الهدى 1252-1253 يناير وفبراير 2024
’عيد الميلاد‘ واحد من أكثر الأيام بهجة في الرّوزنامة المسيحيَّة، بل في الوجدان المسيحيّ، غربًا وشرقًا، وهو لا شك يستحق هذا. فهذا الحدث الفريد في تاريخ البشريَّة، يستحق التّأمل. والمتأمل في قصة الميلاد، يكتشف كُنه الفرح المسيحيّ. الجميع فرحوا، بل فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا، وانعكس فرحهم سجودًا، خشوعًا، تفكرًا، عملًا، وبِشارةً. لكن بمرور الوقت اختلفت النّظرة، واختلفت تبعًا لها المُمارسات. نستعرض في هذه الورقة بعضًا من آراء المُصلحين في الأعياد، وبعض نتائجها، نرصد الواقع، ونستشرف المُستقبل. لكن أولًا، علينا أن نسأل:
متى أصبح عيد الميلاد عيدًا؟
دُشِّنَ أول احتفال رسميّ بعيد الميلاد في ٢٥ ديسمبر ٣٣٦م. وَفقًا للتّقويم الجريجوري[1] الموافق لـ ٢٩ كيهك وَفقًا للتوقيت اليوليانيّ -والذي ثُبِّتَ فيمَ بعد في السَّابع من يناير في مصر- وأمر به ’قسطنطين‘ أول إمبراطور مسيحيّ، ليحل محل الاحتفال بعودة النّهار إلى الطّول.[2] ولم يُصبح احتفالًا طقسيًّا رئيسًا إلَّا في القرن الرَّابع الميلاديّ. [3] لكن -قولًا واحدًا- لا الكتاب المُقدَّس، ولا كتابات آباء الكنيسة في القرون الثَّلاثة الأولى تحدد يومًا لميلاد المسيح، بل إنَّه وَفقًا للكتاب المُقدَّس، لا يمكن -بأي حالٍ من الأحوالِ- أن يكون ميلاد المسيح قد جرى في الشِّتاء، كونه مستحيلًا وجود ’’رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ (في الصحراء) يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ،‘‘ (لوقا ٢: ٨) في نواحي فلسطين القارصة البرودة شتاءً! بل إنَّ بعض علماء الفلك- متابعو حركة الكواكب والنجوم بصورة علميَّة، وليس المُشعبذين الفلكيين- اقترحوا أنّ نجمة الميلاد المذكورة في الكتاب المُقدَّس ظهرت في يونيو أو يوليو، ويبدو هذا لي افتراضًا وجيهًا.
رافق عيد الميلاد احتفالات دينيَّة وصلوات خاصَّة عند عموم المسيحيين، واجتماعات عائليَّة واحتفالات اجتماعيَّة، أبرزها نصب شجرة عيد الميلاد، وتبادل الهدايا واستقبال سانتا كلوز وإنشاد التّرانيم الميلاديَّة وعشاء الميلاد. [4] هذه العادات الاحتفاليَّة المرتبطة بعيد الميلاد في عديد من البلدان لها أصول من العصور ما قبل المسيحيَّة، وأصول علمانيَّة، بالإضافة إلى الأصول المرتبطة بالمسيحيَّة. وبالطّبع ولأهميَّة الحدث كما ذكرنا، فقد احتَّك الإصلاح الإنجيليّ به، وسنعرض في الفقرات التّاليَّة لهذا التّفاعل بين الإصلاح وعيد الميلاد.
لوثر واحتفالات الميلاد
أحبَّ ’لوثر،‘ الأكثر حماسةً وانفعالًا بين القادة الإصلاحيين الثلاثة الاحتفال بعيد الميلاد، وغالبًا ما كان يعظ عن ولادة المسيح مع اقتراب الخامس والعشرون من ديسمبر. اعتنق ’لوثر‘ المبدأ المعياريّ في العبادة، أي أن كل ما لم يحظره الكتاب المقدس، يمكن أن يكون له مكان في الكنيسة، لذا شعر أنَّه مبررٌ تمامًا الاحتفال بتجسد ابن الله بطريقة خاصةٍ مرةً واحدةً على الأقل في العام، واستغل موسم الأعياد ليُعلن البِشارة التي أذهلت رُعاة بيت لحم. كان جوهر الرّسالة التي حَرِصَ ’لوثر‘ على تقديمها في ذكرى الميلاد، هي: ’’في نفسي أنا خاطئ، لكن في المسيح، في المعموديَّة والكلمة، أنا مُقدس.‘‘[5]
في عِظته المعنونة ’’يوُلَدَ لنَا وَلَدٌ،‘‘ المنشورة في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1531، بارك لوثر إيمان الرُّعاة الذين ’’على الرّغم ممَّ أخبرتهم به حواسهم الخمس… استنتجوا أنَّ: هذا هو الملك المُخلِّص، فرح الشعب العظيم. لم يكن في قلوب هؤلاء الرُّعاة إلَّا كلام الملاك. في الواقع، كانوا عظماء لدرجة أنهم لم يروا شيئًا آخر إلَّاهما [المُخلِّص والفرح]. لقد امتلأوا بهذه الكلمات تمامًا، وأذاعوها دون أن يهتموا بأي شيء ممَّ سيقوله رجالات القدس والسِّنهدريم. على العكس، فقد بشروا بالمسيح المسكين دون أدنى خوف.‘‘ [6]
وهكذا، احتفظ ’لوثر‘ بتقليد الرُّوم الكاثوليك في عيد الميلاد، وربما كان من أوائل الذين زينوا شجرة عيد الميلاد بالشّموع، على حد قول ’هايكين،‘ أستاذ تاريخ الكنيسة في كليَّة اللَّاهوت المعمدانيَّة الجنوبيَّة، الذي قال: ’’لقد كان مهرجانًا، وكان سعيدًا بالاحتفال به.‘‘ خُصِّصَت العِظات السّبع الأولى في كتاب ’المواعظ الكاملة لمارتن لوثر‘ من تحرير ’چون نيكولاس‘ لموسم عيد الميلاد. [7]
’البيوريتانيون‘ المُتَشدِّدون
على الطّرف الآخر، كان البيوريتانيون[8] من الإصلاحيين الإنجليز الذين احتلوا دائرة الضّوء في القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر. بعد أن انفصل الملك ’هنري الثَّامن‘ عن الكنيسة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة وأنشأ الكنيسة الپروتستانتيَّة في إنجلترا، سعى المتشددون إلى زيادة إصلاح الكنيسة التي تأسست حديثًا. وفي سعيهم هذا اصطدموا مع عيد الميلاد. لقرون كان النّاس يحتفلون بعيد الميلاد، بإغلاق أعمالهم ومتاجرهم، والحضور إلى الكنيسة، وترتيل التّرانيم، ثم الاستمتاع بعشاء الميلاد مع العائلة والأصدقاء. نظرًا لأن معظم سكان إنجلترا في العصور الوسطى لم يكن لديهم كثيرٌ للاحتفال به، لذا تطلّعوا إلى موسم احتفالات الميلاد وانتظروه، للاستراحة من المتاعب اليوميَّة، ومع ذلك، شعر البيوريتانيون أن الحياة يجب أن تُعاش وفقًا للكتاب المُقدَّس فقط. ففي رأيهم، لم يُشر الكتاب المقدس إلى الاحتفال بميلاد المسيح على الإطلاق، ناهيك عن التوصية بالطعام والشّراب والمرح وكل ما كان يجري؛ لذا ضغطوا لحظر عيد الميلاد.
في عام 1642، وافق الملك ’تشارلز الأول‘ على طلب من البرلمان لاعتبار عيد الميلاد فترة هدوء للصّوم والتّفكير الرّوحيّ، بدلاً من كونها عُطلة صاخبة، وفي يناير 1645، أصدر البرلمان دليلًا لعِبادة الله العامَّة، ووضع قواعدًا جديدة للعِبادة، حيث خُصِّصَت أيام الآحاد للعِبادة، ولكن حُظِرت الاحتفالات والمناسبات الدّينيَّة الأخرى في الكنيسة -بما في ذلك عيد الميلاد. لكن البرلمان لم يتوقف عند هذا الحدّ. في عام 1657، عَدَّ البرلمان أنَّه من غير القانونيّ تعطيل العمل في الشّركات في عيد الميلاد، أو حضور أو إقامة صلاة عيد الميلاد. لكن الشّعب الإنجليزيّ رفض أن يتخلى عن احتفالاته دون قتالٍ، إذ أعقب ذلك أعمال شغب، واحتفل كثيرون بعيد الميلاد على انفراد في منازلهم، إن لم يكن في أماكن عبادتهم. وبعد أن أمر ’أوليفر كرومويل،‘ المتشدد، بإعدام الملك ’تشارلز الأول‘ في عام 1635، أيد الحظر المفروض على عيد الميلاد ، لكن وبعودة النّظام الملكيّ عام 1660، عاد عيد الميلاد كذلك.[9]
هاجر بعض المتشددين، غير الرّاضين عن كنيسة إنجلترا، إلى العالم الجديد واستقروا في ماساتشوستس .وشرعوا في حياة صارمة، تشكلت من خلال معتقداتهم المسيحيَّة الرّاسخة، وبالطّبع، جلبوا معهم قناعتهم بأن عيد الميلاد كان عُطلة للخُطاة، ولا ينبغي الاحتفال به على هذا النّحو. كان الاحتفال بعيد الميلاد مُحبِطًا للبعض، ولكنه لم يصبح جريمة يعاقب عليها القانون حتَّى عام 1659.[10] وبحلول عام 1681، واجه المحتفلون بالعيد تُهمة زعزعة السِّلم، ذلك متى قُبِض عليهم وهم يحتفلون في الأماكن العامَّة. أبقى المتشددون -إجبارًا- عيد الميلاد تحت الأرض في معظم أنحاء نيو إنجلاند، لكنهم لم يتمكنوا من إجبار مستعمرات العالم الجديد الأخرى على فعل الشيء نفسه، فكانت احتفالات عيد الميلاد شائعة في فرچينيا ومريلاند ومستعمرات أخرى، حيث جلب المهاجرون تقاليد عطلاتهم كما هي. وعلى الرّغم من ذلك، احتفل المتشددون بعيد الميلاد بعد عقد من الزمان، وجعلت ولاية ماساتشوستس عيد الميلاد عطلة قانونيَّة في عام 1856، بعد ما يقرب من مئتي عام من حظره، وجعلها الرئيس ’يوليسيس س. جرانت‘ عطلة فيدراليَّة في عام 1870. [11]
إلى هذا الطّرف انضم أيضًا، واحد من الرواد هو ’أولترخ زوينجلي،‘ فماذا عنه؟
’زوينجلي‘ على الطّرف المُتشدد
وفقًا لـ’ڨان ديلين‘ و’مونسما،‘ تخلّص ’زوينجلي‘ من كل الأيام الاحتفاليَّة الكنسيَّة في روزنامة الكنيسة في زيورخ،[12] إذ كان يعتنق المبدأ التّنظيميّ للعِبادة، وهو الاعتقاد بأنَّه لا يجوز للمسيحيين عبادة الله إلَّا بالطُرقِ التي أمر بها الكتاب المقدس فقط. عارض ’زوينجلي‘ أي احتفال لم يرد ذكره في الكتاب المقدَّس؛ هذا الاقتناع، -بالطّبع- هو أحد الاختلافات الرئيسة بين الكنائس اللوثريَّة والكنائس الإصلاحيَّة. كان هذا الاعتقاد نفسه، الذي دفع الاسكتلنديين المشيخيين والمتشددين الإنجليز إلى حظر احتفالات عيد الميلاد على نطاق وطنيّ، عندما شغل ’أوليفر كرومويل‘ منصب اللورد الحامي لإنجلترا واسكتلندا وأيرلندا بين عامي 1653 و1658، كما ذكرنا آنفًا.
وكما في حالة فريضة العشاء الرَّبَّانيّ، كان ’چون كالڨن‘ هو الشخص الذي اضطر للتوسط بين ’لوثر‘ و’زوينجلي.‘
’كالڨن‘ في المنتصف
على الرغم من قبول ’كالڨن‘ -كـ ’زوينجلي‘- بالمبدأ التّنظيميّ، وليس المبدأ المعياريّ كـ’لوثر،‘ إلَّا أنَّه اعتقد أن كل جماعة محليَّة يمكن أن تقرر أفضل طريقة للاحتفال (أو عدم الاحتفال) بالأعياد. على الرّغم من أنَّ بعض المؤرخين أكّد أنّ ’كالڨن‘ كان في المعسكر المناهض لاحتفالات الميلاد، فقد كتب الفرنسيّ رسالتين في يناير 1551، ومارس 1555، يُحدِّدان موقفه ممَّ يتعلق بعيد الميلاد. في رسالة يناير 1551، أوضح ’كالڨن‘ أن سُلطات چنيف قد تخلَّت عن أيام الأعياد قبل وصوله إلى المدينة، بينما اعترف صراحةً أنه احتفل -شخصيًا- بميلاد المسيح.[13] أمَّا في رسالة مارس 1551، انتقد ’كالڨن‘ أولئك الذين لاموا بعض الكنائس التي اختارت الاحتفال بفترة الأعياد.[14] وفقًا لـ ’كالڨن،‘ كانت مثل هذه الأسئلة لا طائل منها، ويمكن لكل كنيسة أن تتخذ القرار الأفضل؛ بعبارة أخرى، للكنيسة الحُرِّيَّة في أن تقرر ما إن كانت ستحتفل بعيد الميلاد أم لا، ولكنه وكما قال في رسالة مارس 1555: ’’لا يجب احتقار كنيسة أو إدانتها لأنها تحتفل بأيام أعياد أكثر من غيرها.‘‘[15]
قال ’كالڨن‘ وهو يعِظ -أحد أيام الثلاثاء- في يوم عيد الميلاد عام 1551: ’’أرى اليوم عددًا أكبر من الأشخاص الذين اعتدت على رؤيتهم في العِظة…‘‘ ووفقًا لما جاء في كتابه المُعنون: ’عظات حول سفر ميخا،‘ والذي ترجمه ’بنيامين ويرت فارلي‘ فقد أكمل ’كالڨن‘ مُحذِّرًا المُتعبدين: ’’عندما تُخصِّصُ يومًا ما [باستحسانك] لأجل عِبادة الله، تكون قد حولته إلى صنمٍّ. صحيح، أنك تُصرُّ على أنك فعلت ذلك لأجل مجد الله، ولكن هذا [الذي فعلته] في الحقيقة لأجل مجد الشيطان!‘‘[16] بل ووصف من يهتمون بهذا اليوم أكثر من يوم الأحد ’’…إنّ البهائم غير العاقلة أفضل منهم.‘‘[17] وأعلن يومها أنه لن يعظ عن الميلاد يومها، بل في الأحد التَّالي. ومع ذلك، بقي تحذير ’كالڨن‘ تحذيرًا وليس حظرًا لعيد الميلاد.
نظرة أقرب لحُجة ’كالڨن‘
تُذيع الأسطورة أنَّ ’چون كالڨن‘ قد سعى إلى اقتطاع أي شيء قد يربط الكنيسة المُصْلَحة بالفرح والاحتفال. حتَّى مُعاصريه، تخيلوا چنيف ملاذًا كئيبًا، وفي وقت من الأوقات ترددت شائعات على نطاق واسع بأن المُصلح الفرنسي قد ألغى يوم الأحد، ونفى الرّاحة الإلهيَّة من الأسبوع. ظل الاتهام بالعداء لاحتفالات الكنيسة يُلاحقه غالب سنوات خدمته كمُصْلِحٍ، لكنه أبدًا لم يكن صحيحًا. بالتأكيد، شهد الإصلاح التّخلي عن الروزنامة المسيحيَّة التقليديَّة، من خلال التّخلي عن تذكارات القديسين والأعياد التّقليديَّة المختلفة، لكن عيد الميلاد ظل مركزًا في حياة الكنيسة الجديدة. واصل المصلِحون في القرن السَّادس عشر الاحتفال بعيد الميلاد وعيد الفصح، في ذكرى ولادة وموت وقيامة يسوع المسيح، جنبًا إلى جنب مع عيد العنصرة[18] والصعود. بالنّسبة للمصلحين في القرن السَّادس عشر، كان إزالة التّكريم الخُرافيّ للقديسين شيئًا واجبًا ولازمًا لمتابعة حياة المسيح طيلة العام كما دعانا الكتاب المقدَّس. سعى ’كالڨن‘ إلى استعادة عيد الميلاد باعتباره احتفاءً بتجسُّد المسيح، وهي لحظة فارقة بالنسبة للمسيحيين، دون جعل العيد مُلزمًا للمؤمنين. في الوقت نفسه، كانت نيته تطهير العيد من التجاوزات الحماسيَّة العامَّة المُرتبطة تقليديًا بالعيد، وما اعتبره هو ’’رجسًا‘‘. ولقد كانت حقًا مُعادلة صعبة.
توقع ’كالڨن‘ عداء المتشددين في وقت لاحق لعيد الميلاد باعتباره ابتكارًا وثنيًا وبابويًا، يُطلق عليه أحيانًا في إنجلترا Foolstide، فسعى إلى إقناع مُعاصريه ألّا يجعلوا مسألة الأعياد الدّينيَّة مسألة تتعلق بالضّمير. في إنجلترا في القرن السَّابع عشر، كان يجري الاحتفال تقليديًّا بعيد الميلاد بالولائم والرّقص والصّخب العامّ، مما أثار حفيظة المُتشددين، فسعوا إلى تحويل عيد الميلاد إلى يوم سريع، واستصدروا قانونًا من البرلمان في عام 1643، يُعلن أنَّه يجب التّعامل مع عيد الميلاد: ’’بخشوعٍ وتذلُّلٍ شديدين، مُتذكرين خطايانا وخطايا أجدادنا الذين حولوا هذا العيد وذكرى المسيح -في حالة من النّسيان الشّديد لهما- إلى بهجة جسديَّة وحِسيَّة.‘‘ بعد ذلك بعامين، كان دليل العبادة العامَّة يوضِّح دون لَبسٍ، أن الأعياد -مثل عيد الميلاد- لم يرتبها أو يوصي بها الكتاب المقدَّس. كان الهجوم على عيد الميلاد في إنجلترا شرسًا ومسببًا للانقسام إلى حد كبير، وفشل في النهاية، واستُعيد الاحتفال في عهد ’تشارلز الثاني‘ عام 1660، وسط قبول عامّ كبير.
في حين أن ’كالڨن‘ لم يكن ليوافق أبدًا على التجاوزات والعالميَّة في احتفالات عيد الميلاد، التي يحتقرها المتشددون والمشيخيون، إلَّا إنَّه ظل مُرتبطًا بشدة بذكرى ميلاد المسيح في حياة الكنيسة. في زيورخ أول كنيسة مُصْلَحة، وبعد إلغاء أيام القديسين، استمرت الكنيسة الجديدة في الاحتفال بعيد الميلاد، وقُرِأت مقاطع مختارة من الكتاب المقدَّس على المؤمنين المجتمعين في عيد الميلاد، وتميز اجتماع المؤمنين في العيد، بحضور الكتب المقدَّسة والوعظ وسر المائدة، للتّأكيد على الابتعاد عن المُمارسات الكاثوليكيَّة، كما أُقيم الاحتفال بعيد الميلاد في أقرب يوم أحد، بحيث يتوافق العيد مع اليوم السَّابع الأقدس في الأسبوع، والذي يقول عنه ’كالڨن‘ في تعليقه على (تكوين 2: 3): ’’هذا عيدٌ مقدَّسٌ… إنَّه الرَّاحة التي تسحب الرِّجال من مُعوِّقات العالم حتَّى تكرِّسهم كليًا للهِ.‘‘[19]
كان ارتباط ’كالڨن‘ بعيد الميلاد أعمق من مجرد الحفاظ على التقاليد. بالنسبة لـ ’كالڨن،‘ عيد الميلاد وعيد الفصح هما أقدس أيام السنةِ، وقد وضع خصيصًا عِظات عن ميلاد المسيح وآلامه. فاضت بعض أكثر كلمات ’كالڨن‘ تأثيرًا من على المنبر في عظاته عن الميلاد. لفت ’كالڨن‘ انتباه مستمعيه إلى التفكير في فرحة العيد التحويليَّة، مُعلنًا أنَّه علينا أن نفرح: ’’ليس فقط بفرحٍ أرضي، ولكن بشكل خاصّ بالفرحِ الموعود لنا بالروح القدس…‘‘
تناول ’كالڨن‘ بإيجاز موضوع عيد الميلاد في مناسبات قليلة، ساعيًا لاستعادة الاحتفال باعتباره وقتًا للفرح الرّوحيّ، وليس للمُتعة الجسديَّة. تأتي المراجع الأكثر أهمية من خمسينيات القرن الخامس عشر، وهي فترة مشحونة بشكل خاص بالنسبة لـ ’كالڨن‘ حيث واجه مجموعة من المعارضين، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى المجلس الحاكم في چنيف. كتب ’كالڨن‘ إلى مُصْلِحِ برن ’يوهانس هولر،‘ رسالة يدافع فيها عن نفسه ضد أولئك الذين زعموا أنه مسؤول عن إلغاء الأيام المقدَّسة. من الواضح أنَّ ’كالڨن‘ كان شديد الحساسية تجاه الاتهامات، وتابع أن موقفه من عيد الميلاد كان أكثر اعتدالًا، وقال:
إلى جانب كون إلغاء أيام العيد هنا قد سبَّب إساءةً فظيعة لبعضٍ من شعبِك، ومن المحتمل أن كثيرًا من الثرثرة البغيضة قد انتشرت بينكم؛ أنا على يقين تامٍّ، أيضًا، أنني شرُفت أن أكون مؤلف الأمر برُمَّته، بين الحاقدين والجُهَّال. لكن، وبما أنَّه يمكن أن أشهد رسميًا أنه قد حدث [إلغاء أيام العيد] دون معرفتي، ودون رغبة مني، ولذلك فقد قررت من البداية؛ مفضلًا إضعاف الخبث بالصّمت، على أن أكون مهتمًّا بالدّفاع. قبل أن أدخل المدينة، لم تكن هناك احتفالات إلَّا يوم الرَّب. تلك التي احتفلتم بها، وقد أُقِرَّت في نفس المرسوم العام الذي به طُردت أنا وفاريل، ولقد اُنتُزِعَ بعنف الأشرار، بدلًا من أن يُفرض بالقانون. منذ استدعائي، اتبعت المسار المعتدل لحفظ يوم ميلاد المسيح كما أنتم معتادون أن تفعلوا.[20]
كان ’كالڨن‘ مُدركًا تمامًا للمشاكل التي يسببها إلغاء الاحتفالات التي ارتبط بها النّاس، وكان استنتاجه أنه يجب يترك الأمر لتقدير الكنائس والمجتمعات لتحديد عدد الأعياد التي يجب الاحتفال بها، بطريقة أكثر ملاءمة للسَّلام والوفاق. ولهذه الغاية، اقترح طريقة عملية للتّعامل مع عيد الميلاد والمناسبات الأخرى، فكتب علم 1555 قائلًا: ’’إن أفضل وسيلة يمكن اعتمادها لهذا الغرض هي الحفاظ على اليوم المقدَّس صباحًا [عُطلة]، وفتح المحلات التجاريَّة فترة ما بعد الظهر.‘‘[21] شارك زميله المقرَّب وصديقه، ’هينريخ بولينجر،‘ ’كالڨن، موقفه التّوسعيّ تجاه عيد الميلاد، وأعلن ذلك عند صياغة اعتراف هلفتيك الثاني في عام 1566، بعد عامين من وفاة ’كالڨن‘: ’’إذا احتفلت الكنائس في حرية مسيحيّة وفي تقوى بذكرى ولادة الرّب وختانه وآلامه وقيامته وصعوده إلى السّماء وإرسال الروح القدس على تلاميذه فإننا نستحسن ذلك جدًا. ولكننا لا نوافق على أعياد رسمت للبشر والقديسين..‘‘[22] مثل ’كالڨن،‘ رأى ’بولينجر‘ الاحتفال بعيد الميلاد وغيره من الأعياد على أنه مسألة حريَّة مسيحيَّة، وهو من بين الأمور التي تُركت للكنيسة لتقرر وفقًا لتفسيرها الأمين لكلمة الله، ولصالح المجتمع.
الخُلاصة، أنَّه بينما كان ’لوثر‘ مُتحمسًا للاحتفال بالأعياد، وتطرَّف غيره فقاطع الاحتفال بالأعياد تمامًا أو حظرها، إذ اعتبرها رِدة عن الإصلاح إلى التّقليد، خاصّة عيد الميلاد، اتخذ ’كالڤن‘ موقفًا وسطيًّا لا مع ولا ضد، شريطة ألا يُخالف الاحتفال -في شكله أو مضمونه- منهج العبادة الكتابيّ.
عيد الميلاد في ضوء الكلمة
أحاول هُنا -تلخيصًا- أن أُنَبِّر على أمرين، الأوَّل، هل دعمت الكلمة المقدَّسة ترتيب الأعياد؟ كما سبق وقُلنا، ومما لا شك فيه، أنَّه لا في الكلمة المُقدَّسة ولا الكتابات الرّسوليَّة كان هناك يوم مثل عيد الميلاد أو غيره في الكنيسة الأولى. هذا يقودنا مُباشرة للأمر الثَّاني، وهو تعليم ووصية السيد المسيح المُباشرة، فعندما أرسل يسوع رُسله، أمرهم أن يعلموا المؤمنين أن يحفظوا كل ما أوصاهم (متى 28:20)، ولم يأذن لهم أن يضيفوا إلى ما أمر به. وأعتقد أنهم فعلوا بأمانة ما أمرهم به سيدنا، لذلك لا نجد أثرًا لتعليم عن الأعياد أو الأيام الخاصَّة أو الاحتفالات في كنيسة الرُسل. وعليه، فالسؤال إذًا: هل كانت تعاليم الرسل وممارساتهم كافية لإثبات الممارسات التي سمح بها المسيح نفسه لكنيسته؟ ما يظهر من حياة وعبادة الكنيسة الأولى أنها كانت كذلك، وعليه يكون من الظلم اعتبار انتهاج نفس المنهج تشددًا، كما أنني مقتنع بأن عودة الكنائس المُصلَحة على نطاق واسع إلى ما هو اختراع وتقليد روماني، ليس -بأي حالٍ من الأحوال- مُفيدًا للكنيسة.
كما لا أرى أنَّ ’كالڨن‘ قدد شكك في حق الفرد في الاحتفال بميلاد المسيح -بطريقة كتابيَّة لائقة- في وقت من اختياره، فإذا كنت ترغب في الاحتفال في الخامس والعشرين من ديسمبر أو السَّابع من يناير. فلا غضاضة لدي على الإطلاق، ولا أدينك إطلاقًا كموقف’كالڨن‘. ما أطلبه في المقابل ألا تعتبرني و’كالڨن‘ من المتشددين إن عارضت الاحتفالات وقد خرجت عن الوقار والخشوع وانحنت منحى عالميًا بحتًا، فاضطُررت وغيري للمُناداة بخفض الأضواء عنها، ليعود التركيز على الغرض الرئيس. فبما أنه لا أحد يعرف اليوم الذي ولد فيه المسيح، ولم يخبرنا الله -عن قصد- بهذا اليوم، فلا يحق لأحد أن يخترع موعدًا ليحل محل ما لم يعطه الله. وهذا ما جرى لما ادعى باباوات روما هذه السّلطة وحددوا يوم الخامس والعشرين من ديسمبر.
ما زال السّؤال الذي فتح ’كالڨن‘ بابه مطروحًا، كيف نُعَيِّدُ كما يحق لإنجيل المسيح؟
[1] Lee Ellen Ehorn; Shirely J. Hewlett; Dale M. Hewlett, December Holiday Customs, Lorenz Educational Press, Dayton, Ohio: 1995), p.p 10.
[2] احتفال وثنيّ يعود لما قبل المسيحيَّة. مع اضمحلال العبادات الشّمسيّة الوثنيَّة، مُحيت ذكرى احتفالاتها، على الرّغم من أن العمليّة استغرقت وقتًا طويلًا. وحتَّى عهد البابا ’ليو‘ (440-461م)، كان الرّومان يحتفلون بمهرجان الشّمس الوثنيّ فى 25 ديسمبر، وشكا البابا، لأن عُباد الشّمس ظلوا يتجمعون على أعتاب كنيسة القديس بطرس في ذلك اليوم لعبادة الشّمس المُشرقة فوق المحراب.
[3] جاء في دائرة المعارف الأمريكيَّة فى طبعة 1944 قولها: “وفى القرن الرَّابع الميلاديّ، بدأ الاحتفال لتخليد ذكرى هذا الحدث. [أي ميلاد المسيح] وفى القرن الخامس، أمرت الكنيسة الغربيَّة أن يُحتفل به إلى الأبد في يوم الاحتفال الرّوماني القديم بميلاد ’سول،‘ نظرًا لعدم معرفة تاريخ ميلاد المسيح بالتأكيد.” أما دائرة المعارف البريطانيَّة فتقول في طبعة 1946: “لم يوجد عيد الميلاد في توصيات المسيح ولا الحواريون، ولا قال به أي نص من الكتاب المقدس، …”
[4] William Sandys, Christmastide: its history, festivities and carols, (London: John Russell Smith 1884), p.p 119.
[5] Martin Luther, “Sermon for Christmas Day; Luke 2:1–14” in The Sermons of Martin Luther (Lutherans in All Lands Press, 1906). In: https://www.plough.com/en/topics/culture/holidays/christmas-readings/born-to-us-luther, (in: 7Jan.023).
[6] Roland H. Bainton, The Martin Luther Christmas Book (Philadelphia: Fortress Press, 1948), p.69.
[7] John Nicholas Lenker, Martin Luthre sermons, in SERMONS ON GOSPEL TEXTS FOR ADVENT, CHRISTMAS, AND EPIPHANY, Vol. 1, in: https://www.sermons.martinluther.us/, (in: 8 Jan 023).
[8] كان البيوريتانيون من الپروتستانت الإنجليز في القرنين السَّادس عشر والَّسابع عشر الذين سعوا إلى تطهير كنيسة إنجلترا من الممارسات الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة، مؤكدين أن كنيسة إنجلترا لم تُصلح بالكامل ويجب أن تصبح أكثر پروتستانتيَّة. كان المتشددون غير راضين عن المدى المحدود للإصلاح الإنجليزيّ، وعن تسامح الكنيسة الإنجليزيَّة مع بعض الممارسات المرتبطة بالكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة، لذا شكلوا وتعارفوا مع مجموعات دينيَّة مختلفة، تدعو إلى قدر أكبر من نقاوة العبادة والعقيدة، فضلاً عن التّقوى الشّخصيَّة والتجاريَّة. تبنى المتشددون لاهوتًا مُصلحًا، وبهذا المعنى كانوا كالڨينيين (كما كان كثير من خصومهم السّابقين). في نظام إدارة الكنيسة، دعا البعض إلى الانفصال عن جميع الطوائف المسيحيَّة الأخرى القائمة لصالح الكنائس المجمعة المستقلة. أصبحت هذه الخيوط الانفصاليَّة والمستقلة بارزةً في أربعينيات القرن السَّادس عشر، عندما لم يتمكن مؤيدو نظام الحكم المشيخيّ في وستمنستر من تشكيل كنيسة وطنيَّة إنجليزيَّة جديدة. للمزيد راجع:
Julie Spraggon, Puritan Iconoclasm During the English Civil War, in Modern British Religious History. Vol. 6. (England, Woodbridge, Boydell Press: 2003), p.p 98.
[9] Robert Benedetto; Donald K. McKim, Historical Dictionary of the Reformed Churches, (Scarecrow Press, 2010), p.p 520-522.
[10] في الولايات المتحدة حظرت المستوطنات الپروتستانتيَّة الراديكاليَّة الاحتفال بعيد الميلاد بين عامي 1659 و1681 مثل بوسطن قبل أن تعاد الاحتفالات بالعيد عام 1681 من بوسطن نفسها؛ أما في عدد من المستوطنات الأخرى مثل فيرچينيا ونيويورك وبنسلڨانيا حيث كان هناك عديدٌ من الألمان لم تتوقف الاحتفالات مطلقًا؛ غير أن الحماسة نحو العيد تراجعت بعد حرب الاستقلال الأمريكيَّة، إذ اعتبر عادة إنجليزيّة. للمزيد راجع:
Peter Andrews, Christmas in Colonial and Early America, (USA: World Book Encyclopedia, 1975).
[11] Mathew B. Brady, President Ulysses Grant Holiday, in: https://www.militarynews.com/news/national/president-ulysses-grant-holiday/image_641de95e-e8bf-5494-ac16-74371b1b6527.html, (in: 5 Jan 023).
[12] للمزيد راجع:
Idezerd Van Dellen; Martin Monsma, The Church Order Commentary, (Grand Rapids, Mich., Zondervan publishing house 1914)m in: https://www.loc.gov/resource/gdcmassbookdig.churchordercomme00vand_0/?st=gallery.
[13] John Calvin, Selected Works of John Calvin, Tracts and Letters, Jules Bonnet, Ed., David Constable, Trans., Vol. 5, Letters, Part 2, 1545-1553, pp. 299 – 300.
[14] John Calvin, Ibid, pp.317-318.
[15] John Calvin, Selected Works of John Calvin, Tracts and Letters, Jules Bonnet, Ed., David Constable, Trans., Vol. 5, Letters, Part 2, 1545-1553, pp. 162-169.
[16] Benjamin Wirt Farley, Sermons on the Book of Micah, (Presbyterian & Reformed Pub Co., June 13, 2003).p.p 352-360.
[17] Benjamin Wirt Farley, Ibid, p.p 355.
[18] يُحتفل به بعد عيد القيامة بخمسين يومًا. ويقصد به حلول الروح القدس على تلاميذ المسيح بعد صعود يسوع بعشرة أيام بحسب سفر أعمال الرسل.
[19] John Calvin, Calvin’s Commentary on the Bible, Gen. 2:3, in: https://www.studylight.org/commentaries/eng/cal/genesis-2.html. (in: 9Jan. 023).
[20] John Calvin, Selected Works of John Calvin, Vol. 5, Letters, Part 2, 1545-1553, pp. 299 – 300
[21] John Calvin, Selected Works of John Calvin, Vol. 6, Letters, Part 3, 1554-1558, pp. pp. 162-169.
[22] اعتراف الإيمان الهلفيتي الثَّاني، الفصل الرابع والعشرون، في الأيام المقدَّسة والصيامات وتمييز الأطعمة، 1566م، صـ 49، 51، نُسخة فرنسيَّة أُطلع عليه بتاريخ 15 يناير 2023 في موقع:
https://www.het-pro.ch/wp-content/uploads/2017/02/1566-Confession-helv%C3%A9tique-post%C3%A9rieure.pdf