آراء

فرصة غير مسبوقة

الهدى 1224                                                                                                                                   أكتوبر 2020

لقد كنا نأخذ حياتنا كأمر مُسلَّم به إلى أن وقعنا في أيدي ڤيروس صغير جعلنا ندرك أن يقيننا التلقائي بأن كل أمور حياتنا تحت السيطرة هو مجرد وهم! لقد أُجبرنا جميعًا على الاعتراف بأن إحساسنا بالثقة في صحتنا إحساس هش، وأن الاستمرار في الحياة هو مجرد أمنية! لقد سقط القناع، وواجهنا الواقع كما لم يحدث من قبل.
إلا إن إدراكنا لهذه الحقيقة لابد أن يخلق مساحة جديدة في أذهاننا للتفكير في فرص وبركات لم نلتفت لها من قبل، أو تعاملنا معها كأمور عادية؛ مع أن وجودنا على قيد الحياة لا يعني فقط القدرة على التنفس والمشي والتحدث والتفكير، بل إن بقاءنا أحياء هو معجزة عجيبة ولحظية، وهبة إلهية؛ لأننا «به نحيا ونتحرك ونوجد» (أعمال ١٧: ٢٨).
لقد استخدم الله فترات العزلة الاجتماعية في حياة العديد من الشخصيات الكتابية ليأخذ كلاً منهم بعيدًا عن حياته الطبيعية لغرض أكبر مما كانوا مشغولين به، وليعدهم لمهمة ربما لم تخطر على بالهم من قبل. لقد بيع يوسف للعبودية، واتهم بارتكاب جريمة لم يرتكبها أدخلته السجن، واستخدم الله أكثر من ١٣عامًا من التحضير لما كان تكليفًا لمدة ٨١ عامًا كقائد ثانٍ لمصر. موسى أيضًا هرب إلى الصحراء وعاش متغربًا هناك لمدة ٤٠ عامًا؛ لكي يعده الله لأكبر عملية تحرير من العبودية في تاريخ البشر. داود اضطر إلى الفرار من شاول، الذي كان يحاول قتله، وانتهى به المطاف في كهف عدُلام كمخبأ له. وخلال تلك الفترة كتب ثلاثة من أروع المزامير (٣٤؛ ٥٦؛ ١٤٢)، وهناك انضم إليه كل الرجال الذين هربوا من فساد حكم شاول، ليصيروا فيما بعد جبابرة يعملون معه في تأسيس المملكة. وآخرون غير هؤلاء مثل إيليا، وإشعياء، وإرميا، الذين في عزلتهم اختبروا عون الرب وحضوره بصورة فاقت توقعاتهم.
في أيام الكنيسة الأولى دبر الله أن يأخذ كلاً من الرسولين بولس ويوحنا بعيدًا عن حياته الطبيعية لغرض أكبر. فلقد كتب بولس في السجن الرسائل إلى فيلبي وكولوسي وفليمون، والتي لاتزال مصدر تشجيع وتعزية للمؤمنين حتى اليوم. وعندما نُفي يوحنا إلى جزيرة بطمس، استخدم الله وقت عزلته ليعطينا جزءًا هامًا من الكتاب المقدس ليشدد إيمان مؤمني جميع الأجيال.. سفر الرؤيا.
وفي عالمنا المعاصر، في ديسمبر عام ١٦٦٤، اُكتشفت أول حالة وفاة بمرض الطاعون في مدينة لندن، بإنجلترا. وخلال الأشهر القليلة التالية بدأت أرقام الوفيات بسبب هذا المرض المخيف في الارتفاع بشكل ملحوظ، وأصبح التهديد بالموت في كل مكان. وعلى مدى ١٨ شهرًا أودى الطاعون بحياة ما يقرب من ربع سكان لندن آنذاك. وكما هو الحال الآن، كان التباعد الاجتماعي أهم طرق التعامل مع انتشار ذلك الوباء القاتل.. وهرب الناس إلى الريف، وأغلقت المؤسسات، والتي كان من بينها جامعة كامبريدج. ومن بين الطلاب الذين توجهوا إلى منازلهم لما نسميه اليوم «العزل الذاتي» طالب يدرس علم الرياضيات اسمه إسحق نيوتن.
في الوقت الذي احتدم فيه انتشار الطاعون، ظل نيوتن لمدة سنة ونصف يقيم في مزرعة عائلته.. يقرأ، ويدرس، ويفكر وحده. وفيما بعد، وصف تلك الفترة بأنها الأكثر إنتاجية في كل حياته؛ فقد جاءت خلالها أعظم اكتشافاته في علم الضوء، ووضع الأسس لقوانين الميكانيكا التقليدية، والتي عليها طور أجيال من الفيزيائيين صروحًا شاهقة من الاختراعات. كذلك اخترع حساب «التفاضل والتكامل»، والذي بدونه كان من المستحيل أن توجد الرياضة الحديثة، والكثير من المعادلات الهندسية، وعلم الإحصاء.
فترة العزلة الاجتماعية يمكن أن تكون بركة هائلة لحياتنا، والشعور بخطر الإصابة بڤيروس كورونا ربما يكون نداء لنا لنستيقظ، ونفكر كيف يمكن أن يستخدم الله هذه الفترة، التي نلتزم فيها بالعودة لبيوتنا مبكرًا، ونبقى المساء كله مع عائلاتنا، لا سهر في الخارج، ولا تقاطعنا زيارات من الأهل والأقارب؛ ليصنع فرقًا في حياتنا!
بالطبع لسنا في حاجة لأن نجتهد لنخرج للعالم بنظرية جديدة في العلوم أو الرياضيات، أو أن نتوقع وحيًا إلهيًا لنكتب سفرًا جديدًا يضاف للكتاب المقدس معنونًا باسمنا. لكن لعل هذه الفترة فرصة رائعة جديدة لنبدأ في تحديد ما هو حيوي بالنسبة لحياتنا، وما الذي لا يضيف إليها شيئًا؛ لنفرق بين التافه والمهم، ونميز ما يجب أن نتمسك به وما لابد أن نسقطه من حساباتنا. هذه فرصة غير مسبوقة لنتوقف ونفكر في كل ما يضع أرواحنا في «الحجر الصحي»، ولنتحرر من كل ما يخنقنا، ويجثم على صدورنا.
في هذه الأيام نحن نعيش نوعًا مختلفًا تمامًا من الحياة لم نتخيلها أبدًا، وكأننا هبطنا فجأة على كوكب جديد جعلنا مضطرين إلى إعادة التفكير في حياتنا، وتطوير عقلية جديدة للتعامل مع أمور حياتنا المختلفة. هل يمكن أن تكون هذه فرصتك أن تضع أساسًا جديدًا لعلاقاتك الأسرية؛ فتصلح علاقة متوترة مع شريك حياتك، أو تعيد الدفء لتواصل مقطوع مع أحد، أو كل، أبنائك؟ هل يمكن أن تعود لتقرأ كتابك المقدس بانتظام؟ هل لديك دراسة لم تكملها، أو مشروع يجب أن تخطط له بطريقة أفضل؟ هناك الكثير من مثل هذه الأسئلة التي نحتاج لأن نقف أمامها اليوم ونفكر كيف سنجيب عليها. على أن التحدي الأكبر الذي ينتظرنا بعد أن نعبر هذه الضيقة هو: هل سنعود إلى طرقنا القديمة، أم سنتحول ونعيش حياة أفضل روحيًا وعائليًا؟
وماذا بعد؟ إذا كنت تشعر بالخوف مما هو آتٍ، أغمض عينيك وفكر في أنه وسط هذا الكم الهائل من عدم اليقينية هناك شيء واحد يمكنك أن تتأكد منه: أنت بين يدي الله.. «لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم، يقول الرب، أفكار سلام لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء» (إرميا ٢٩: ١١).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى