشارة بميلاد يسوع، فالذي في رحمها ليسَ نتيجة تدخل بشري بل هو عمل إلهي بالكامل وكل حدث وإعلان يشير لهذا بقوة. ففي الأعراف اليهودية كانت تتم الخطوبة في سن مبكر، ورغم أنَّ الفتاة تظل في بيت والديها؛ لكن كانت تعتبر مرتبطة بخطيبها وخاضعة له. فاذا مات خطيبها تحسب أرملة، وإذا خانته تكون زانية، ولم يكن مسموحًا لها بالزواج إلا بعد مرور عام من توقيع عقد الزواج. ويقدم لنا الإنجيل يوسف بوصفه رجلًا بارًا: والرأي المرجح لهذا الوصف هو أنَّ يوسف رجل مخلص لإله إسرائيل وشريعته، فمتى يحاول أن يقدم شخصية يوسف تجسيدًا لصورة الإيمان اليهودي الأصيل. ونرى التدخل الإلهي من خلال الملاك لتشديد يوسف فاخبره أن لا يخف من أن يأخذ مريم زوجة له، سواء كان لإزالة الشك في عدم الإخلاص أو إزالة فكرة التعدي على الشريعة من جهة الارتباط بمريم، فأزال الملاك مخاوف يوسف من جهة ميلاد يسوع المسيا المنتظر بحسب الكتب. مؤكدًا على أنَّ المسيح ليسَ مرسلًا من الله فقط، ولكنه ابن الله بمعنى أنَّ المسيح في علاقة متفردة مع الآب، فيشير متى على أن ميلاد المسيح هو من الروح القدس الذي سبق وأعلن عنه في الكتب المقدسة.
3- قصة المجوس تُعلن (متى 2: 1 – 12).
مُلك يسوع على العالم.
كلمة مجوس مشتقة من اسم طبقة كهنوتية تنتمي للديانة الفارسية (هيرودوت)، وكانوا متخصصين في علوم الفلك والتنجيم، فَهُم مجموعة من الحكماء قد أتوا من المشرق (كل ما هو وراء الأردن) باحثين عن ملك اليهود الذي رأوا نجمه في المشرق. وهذا النجم ليسَ أمرًا معتادًا ولكنه يُعتبر تدخل الله المعجزي في هذا الوقت المعين، وتبعه المجوس رغبة في تعظيم هذا الملك بالسجود. وسؤالهم عند وصولهم أورشليم أين هو المولود ملك اليهود! أعلن عن مواجهة دون قصد بين هيرودس الملك في أورشليم؛ والمسيح الملك في بيت لحم. فبدلًا من دفع هيرودس إلى المخافة والسجود دفعه هذا الأمر لأخذ المسيح عدوًا له ومُهددًا لملكه، فجمع هيرودس رؤساء الكهنة وكتبة الشعب بغرض معرفة أين يولد هذا الملك حسب النبوات. فكان رد القادة الدينيين وفقًا لما جاء في ميخا (5: 2 _ 4) وليس إعلان لتتميم النبوة من جهتهم. ويضع الكاتب اختلافات ثلاثة رئيسية بين نص ميخا (5: 2 _ 4) في النص العبري، الترجمة السبعينية، وبين متى (2: 6). أولًا: استبدال أرض يهوذا بأفراته. ثانيًا: قَلب الأسلوب الخبري إلى الأسلوب المنفي لستِ الصغرى. ثالثًا: تضمين (2صم 5: 2) في (ميخا 5: 4) فهو يستخدم ما كتب في العهد القديم بحرية ليعبر عن قناعاته المسيانية. فاستدعى هيرودس المجوس سرًا وهذه السرية تشير لمكيدة ما! فطلب منهم إخباره عن المكان الذي سيجدون فيه الملك لكي يأتي ويسجد له هو أيضًا. فبالرغم من استفادة المجوس من المعلومات المقدمة من هيرودس إلا أن النجم هو من قادهم وهو الذي أثار فرحتهم، فاتوا للمسيح وقدموا هداياهم وسجودهم تعبيرًا لمجيء الأمم الأخرى حاملين إلى صهيون أفضل عطاياهم. وعاد المجوس إلى بلادهم بواسطة إعلان خاص من الله، ويظهر هذا الإعلان أن الله سَيَّد الموقف فهو علم بتخطيط هيرودس قبل أن يعلن عنه، فقد يخفي الإنسان ما يبطن عن أخيه الإنسان ولكن لا يستطيع أن يخفي ما يُبطن عن الله. ونرى في سرد متى عن المجوس عدة مسارات فكرية لاهوتية: 1_ مفارقة بين مجيء المجوس الوثنيين الإيجابية ومعارضة أو لامبالاة من السلطات الدينية والسياسية. 2_ التأكيد على أنَّ يسوع هو ملك اليهود. 3_ تدخل الله في التاريخ وقيادة كل الأحداث لغرض محدد.
«لقد جاء المجوس بإرادتهم الخاصة ولم يجبرهم أحد، لكن الكلمة جعلتهم يغادرون في طريق أخرى، نفس الكلمة خاطبت يوسف وذهب إلى مصر. وهكذا يظل التاريخ البشري الكبير: الباحثون يبحثون والملوك يحكمون والبشر يولدون ويموتون، لكن في نفس الوقت هناك أناس ينهضون في الطريق.»