كلمات وكلمات يناير 2020
الهدى 1217 يناير 2020
سؤال يردده الكثيرون سواء من يؤمنون به أو من ينكرون وجوده، فالمؤمنون بالله يتحدثون عن تجسده لأنه يحب الإنسان ويحس به .. الخ، والذين لا يؤمنون يؤكدون أنه من المستحيل أن يتجسد الله ويصير إنسانًا يجوع ويعطش وينام ويعرق ويأكل ويهضم ويُخرج ما هضمه… الخ وسأشاركك عزيزي القارئ بعدة أسباب أو إجابات على سؤال لماذا تجسد الله؟
الإجابة الأولى: إن الله تجسد ليصحح صورة الله عند الإنسان، يقول الكتاب المقدس: «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداًمِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداًتَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4). فقبل تجسد الله كان الفكر المتداول عنه والصورة التي في ذهن البشر فقط تتحدث عن اله هو منتقم من أعدائه، إله الدموي الذي يقتل الأطفال والحيوان والطيور، إله الجبار وهو سبب كوارث الطبيعة، إله الحرب، لقد كان البشر عند مجرد ذكر الله يرتعدون خوفًا ورهبه، من هنا أراد الله أن يوضح صورته الحقيقية وليست الصورة التي تصورها الإنسان عنه، أو الصورة التي يصدرها بعض البشر عنه بادعاء أنهم أقرب من الأخرين لله، ولذلك هم وحدهم مَن لهم الحق أن يتحدثوا عنه. وبالطبع لكي يُصحح الله تلك الصورة، كان لابد أن يأتي بطريقه مختلفة عن طريقه وجود الإنسان المولود من رجل وإمرأه، إن صورة الله المحب لم تكن واضحه قبل ولادة الطفل يسوع من عذراء، إنها صورة لا يتصورها أو يتخيلها أحد عن الله.
أما السبب الثاني لتجسد الله: لكي يعلن قيمة الإنسان وأهميته في الخليقة. وأن يأتي الله كإنسان فهو بهذا يعلن عظمة الإنسان، فالإنسان هو الهدف من الوحي فالوحي، هو كلام الله الموجه للإنسان، الله يتحاور مع الإنسان من خلال الوحي المقدس، وهذا يعني أن الإنسان له وضع خاص ومركزي في هذا الكون، وليس ذلك فقط بل إن الإنسان هو الهدف من عملية الخلاص والفداء، لذلك نرى أن الكتاب المقدس كُتِب بلغة الإنسان ولأجل الإنسان، لقد أراد الله أن يتواصل مع الإنسان بلغته فبالقراءة والكتابة أصبح لدي هذه القدرة على التواصل.
وقد حدَّد السيد المسيح مركزية الوصية قال: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ» (مرقس 2: 27). أي أن الوصية جُعلت لأجل الإنسان وليس العكس، لذلك الإنسان الذي يعذب ذاته ونفسه وجسده لأجل الله، وعندما يحتقر جسده وينعته بنعوت سيئة مثل ترديده القول أنا لا شيء وأنا نظير الحيوان وأنا بلا قيمة ويعتقد أن هذا تعبيرًا عن التواضع فهذا التوجه ليس مسيحيًا. وتجسد الله كإنسان ينفى كل هذه الأدبيات السلبية عن الإنسان.
أما الأمر الثالث: فإن تجسد الله في إنسان كان لأجل المصالحة: الله يصالح الإنسان بتجسده، ففي تجسد المسيح كإنسان أعاد الكرامة للإنسان في معناها وفي مبناها، فمصطلح «كفاره» في الكتاب المقدس يعنى: إرجاع أو مصالحه بين إثنين، أو إعادة المياه لمجاريها بعد جفاء طويل، ليس هذا فقط بل كلمة كفارة أيضًا تعنى «يعمل إلى واحد» فهو لا يقتصر فقط على معنى مصالحة بين إثنين لكن اللذين كانا مختلفين لا يكتفي الله بمصالحتهما بل جعلهما واحدًا، أي ربطهما برباط لا ينفصم.
أما الأمر الرابع والأخير عن تجسد الله: أنه أطلق الإنسان حرًا، مبدعًا خلاقًا.
لقد صار الله إنسانًا، ليصير الإنسان إلهًا، فالقدرات الابداعية عند الإنسان عندما يبني ويرسم ويعزف موسيقى ويؤلف ويصدح بصوته ويحقق ذاته، بل إن مجرد المقارنة بين الإنسان مثلًا منذ خمسمائة عام أو حتى مائتي أو مائة عام فقط بإنسان اليوم سوف يدهش من القدرات الإنسانية الحالية، فقد خلق بني الإنسان حضارة متطورة عظيمة من طائرات وسيارات ووصول للقمر والكواكب وشفاء أمراض عضال… الخ
والسؤال الذي يتردد على لسان الكثيرين الذين يرفضون فكرة التجسد: هل يستحق الإنسان أن يتجسد الله في جسد إنسان؟
هنا نقول: نعم يستحق الإنسان أن يتجسد الله. وإن كنت مترددًا عزيزي القارئ في الاقتناع بهذه النتيجة عليك أن تعود وتقرأ المقال من بدايته.
خبرة رعوية
أثناء خدمة الراعي بالريف كان هناك شابًا يدعى أيوب كفيفًا لا يُبصر، وكان أخر مشلول القدمين وكان يُدعى صابر، وطالبة فتاة كانت مولودة بتشوهات في وجهها أسمها راضية، وانتبه الراعي إلى أن الأسماء التى أطلقت عليهم مناسبة لوصف حالتهم وكأنها نصيحة ممن قاموا بتسميتهم لقبولها. تعامل الراعي مع هؤلاء البشر بسذاجة شديدة، فخريج اللاهوت في ذلك الوقت كان عمره 22 سنة، وخبرته في الحياة لم توفر له كيف يتعامل مع من سُمى بعد ذلك بـ «ذوى الاحتياجات الخاصة»، ولأن الراعي كان الجميع في ذلك الوقت يحترمه كتقليد كنسي متوارث، لذلك لم يلفت أحد نظره لهذا الخطأ، وهو كان شابًا بلا تجارب إنسانية تُذكر، وقد لاحظ الراعي أن أسر هؤلاء من أب وأم وأخوة يسخرون من أبنائهم وإخوتهم ويجعلونهم هدفًا للاستهزاء بإعاقتهم، فمثلًا أيوب الكفيف كانوا يرعبونه بالقول «أوعى بهيمة بتجرى هاتخبط فيها» فيرتبك ويجرى يمينًا فيقولون له شمال فيرتبك أكثر، أو يأتي شخص من خلفه ويصرخ فيه (أوعى الأرض مليئة بالطين ) خَطّي « ويمسك بيده ليجعله يقفز فوق الطين أو يقفز معه، ولأنه لا يوجد طين يضحكون عليه وهو يقفز، أما مشلول القدمين يأتي الشباب في سنه ويقولون تعمل سباق معانا؟ ويوافق ويبدأ الجرى فيقع ويضحكون عليه؛ أما راضية المشوهة، يذهب لها شباب القرية ويطلبون يدها بسخرية واستهزاء وتضحك معهم على نفسها. كان القس الشاب ولعدم خبرته يضحك مع الشباب الساخر ولا يحس بشعور هؤلاء، وفي إحدى الأمسيات وهو جالس طرقت بابه راضية واستأذنت أن تتحدث معه، وبمجرد أن جلست أخذت تبكى بحرقة شديدة، حاول الراعي تهدئتها ولم يستطع وبعد أن هدأت قالت ودموعها على خديها يا قسيس لو ضحكوا على الصبيان، ولما ييجوا يقولولى «إتجوزينى يا بت» بسخرية باشتمهم (وعمرى ما خدت في نفسى) وهذا التعبير يعني أنها لم تقف طويلًا أمام السخرية ولم تفكر في الموقف بينها وبين نفسها، وأردفت لكن يا قسيس لما جه الشاب إللي بيسخر منى دايمًا وأنت قاعد في المندره بتاعتنا ومعاك إخواتى، ومعهم أصحابهم وواحد من أصحاب أخى نظر إلىَّ وقال القسيس جاى يخطبك يا راضية توافقي؟ ضحك الكل بسخرية وقالت والدموع في عينيها: أنا واخدة على ضحك الشباب دول لأنهم مش متربيين ومش متعلمين، لكن إللى خلانى أبكى طول الليل وآجى أعاتبك، لما حضرتك ضحكت معاهم، وهنا لم يستطع الراعي ان يحبس دموعه وشعر بخجل شديد، وألم رهيب في داخله، فقام واقترب منها وقبل رأسها وهو يقول مغالبًا دموعه أنا آسف … أنا آسف، بالطبع يا راضية أنا لم أقصد شيئًا، وكنت كلما رأيتك تضحكين عندما يقولون ذلك فكرت أنك موافقة، قالت أنا لا أملك سوى الضحك لكني أبكى داخليًا كل يوم قبل النوم، صلى الراعي معها وتركته.
في هذه الليلة لم ينم الراعي حتى الصباح وأخذ يراجع نفس المواقف مع أيوب الكفيف أو صابر مشلول القدمين، وكلما تذكر موقفًا يبكي، ركع الراعي على ركبتيه وطلب من الرب أن يغفر له، وتذكر الراعي أن هؤلاء الثلاثة كانوا يحضرون الكنيسة بانتظام، بل وكانوا يتفاعلون مع عظاته ودرس الكتاب، لكنهم توقفوا والراعي لم ينتبه لذلك. من هنا بدأ الراعي يضع حدًا بينه وبين الشباب الذين يسخرون أمامه من هؤلاء وكان حازمًا جدًا، لكن الثلاثة من ذوي الإحتياجات الخاصة بعد ما حدث مع راضية، كانوا يتوارون عندما يذهب الراعي إلى بيوتهم لزيارتهم ثم بعد حوالي أسبوعين بدأوا ينتظمون في الكنيسة، ويجلسون مع الراعي عند زيارته لبيوتهم لأنهم رأوا كيف أن الراعي ضبط الأمور مع الشباب المستهتر ويذكر أنه جمعهم قائلا لهم «لن سمح لأحد منكم أن يسخر من أيوب أو صابر أو راضية في وجودي أو غيابي وإذا أحد منهم إشتكى من سخريتكم لن أحترمه ثانية ولن أتعامل معه بأي أسلوب كان، وليس ذلك فقط بل تحدثت مع والديهم واخوتهم، فقالوا إنت غالي علينا يا قسيس وإحنا بنضحك معاك ومعاهم، إحنا عاوزينك دايمًا مبسوط قال القسيس: أنا كنت غلطان وبارتكب خطأ أو خطيئة لما كنت باسمح بهذه التصرفات أمامي. وعندما وصلت الهيئة الإنجيلية للقرية حيث كان الراعي قد طلب مشاركتها للعمل معه في الخدمة الاجتماعية في القرية اهتموا اهتمامًا شديدًا بهؤلاء، وأعطوهم ثقة في أنفسهم ومحو أميتهم وعلموهم أعمالًا يدوية فأحضروا الكتاب المقدس بلغة برايل للضرير، وتعلمت راضية كيف تهتم بنظافة شعرها وجسدها وكيف تقبل ذاتها كما هي، وتعلم صابر كيف يشتغل في بيته أعمالًا يدوية، وعندما كان الراعي مغادرًا القرية كان هؤلاء الثلاثة أكثر أهل القرية بكاءًا وتعاطفًا وألمًا، جلس الراعي معهم وقال أنا سأترككم وأنا مطمئن عليكم، وأنتم ساعدتموني كيف أعيش مسيحيتى وعلاقتى مع إلهى بطريقة أفضل. وعندما رأى إبتسامتهم على شفاههم والرضى في عيونهم رضى عن نفسه. ومرت السنين وانتبه الراعي أنه على طول هذه السنين كانت له مواقفًا فيها تعاطفًا ومعونة مع ذوي الاحتياجات الخاصة الذين تقابل معهم، وحالة الرضى التي شعر بها مع كل من تعامل معهم، وأرجع كل ذلك لراضية وأيوب وصابر فمثل هؤلاء من المستحيل نسيانهم.
حكاية لاهوتية
كانت المحاضرة اللاهوتية عن «يقين الخلاص «الحياة الأبدية وعلاقتها بالخدمة الروحية التى يجتازها المؤمن أو الخادم. وكان السؤال من أحد التلاميذ هو: هل الإنسان الذي دخل كلية اللاهوت أوالإكليريكية ليخدم الرب يضمن أنه يحصل على الحياة الأبدية أم أن الأمر مشكوك فيه؟ أي هل الإنسان يتيقن من أمر خلاصه؟!
قال الأستاذ أحكى لكم قصة من الهند، ذهب شاب هندي إلى بوذا بعد أن قدم طلبًا للانضمام للمدرسة الريفية في الدير البوذي والتي يتخرج منها راهبًا بوذيًا خادمًا متسائلًا: هل روح الإنسان يمكن أن تخلص بعد موته إذا كان مخلصًا في طوال سني رهبانيته؟
لم يجبه بوذا …
بدأ يأتى كل يوم ويسأل نفس السؤال منتظرًا الإجابة كشرط للانضمام للدير من عدمه، … وأيضًا بوذا لم يجب وبقي صامتًا أمامه.قال الراهب لبوذا هذه آخر مرة أتحدث فيها معك، سوف أبدأ الطريق لكن لن أستمر في الدير إلا إذا أجبت لي عن مصير روحي بعد الموت، لأنه ما هو السبب الذي يجعلني أضحى بكل شيء وأعيش في الدير إذا لم تخلص روحي بعد الموت؟
عندئذ تحدث بوذا بعد أن نفذ صبره قائلًا: أنت تشبه إنسانًا أُصيب بسهم مسموم وفي لحظتها أخذه أقاربه بسرعة إلى طبيب لكن المصاب رفض أن يعالجه أحد حتى يجيبوه على ثلاثة أسئلة:
1 ) هل الرجل الذي أصابه بالسهم رجل أسود أم أبيض؟
2 ) هل هو طويل أم قصير؟
3) هل هو من طائفته الدينية أم مختلف؟
وقال: إن لم تجيبوني عن هذه الثلاثة اسئلة لن أتقبل أي علاج حتى الموت.
سأل تلميذ ما علاقة هذه القصة بيقين الخلاص .
قال الأستاذ: وإن كان من الشائع أن المعروف والأسهل والأكثر متعة أن تتحدث عن الطريق الذي تريد السير فيه من أن تسير فيه فعلًا. قالوا:
لم نفهم علاقة هذه القصة بيقين الخلاص.
أجاب الأستاذ: ما هو الأجدى أن تظل تتسائل عن الطريق أم أن تبدأ السير فيه.
فوزية صموئيل حبيب
بدأت خدمتي في مجمع ملوي عام 1971 بعد تخرجي مباشرة، وكنا كمجمع وقسوس نسمع عن زوجه القس صموئيل حبيب التي ذهبت معه للعمل بقرى مجمع ملوي، وخاصة قرى دير أبو حنس والبرشا والتي كان عليها وزوجها بعد عبور النيل إلى الشرق من أن تركب حمارًا لعدة كليو مترات.
كانت الهيئة تركز في خدمتها على محو الأميه، وعلى مكافحة ختان الإناث وتعليم البنات حرف يدويه، لكن طوال خدمتي في مجمع ملوي لم أرها ولم أر د. صموئيل حتى عام 1984م، وكنت أخدم بالقاهرة عندما دعاني وصموئيل مع مجموعة من القيادات لنلتقي دوريًا ثلاث أو أربع مرات سنويًا نناقش شؤون الكنيسة العامة والوطن، كان د. صموئيل يدعو زوجات القسوس للعشاء مرة في العام وكانت مدام فوزية تستقبل زوجات القسوس، وعندما ازدادت العلاقة الشخصية بين أسرتينا كنا نلتقي كأسرتين مرة في العام وظلت صداقتنا حتى رحيل د. صموئيل عام 1997 خلال هذه الفترة كانت فوزية صموئيل نموذجًا فريدًا في الإنسانية والعطاء الذاتي فكانت رئيسة رابطة السيدات الإنسانية.
في التسعينات كنت مديرًا لكلية اللاهوت قامت بزيارتي في الكلية وناقشتني في بدء دراسات لاهوتية للمرأة الإنجيلية وخاصة القيادات منهن، وفعلًا قمنا معها بتكوين منهج لاهوتي يقدم للقيادات النسائية تخرج منها قيادات نسائية مثقفه لاهوتيًا.
بعدما انتقل الزوج الحبيب استمرت في علاقاتها وخدمتها للكنيسة بذات البذل والعطاء والاتضاع، كانت زوجات القسوس يرون فيها نموذجًا رائعًا في التوازن بين خدمتها لزوجها وخدمتها للكنيسة.
وتبقى فوزية صموئيل نموذجًا متميزًا للمرأة التقيه التي خدمت إلهها وأسرتها وزوجها بأمانة.