رئيس التحريركلمات وكلمات

كلمات وكلمات فبراير 2021

الهدى 1228                                                                                                                  فبراير 2021

عدد خاص عن وداع القس باقي صدقه راعي الكنيسة الإنجيلية الأولى في أسيوط

في ١٢ ديسمبر ٢٠٢٠م ودَعت أسيوط باقي صدقة (١٩٢٩– ٢٠٢٠م)، وهو رمز من رموز مصر الطيبة، رجل دين مسيحي بروتستانتي من أقليّة الأقليّة المسيحيّة، بدأ تعليمه في معهد فؤاد الأول الأزهري بأسيوط وكان المسيحي الوحيد، وقد حَصُلت على هذه المعلومة من صديقه ناجح إبراهيم الذى صار من قيادات الجماعات الإسلاميّة المتطرفة العنيفة، وكان اسمه يُدخل الرعب في قلوب المسيحيين والمسلمين المعتدلين في السبعينيات من القرن الماضي، لكنه أصبح اليوم من مُثقَفي مصر، وصديقًا حميمًا لطيب الذكر القس باقي صدقة، وقد تَعرفت على ناجح في مكتبة الإسكندرية ضمن نشاط المكتبة الثقافي بقيادة د. إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة حينذاك، وكان د. عادل أبو زهرة صاحب فكرة دعوة مثقفي مصر من كل التخصصات وقاموا بتقسيمهم إلى لجان طبقًا لتخصصاتهم، وكانت اللجنة التي ضموني إليها هي لجنة الفلسفة والدين، وهذه اللجان كانت تحتوى على الأدب والقانون والسياسة والاقتصاد… إلخ، وتجتمع أربع مرات سنويا، وقد استطاعت هذه اللجان أن تصنع حراكًا ثقافيًا في ربوع مصر على مدى أكثر من عشر سنوات، وجاءت المفاجأة في إحدى الجلسات عندما اقترب منى ناجح إبراهيم، وهمس في أذني قائلًا: أرجو أن تَحمل سلامى إلى القس باقي صدقة، اندهشت ولكن من هنا بدأت معي حكايات باقي وناجح، وذلك عندما تحدث ناجح عن مرحلة المعهد الديني بأسيوط، وقال كان كل واحد منا يعبد الله بطريقته، ونذهب جميعا مسيحيين ومسلمين أصدقاء «نمص القصب» في الشتاء في فناء الكنيسة ونأكل البطيخ عند الجامع الكبير في الصيف، كان أصدقاؤه محمود وعلى وعمر وجرجس وعبدالمسيح. كان باقي يخرج مع طلاب المعهد الأزهري في المظاهرات يهتفون ضد الإنجليز «يسقط الاستعمار»، «تسقط إنجلترا» قال: كنا لا نعرف المسلم من المسيحي، كان باقي يحفظ أشعار البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم، كان يقرأ القصيدة أربع مرات فقط فيحفظها كلها عن ظهر قلب. بدأ مدرسًا للغة الإنجليزية في الوقت الذي كان فيه بليغًا في اللغة العربية. (انتهى حديث ناجح).
***
بعد فترة من الوقت طلبت منه كنيسته الإنجيلية العريقة بأسيوط أن يتفرغ كرجل دين ليرعى الكنيسة، وبعد تردد وافق والتحق بكلية اللاهوت، وكان طالبًا متميزًا وكان هناك من أساتذته من هم أصغر منه سنا، وأقل منه ثقافة وقدرة على استخدام اللغة العربية والإنجليزية، بعد تخرجه عُين قسًا راعيًا لكنيسته بأسيوط.
انطلق إلى العالمية بعقد مؤتمرات في لندن وهاواي هدفها العلاقات المسيحية الإسلامية. من هنا بدأت صداقتنا تتعمق حيث كنت أشاركه مثل هذه المؤتمرات بانتظام لأكثر من خمسة عشر عامًا، واستمرت صداقتنا حتى بعد توقف هذه المؤتمرات إلى أن فارقني. ومن هنا يمكن أن أقول انطباعاتي عن شخصه بحكم قربى منه، من أهم هذه الانطباعات هي علاقته بالمكان، خاصة أسيوط. لقد كان عاشقًا لأسيوط يردد دائمًا في ارتحالنا معا ونحن في لندن أو قبرص أو هاواي «اشتقت إلى أسيوط»، أقول له تمتع بما تراه، يقول: أنا أستمتع فعلًا لكن شوقي وحبي لأسيوط لا حدود له، ولقد ذكَرني موقفه هذا، بأن العظماء دائمًا يرتبطون بالمكان ويتفاعلون معه وكأنه كائن حي، ففي كتب جمال حمدان «عبقرية الزمان والمكان» تحدث عن العلاقة بين الإنسان المصري والمكان، مصر، وجميع الرجالات العباقرة كان لديهم عشق لأماكن بعينها، فلا يمكنك فهم نجيب محفوظ دون القاهرة القديمة، والتي صاغها في رواياته بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية وأولاد حارتنا، ولا تستطيع أن تفصل الأخوان وانلى الفنانَيْن التشكيليَين أو نتصورهما بدون الإسكندرية، وكذلك أسامة أنور عكاشة، وتوفيق الحكيم والقهوة التي كان يجلس عليها ويتحاور مع روادها، ولا يمكنك أن تفصل بين السيد المسيح وأورشليم، وهكذا لا يمكنك أن تفصل بين باقي صدقة وأسيوط. إنها عبقرية الإنسان والمكان، أما علاقته بالزمان، فقد كان يسبق الزمن دائمًا فقد نشأ عصاميًا محافظًا رافضًا أن تأخذ المرأة مكانها في القيادة سواء في البيت أو المجتمع أو الكنيسة، لكنه انتهى باصطحاب زوجته إلى الخارج في معظم سفرياته وتقديمها بصورة تليق بها، وكانت المفاجأة الكبرى عند مناقشة السنودس الإنجيلي أمر رسامة المرأة شيخا، كان هو ضد هذا الفكر لسنوات، لكنه وعد أن يدرس الأمر أكثر، وجاء بعد عام ليدافع عن رسامة المرأة شيخًا في الكنيسة، رغم أن الأكثرية رفضت ذلك، لكنه قام برسامة امرأة في كنيسته المحلية، رغم عدم الاعتراف بها على المستوى العام للكنيسة، لكن بعد عدة سنوات، قامت الكنيسة العامة بالتصريح برسامة المرأة شيخا، وكانت هناك ومازالت معركة لرسامة المرأة رجل دين «قس» في الكنيسة، لكن للآن ترفض الكنيسة هذه الخطوة، إلا أنه كان مؤيدًا تمامًا لهذه الخطوة وعن اقتناع كامل أن المرأة والرجل متساويان أمام الله، وأن الله لا يضع إنسانًا فوق إنسان لاختلافه في الجنس أو العرق أو اللون.
وبحكم موقعه في أسيوط وثقله الشخصي كان لابد وأن يصطدم مع الدولة عدة مرات في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وذلك عندما سمح أنور السادات لمحافظ أسيوط أحمد إسماعيل أن يُطلق الجماعات الإسلامية في الجامعة لضرب طلاب اليسار، والذين قاموا بثورة أو انتفاضة الخبز عام ١٩٧٧م. في هذه الفترة الظلامية ولأجل مواقف القس باقي المعلنة ضد هذا التوجه، استولت جماعة إسلامية على قطعة أرض تابعة لكنيسته، وذلك كنوع من قمعه، لكنه أقام الدنيا ولم يقعدها، حتى حدثت ترضية له، في تلك الأثناء كان يجمع الشباب ويعطيهم دروسًا كيف يتعاملون مع السلطة المنحازة ضدهم، وكان الدرس الذى يُقدمه لهم ويدربهم عليه ‏كالتالي: «عندما تقف أمام سلطة ما منحازة لا تنس ثلاث قواعد: أولًا لا تخف ولا تهتز من أي سلطة تقف أمامها، لأنها تعلم أنها تقف ضد القانون والحق وحقوق الإنسان، وأن هذه مجرد أوامر فوقية مؤقتة من المستحيل أن تستمر، لذلك تمسك بحقك. ثانيا لا تُخطئ أي لا تتفوه بأي ألفاظ وأنت منفعل لأن هذه هي لعبتهم إذ يثيرونك بأي أسلوب خارج حتى يجعلوك تخطئ، وحينئذ يتركون الموضوع الأصلي، ويتمسكون بخطأك، إذا نجحت في الخطوتين الأوليتين، طالب بحقك بصوت عالٍ بدون خجل، ارفع صوتك لأنهم هم الذين يقفون ضد القانون والحرية ولست أنت، هم المذنبون ضد كل القوانين الوضعية، ومواثيق حقوق الإنسان».
كان يلخص الأمر هكذا: (أ) لا تخف من السلطة. (ب) لا تخطئ أمام سلطة. (جـ) لا تتراجع، ارفع صوتك فهم يخافون من الحق.
لقد كانت شخصية باقي صدقة تجمع بين الماضي والمستقبل، الجدية والمرح، البساطة والمهابة، الشيخوخة والشباب، خصوصية الهوية وعمومية الانتماء، كان زعيما يحمل قلب طفل وقائدًا يحمل حس راعٍ.
من كلماته المأثورة:
* لنعمل عمل الله بطريقة الله.
* لا تغتر بتقديم المعروف لأحد، وأشكر من تساعده لأنَّه أعطاك الفرصة للعطاء.
* كلمة طيبة تقولها لإنسان على قيد الحياة أعظم من باقة ورد تضعها على قبره.
* قوة النفوذ بالحب أقوى وأبقى من نفوذ القوة بالعنف، لأنَّ الله محبة والمحبة خالدة.
* أطرد الغربان لتُعطي فرصة لتغريد البلابل.
* أنت لا تُنفِق من حسابك، لكنك تنفق مما سبق وأعطاك الله إياه.
* إذا حرص الناس على احترام القانون فإنهم سينعمون بالحرية التي يغذيها الشعور بالمسؤولية.
* إن العبادة المسيحية أمر يجب أن نمارسه مع الآخرين كجماعة وطنية، كما ينبغي أن تكون موضع الاهتمام والمشغولية الشخصية والعائلية.
* مصر ليست أرضًا نعيش فوقها، ولا سماء نستظل تحتها فحسب، إنما هي عاطفة أصيلة في كياننا يشدنا الحنين إليها.

في هذا العدد نُقدِم لك عزيزي القارئ عددًا خاصًا عن حياة وخدمة القس باقي صدقه، راعي الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط، وشيخ القسوس الإنجيليين بمصر.
وإذ تُقدم الهدى شكرًًا خاصًا للقس باسم عدلي راعي الكنيسة، وذلك لمساهمته في إعداد هذا العدد.

د. القس إكرام لمعي

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
رئيس مجلس الإعلام والنشر
كاتب ومفكر وله العديد من المؤلفات والكتابات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى