دراساتدراسات كتابيةمقالات

علامات أساسية في الحياة المسيحية (2)

الاستقامة مقابل الاعوجاج والازدواج

الهدى 1219                                                                                                                               مارس 2020

قال الحكيم: «لِتَنْظُرَ عَيْنَاكَ إلَى قُدَّامكَ، وأجْفَانُكَ إلَى أمَامِكَ مُسْتَقِيْماً.. مَنْ يَسْلُكُ بالاسْتِقَامَةِ يَسْلُكُ بالأمَانِ، ومَنْ يُعَوِّجُ طُرُقَهُ يُعَرَّفُ.. ذَبِيْحَةُ الأشْرَارِ مَكْرَهَةُ الرَّبِّ، وصَلاةُ المُسْتَقِيْمِيْنَ مَرْضَاتَهُ.. الفَقِيْرُ السَّالِكُ بِاسْتِقَامَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ مُعَوِّجُ الطَّرِيق وهُوَ غَنِيّ» (أمثال 4: 25/ 10: 9/ 15: 8/ 28: 6). وقال المرنم: «وَصَايا الرَّبُّ مُسْتَقِيْمَةٌ، تُفَرِّحُ القَلْبَ» (مزمور 19: 8).
وقد قالوا للمسيح مرة بحق: «يَا مُعَلِّم، نَعْلَمُ أنَّكَ بالاسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وتُعَلِّمُ ولا تَقْبَلُ الوُجُوْهَ، بَلْ بالحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيْقَ الله» (لوقا 20: 21). وطلب بولس من تيموثاوس أن يكون: « مُفَصِلاً كَلِمَةَ الحَقِّ باسْتِقَامَةٍ» (2تيموثاوس 2: 15). فالكلمة تصف شخص المسيح، ووصايا الله، والتفسير الأمين لكلمة الله، كما تصف حياة المؤمنين. إنها إحدى العلامات الأساسية للحياة المسيحية. فماذا تعني {الاستقامة}؟ سوف نتعرف على المعنى الكتابي للاستقامة من خلال بعض المعاني العكسيّة لها.
(1) الاستقامة عكس المبالغة
المبالغة في الكلام، أو التضخيم في الوصف من أكثر الأمراض انتشارًا، وهي نوع من الكذب، لأنها لا تقدم الصورة الصحيحة المستقيمة عن الواقع والحقيقة. كذلك المبالغة في السلوك ليست استقامة، لأنها لون من ألوان التطرف. هكذا كان الكتبة والفريسيون مبالغين كثيرًا في سلوكهم وتدقيقهم وتشددهم. وقد وصف بولس طريقة العبادة اليهودية بحسب المذهب الفريسي بقوله: «مَذْهَبُ عِبَادَتَنا الأضْيَق» (أعمال 26: 5). والتضييق هو المبالغة في التدقيق، والتشدد والتزمت، وهو عكس الاستقامة. فضيق الفكر محدود الرؤية، لا يرى ما وراء الفرائض والوصايا. لذلك وبخهم المسيح على أسلوب المبالغة في العبادة: المبالغة في الصلاة، بإطالة وقتها من أجل الظهور بمظهر التقوى، والمبالغة في الصوم، بالظهور بمظهر التقشف، والمبالغة في الصدقة، بتقديمها في العلن. بل علم «لا تَكُونُوا عَابِسِيْنَ كالمُرَائِيْن» المبالغين في مظاهر تدينهم. هناك من يضيق على نفسه ويعتاد ذلك الأسلوب، لكنه يضيق على الأخرين بأحكامه الظالمة القاسية، ويفرض على الناس مقاييس مبالغ فيها وغير مستقيمة. لقد وبّخ المسيح أمثال هؤلاء، لأنهم «يَحْزِمُونَ أحْمَالاً ثَقِيْلَةً عَسِرَةَ الحمْل، ويَضَعُونَها على أكْتَافِ النَّاس، وهُم لا يُرِيدُونَ أنْ يُحَرِّكوها بإصْبِعِهِم» (متى 23: 4).
فإذا أردت أن تدرب نفسك مثلًا على فضيلة التواضع وإنكار الذات، فلا تبالغ بتحقير نفسك. وإذا أردت أن تتعلم فضيلة الصمت، فلا تبالغ وتكون أخرسًا. وإذا أردت أن تنمي في نفسك فضيلة المحبة، فلا تبالغ في محبتك، فقد توقع ضررًا بمن تحب، وبذلك تناقض محبة المسيح. إننا بسبب المبالغة قد نقسو وندين البعض على سلوكهم الذي لا يعجبنا، وقد نبالغ في وصف أشياء أو أحداث أو أشخاص، فنمدح شخصًا وكأنه إله، أو نذم شخصًا وكأنه شيطان، أو نعطي وصفًا ضخمًا لبعض الأحداث وكأنها كوارث.
(2) الاستقامة عكس التذبذب
التذبذب فيزيائيًا هو حركة تبادلية بالتناوب بين جهتين متناقضتين، مثل بندول ساعة الحائط القديمة. والطيارون يعرفون معنى الكلمة في الهواء، فهي الحالة التي لا يسمح فيها بالطيران. ونحن نعرف بالاختبار أن الشخص المتذبذب ليس له رأي ثابت. ويقول عنه الرسول يعقوب: «رَجُلٌ ذُوْ رأْيَيْنِ، هُوَ مُتَقَلْقِلٌ في جَمِيْعِ طُرُقِهِ» (يعقوب 1: 6-8). فيشبهه بموج البحر الذي تتلاعب به الرياح يمينًا ويسارًا. متردد في مشاعره وأفكاره وعلاقاته وقراراته، غير مقتنع أن طريق الله هو الطريق الأفضل، ويأخذ وصايا كلمة الله كأي مشورة بشرية.
فالذين يبالغون في أقوالهم وسلوكهم ووصفهم، لا يستطيعون الاستمرار في مبالغتهم تلك، لأنَّ أسلوب المبالغة ليس ثابتًا على الدوام. لذلك فالمبالغون كثيرًا ما ينقلبون إلى الضد، لأنهم متقلقلون وغير ثابتين. والخط البياني الذي يعلو ويهبط، ليس خطًا مستقيمًا، والذي يتحول من الضد إلى الضد ويتأرجح بينهما، ليس مستقيمًا. هذا الأسلوب ليس من الروحانية في شيء. لذلك نقول {قليل دائم خير من كثير متقطع}، أي: العمل الروحي البسيط الصحيح الراسخ المستمر، أفضل من فترة طويلة متقطعة متذبذبة غير مستقرة. وأن تعاملني بقليل من المحبة المستمرة المستقرة، أفضل كثيرا من التأرجح بين المحبة والكراهية.
والشخص المتذبذب لا يستطيع أن يقف على رأي ثابت ويستمر عليه، لأنه يعيش حالة من القلق والشك والتردد. أحيانًا يفعل ذلك من باب النفاق، أو محاولة الوقوف على الحياد، أو بحثًا عن حلول وسطية، فيختلط عنده الحق بالباطل.
(3) الاستقامة عكس الاعوجاج
نُعرّف الخطية بأنها انحراف إلى الشر وانحراف عن الخير. وفي الحالتين لا توجد استقامة، في ارتكاب الشر أو في عدم فعل الخير. فقد ينحرف إنسان إلى الشر أو عن الخير ويعوج طريقه لعدم معرفته، أو لعدم تدقيقه في شؤون حياته وأخلاقه. يقول الحكيم: «طَرِيْقُ الجَاهِل مُسْتَقِيمٌ في عَيْنَيْهِ» (أمثال 12: 15). حيث يصفه بالجاهل هنا لأنه لا يعرف حقيقة نفسه، ولا يعترف بخطاياه وأخطائه ونقاط ضعفه. لذلك فهو يظن دائمًا أن جميع تصرفاته مستقيمة. كما تنبأ ميخا النبي عن خراب أورشليم: «اسْمَعُوا هَذَا يَا رُؤَسَاءَ بَيْتَ يَعْقُوب، وقُضَاةَ بَيْتَ إسْرَائِيْل، الَّذِيْنَ يَكْرَهُوْنَ الحَقَّ ويُعَوِّجُوْنَ كُلَّ مُسْتَقِيمٍ» (ميخا 3: 9)، محذرًا إياهم من استمرارهم في تحريف واعوجاج كل ما هو مستقيم، وسعيهم وراء المصالح الشخصية وأخذ الرشوة، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى خراب أكيد. وهذا تحذير لنا أيضًا من اعوجاج كل مستقيم.
لذلك ينصح بولس المؤمنين في كنيسة فيلبي، أن يعيشوا حياة البر والأمانة من دون تذمر أو جدال، حتى يقدموا صورة جيدة للكنيسة أمام المجتمع: «لِكَي تَكُونُوا بِلا لَوْمٍ، وبُسَطَاءَ، أوْلادًا لله، بِلا عَيْبٍ في وَسَطِ جِيْلٍ مُعَوَجٍّ ومُلْتَوٍ، تُضِيْئُوْنَ بَيْنَهُم كأنْوَارٍ في العَالَمِ» (فيلبي 2: 14-15). وذلك حتى تتحقق نبوءة يوحنا المعمدان عن عصر المسيح: «تَصِيْرُ المُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيْمَةٌ» (لوقا 3: 5). فاعوجاج المستقيمات أمر ينذر بالخراب الحتمي الآتي، ويقدم للناس صورة كاذبة عن الإنجيل. لكن عندما يدخل المسيح الحياة، تصير المعوجات مستقيمة.
(4) الاستقامة عكس الازدواج
الازدواجية مثل الرياء، هي من الأمراض المنتشرة أيضًا. محاولة الجمع بين الحقيقي والتمثيلي، بين الحق والباطل، فيبدو الظاهر مستقيمًا بعكس الداخل. وقد رفض المسيح أن يكون القلب واللسان متضادين، خاصة في العبادة: «هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنُي بِشَفَتَيْهِ، وأمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيْدَاً» (مرقس 7: 6، 7). هكذا كان يهوذا الإسخريوطي، مخادعًا مزدوجًا مرائيًا، يقبل المسيح ويجلس ويأكل معه كصاحب، بينما كان يخطط لتسليمه للسلطة اليهودية الدينية ليقبض الثمن. ذو وجهين ولسانين وهدفين، يلعب على الطرفين. أما المستقيم فلا تناقض بين قلبه ولسانه، ولا بين مشاعره وأفعاله. لا يتملق ولا ينافق، هو صريح وواضح في تقديره واحترامه، وفي نقده أيضًا، للأخرين. لا يسلك بازدواجية من أجل صحبة أو شهرة، أو للانضمام إلى تيار معين. إنه في داخله كما في خارجه. لا يسعى لتحقيق أهدافه بالخداع، ولا يحل مشاكله بالخداع.
تحذير من الطرق التي تبدو مستقيمة
إن مشاعر المحبة والرغبة تُملي علينا الكثير مما نعمله وما لا نعمله. لكن يجب أن نفحص أنفسنا ونتأكد دائمًا إذا كانت رغباتنا وأمزجتنا تحفظنا على الطريق الصحيح المستقيم. فقد تبدو بعض الأساليب جذابة ومريحة وتمنحنا خيارات عديدة، ولا تتطلب منا سوى قليل من التضحيات. لكن الاختيارات السهلة ليست دائمًا صائبة، لأنَّ الاختيارات الصحيحة كثيرًا ما تستلزم أعمالًا متعبة وتضحيات كبيرة. فما أكثر الطرق التي تبدو مستقيمة في أعيننا، ولكنها في الواقع ليست كذلك. لذلك يحذر الحكيم: «تُوْجَدُ طَرِيْقٌ تَظْهَرُ لِلإنْسَانِ مُسْتَقِيْمَةٌ، وعَاقِبَتُهَا طُرُق المَوْت» (أمثال 14: 12)، وهذا يعلمنا:
(1) لا تعتمد دائمًا على رؤيتك الخاصة. لأنك قد تخطئ وتظن أن هناك خيرًا ينتظرك في طريق ما، دون أن ترى الضرر الذي ينتظرك هناك. لذلك يقول: «عَلَى فَهْمِكَ لا تَعْتَمِد» (أمثال 3: 5). اطلع على ما تقوله كلمة الله، واسأل أحد الأصدقاء، شرط أن يكون تقيًا حكيمًا.
(2) لا تتسرع وتنفذ كل ما يطرأ في ذهنك من رغبات وأفكار وطموحات. فقد تبدو هذه في عينيك صحيحة ومناسبة وشرعية، لكنها في الأخر تتعبك. «فَلا تَكُنْ حَكِيْمَاً في عَيْنَيّ نَفْسِكَ» (أمثال 26: 12).
(3) هناك من جذبتهم طرقًا بدت أمامهم مستقيمة، فاختاروا الدخول من الباب الواسع والسير في الطريق الرحب، لكن كانت النهاية الهلاك والموت (متى 7: 13-14). فالابن الضال ظن أن خروجه من بيت أبيه، واستقلاله عنه، سيؤدي به إلى الحرية والصحبة والمتعة، والتحرر من قوانين الأب ونظام البيت، وكانت النتيجة الضياع.
(4) يقول الحكيم: «كُلّ طُرُق الإنْسَانِ نَقِيَّة في عَيْنَيّ نَفْسِهِ، والله هُوَ وَازِنُ الأرْوَاحَ» (أمثال 16: 2). فكل إنسان معجب بتفكيره وعقله وعمله، كأحسن فكر وأذكى عقل وأفضل تصرف. حتى المجرمين في السجون، فهم في نظر أنفسهم أنقياء وأبرياء. كذلك الهراطقة والمنحرفين في معتقداتهم، يظنون أن عقائدهم مستقيمة. كذلك التلميذ الذي يغش في الامتحان ليصل إلى النجاح بأسهل الطرق من دون تعب، يرى ذلك مستقيمًا في عينيه. والتاجر الذي يغش في البضاعة المباعة، والموظف الذي يكتب تقارير غير صحيحة… الخ. كل هؤلاء وغيرهم تبدو طرقهم في أعينهم طرقًا مستقيمة، لكن عاقبتها الهلاك.
لماذا ترى طريقك مستقيمة؟
أ. الجهالة: بسبب التربية الخاطئة والتعاليم الخاطئة والقيم الاجتماعية الخاطئة.
ب. الرغبة: حين يخضع العقل لخدمة الرغبة، فيعمل بكل قواه لإثبات صحة ما تشتهيه النفس وترغب في الوصول إليه. فيبحث عن أسباب يقنع بها نفسه وغيره أنه على صواب، وأن هذا هو الطريق المستقيم.
{الاستقامة} ليست فضيلة اجتماعية ننادي بها، لكنها إحدى العلامات الأساسية في الحياة المسيحية. فالإنسان الروحاني بحق، هو الذي يعود نفسه دائمًا على استقامة فكره وفعله وردود أفعاله. لا يعتمد فقط على تفكيره الخاص، ولا يتسرع في تنفيذ مشروعاته وتحقيق رغباته. لا يبالغ ولا يضخم، وغير متذبذب غير متقلقل، لا اعوجاج، ولا ازدواج في الرؤية والأهداف. يسلك باستقامة حتى لو كان ذلك يكلفه ماديًا أو اجتماعيًا أو عاطفيًا، فهذه الخسارة هي في الحقيقة مكسب روحي، ينمو ويتقدم به في حياته الروحية. بهذا يعيش سعيدا، ويعيش الناس معه مطمئنين إليه.
كانت طلبة داود بعد توبته ونيله الغفران، هي لتجديد قلبه وتجديد رؤيته. طلبة القلب الجديد الذي لم تلوثه الخطيئة والشر، طلبة الرؤية الجديدة التي ترى وتقيم كل شيء باستقامة، فتميز بين الخير والشر. هذه كانت صلاة داود، فليتنا نصليها أيضًا: «قَلْبَاً نَقِيَّاً اخْلُقْ فيَّ يَا الله، ورُوْحَاً مُسْتَقِيْمَاً جَدِّد في دَاخِلِي» (مزمور 51: 10).

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى