آراء

عفوًا نقيب المحامين

الهدى 1224                                                                                                                                   أكتوبر 2020

طالعتنا جريدة الشروق الصادرة يوم 27 أغسطس 2020 بمقال لنقيب المحامين الأستاذ رجائي عطية عنوانه «بين السيد المسيح عليه السلام والتلاميذ»، والمقال تضمن بعض المعلومات المجتزأة وغير الدقيقة مما أثار جدلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي،

وإيماناً منا بأن الفكر لا يُرد عليه إلا بالفكر، والحجة لا تقارع إلا بالحجة
والرأي لا يواجه إلا بالرأي فإن لي بعض الملحوظات على ماكتبه سيادة النقيب.
أولاً : إن المسيحية لاتؤمن بالوحي الإملائي المُنزل من السماء، بل يؤمن المسيحيون بما جاء في الكتاب المقدس عن الوحي حيث يقول الكتاب في رسالة الرسول بطرس
الثانية 1: 21 «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.» وهذا النص يؤكد احترام الله لعقلية كتبة الوحي ومن ثم فإن هناك عنصرين للوحي في المفهوم المسيحي، عنصر إلهي وعنصر بشري، وفي هذا الصدد كتب الدكتور القس عبد المسيح استفانوس في كتابه تقديم الكتاب المقدس تاريخه وصحته وترجماته « إنها لمعجزة كبيرة أن يجتمع في الكتاب المقدس عمل روح الله مع تعبيرات البشر» وكتب أيضًا «المسيحيون لايؤمنون بأن الكتاب المقدس نزل من السماء بكل كلماته وحروفه ولكنهم يؤمنون بالوحي فقد دون أناس الله القديسون كلمات الكتاب المقدس كل بأسلوبه المتميز ومفرداته الخاصة إلا أنهم جميعا كانوا مسوقين من الروح القدس أي محمولين ومدفوعين بعمل الروح القدس فيهم تمامًا كما تدفع الرياح السفن» وكتب القس إلياس مقار في كتاب إيماني «إن العلاقة الإلهية البشرية في الكتاب المقدس، أشبه بذلك الضوء الذي ينفذ خلال زجاج الكاتدرائيات الملون، الذي وإن كان في حد ذاته نورًا علويًا يأتي من الشمس، إلا أنه يحمل معه لون الزجاج عندما ينفذ إلى داخل الكاتدرائية، وإن نسمة الله في الوحي ونفخته تعني في الواقع تلك العناية الإلهية، الدافعة والحافظة والمنقية والمحددة لما يُكتب سواء كان تفصيلًا أو إجمالًا، ونؤمن أن روح الله هو الذي أوحي بالكلمة المقدسة، وكأن الله نفخ في الكلمات البشرية نسمةً منه كما نفخ قديمًا في آدم، فأصبحت تلك الكلمات حية ومحيية صادرة من فمه هو، والكلمة النبوية هي الدستور الوحيد المعصوم ذو السلطة الكاملة للإيمان والأعمال» بمعني أخر يمكننا القول أن كل الكتاب هو زفير الله، هو تنفسات الله، وحَمَل الله الكتبة بروحه إلى الهدف الذي كان يريده ويقصده، وكتب الدكتور القس إبراهيم سعيد في كتابة لماذا أؤمن «هذا الكتاب الذي أومن بأنه كلمة الله، فهو ليس متضمنًا كلمة الله وكفى ولكنه كلمة الله بالذات، نعم استخدم الرب في كتابه علم موسى، وشاعرية اشعياء، وسذاجة عاموس، وحكمة سليمان، وفلسفة بولس، وتصوف يوحنا، وبساطة بطرس، فانطبعت شخصية كلٌ على كتاباته، لكن روح الله كان يسوق الجميع في ما كتبوا فكتاب الله يتمشي مع مسيح الله كلاهما كلمة الله فالكتاب هو كلمة الله المكتوبة والمسيح هو كلمة الله المتجسد وكلاهما متأنس فكتاب الله هو فكر الله متأنسًا في بشرية من كتبوه والمسيح متأنس في شخص ابن الانسان فكما أن المسيح كلمة الله له لحم وعظم ولاهوت كذلك لكتاب الله لحم وعظم ولاهوت أما لحمه وعظمه فهما شخصيات كتابه وأما لاهوته فهو فكر الله وعندما نقول إن الإيمان المسيحي هو الإيمان بيسوع المسيح فإننا نقصد ضمنًا إنه هو الإيمان بالكتاب المقدس فحيث لا كتاب مقدس لا مسيح».

وعندما يقول البعض إن المسيحية ليست دين كتاب ولا المسيحيون أهل كتاب وأننا نقدس الشخص لا النص فهذا الكلام قد يكون منطقيًا وجذابًا من الوهلة الأولى ولكن من أين عرفنا الشخص؟ أليس من النص؟ حيث لا كتاب مقدس لا مسيح
ويلخص اللاهوتي بيتر إنس نظريته في طبيعة الكتاب المقدس في هذه العبارة «كما أن المسيح هو الله وهو أيضًا إنسان فهكذا أيضا الكتاب المقدس إلهي وانساني في نفس الوقت بكل إنسجام.»
في حواره مع نيقوديموس قال السيد المسيح ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الانسان الذي هو في السماء وما قاله المسيح يؤكد أن المنزّل من السماء هو المسيح. فالحقيقة هي في اجتماع الأمرين معًا كما هو الحال في شخصية المسيح التي تجمع الطبيعتين الإلهية والإنسانية بدون اختلاط او امتزاج أو تغيير أو أي تنازل في أي منهما لحساب الأخرى.

ثانياً: يؤمن المسيحيون بإنجيل واحد، أي بشارة مفرحة تتلخص في مجيء السيد المسيح وعصمته وسمو تعاليمه وفدائه وموته وقيامته، وهذا الإنجيل كتبه أربعة رواه، هم متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وكل منهم كتب بأسلوب وبلغة وبمعلومات تتناسب مع من كان يكتب إليهم.

ثالثاً: نقلاً عن الأستاذ عباس محمود العقاد تعرض الأستاذ رجائي عطية لنظرية المصادر والتي تتلخص في أن مرقس كتب بشارته أولاً، ثم نقل منه البشيران متى ولوقا، مع مصادر أخرى تخص كلا منهما، وفي حقيقة الأمر إنه لوصحت هذه النظرية فهي لا تنتقص أبداَ من مكانة الكتاب المقدس، وذلك لأن روح الله –الروح القدس- هو الذي ذَكَرَ الكتبة بما قاله لهم المسيح، وهو الذي أرشدهم إلى انتقاء المادة التي يكتبونها من بين المواد الأخرى، هذا فضلاً عن أن هناك نظرية أخرى تقول بأن البشير متى هو الذي كتب بشارته أولاً ومن ثم يصعب أن نقول أن متى ولوقا نقلا من مرقس.

رابعاً: ذكر الأستاذ رجائي «أن آباء الكنيسة ارتضوا هذه البشائر الأربع بالاقتراع»، وفي حقيقة الأمر أن أباء الكنيسة وضعوا عدة معايير صارمة ليميزوا بين الأناجيل الصحيحة الموحى بها بالروح القدس، وبين الأناجيل الغنوسية المزيفة والتي انتشرت في نهايات القرن الأول، ومن ثم استبعدوا الأناجيل المزيفة وأبقوا على البشائر الأربعة التي انطبقت عليها معايير القانونية ومن معايير القانونية سلطان السفر وتضمنه عبارة هكذا قال الرب وكتابته بواسطة أحد أنبياء الله وثقة الكنيسة في محتواه ووضوح قوة الله في السفر وكذلك استشهاد رجال الله به مثلما اعترف بطرس بكتابات بولس.

خامسًا: لايسجل البشير مرقس مدح المسيح لبطرس عندما قال له أنت المسيح وذلك تواضعًا من بطرس الذي كان يقص على تلميذه مرقس ماسمعه ومارآه من المسيح فمرقس كتب بشارته مستقيا معلوماته من بطرس قال بابياس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي «لقد كان مرقس مترجما لبطرس أو بكلمات أدق ناقلًا عنه».

سادسًا: في بشارة مرقس عدم ورود عبارة ابن الله على لسان بطرس لا يعني أن بطرس لم يقلها حيث أنها موجودة في بقية البشائر وهي لا تعني أبدًا أن الله تزوج وأنجب المسيح فحاشا لله أن يتزوج وينجب ولكنها تعني العلاقة الفريدة للمسيح الابن بالأب وهي تعني تعادل المسيح بالله الآب.

سابعًا: تراجع بعض الناس عن تبعية السيد المسيح هذا لم يكن شكا منهم في شخصه ولكن لسمو تعاليمه ومبادئه التي رأوا أنهم لا يمكنهم اتباعها ولأن المسيح كان يحترم حرية الناس فهو لم يجبر احدًا مطلقًا على تبعيته بالإكراه.

ثامنًا : أجمع أغلب الباحثين على أن كاتب بشارة يوحنا هو تلميذ المسيح يوحنا الحبيب التلميذ الذي كان يسوع يحبه وليس آخر.

تاسعًا: قال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه «عبقرية المسيح» ص 88 – 90 وكتاب «الله» ص 149، 154، 194 ما خلاصته «إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح فليس في هذا الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع عن الإنكار، لأن الأناجيل تضمنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها، والمقارنة بينها وبين آثارها، كما أن مواضع الاتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحي واحد». وقال أيضاً «الصواب أن الأناجيل هي العمدة الوحيدة في كتابة تاريخ السيد المسيح، ومن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي عام أحق منها بالاعتماد».

عاشرًا: قدمت لنا البشائر الأربع المسيح الفريد في ميلاده العذراوي وفي عصمته وخلو سيرته وسريرته من كل خطية وفي معجزاته المبهرات وآياته البينات من إقامة للموتى وإبراء للأكمه والأبرص كما قدمت لنا سمو تعاليمه ومبادئه ومحبته للبشر حتى الموت موت الصليب وتفرده بانتصاره على الموت وقيامته ظافرا منتصرا كاسرا شوكة الموت.

حادي عشر: نتمنى أن تكون حرية التفكير والتعبير مكفولة لجميع المصريين دون تفرقة أو تمييز وأن الرأي يرد عليه بالرأي والحجة بالحجة والفكر بالفكر.

القس رفعت فكري

قس إنجيلي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية رئيس مجلس الحوار والعلاقات المسكونية بالكنيسة الإنجيلية بمصر الأمين العام المشارك بمجلس كنائس الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى