آراء

ملف خاص في انتقال القس طلعت نعيم والقس مكرم نجيب

الهدى 1215-1216                                                                                                     نوفمبر وديسمبر 2019

” كلمة وفاء قيلت في عزاء جناب الوالد القس طلعت نعيم

القمص أرساني جمال إسكندر – مغاغة
يقول الكتاب ” وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ” (دانيال 12: 3). “وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ” (عبرانيين 11: 38).
– هذه كلمة تعبر عن الوفاء قبل أن تكون كلمة تأبين أو رثاء.
– جاء في (2صم 3: 38) هذه الكلمات ” وَقَالَ الْمَلِكُ لِعَبِيدِهِ: «أَلاَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَئِيسًا وَعَظِيمًا سَقَطَ الْيَوْمَ فِي إِسْرَائِيلَ؟”
– ويحق لنا أن نقول إن أًبًا ورئيسًا وخادمًا عظيمًا رقد في مغاغة.
– حياة خالدة: تلك هي حياة القس طلعت نعيم.
– حياة من كرس نفسه بالحق للمسيح فعمل به عملًا عظيمًا..
– عاش باذلًا خادمًا، سلَّم شمعة حياته للمخلص لتنير على الجالسين في الظلمة وفي ظلال الموت.
– كم أزال عن النفوس رُبط الآلام، وكفكف الدموع، وطيَّب الأفئدة، فاستراحت له القلوب والأجساد معًا.
– عاش مرتفعًا رافعًا .. بعيدًا عن الدنايا والشرور .. قويًا في إيمانه وعزمه المسيحي، مخلصًا لكنيسته، أمينًا في عمله حتى النفس الأخير!!
– عاش وديعًا متواضعًا درس علم التواضع عند قدمي الفادي والسيد الذي جعل نفسه مثالًا ونموذج لكل الخدام.
– خدم .. فرقد .. أي رقد بعد أن خدم.
– عزاؤنا أنه خدم .. نعم خدم دون تفرقة بين دين ودين، أو بين مذهب وعقيدة، أو بين كبير وصغير، أو بين غني وفقير، خدم الجميع فأحبه الجميع.
– خدم جيله والأجيال المتتابعة .. خدم جيله بمشورة الله، وستبقى خدمته إلى مجئ الرب.
– خدم هنا على الأرض .. ونُقِّل لكي يخدم خدمة أفضل في المجد إذ مكتوب ” وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ” (رؤيا 22: 3).
– عزاؤنا أنه رقد .. ومن هو الذي رقد؟! رقد رجل الجِد والجَد! ذاك الذي ما رأيناه خاملًا قط.
– ذاك الذي ما رأيناه هاذلًا قط بل كان رجل الاجتهاد.
– رقد حلَّال العقد!! الرجل الواسع الحيلة، الخصب القريحة، الذي ما عرضت عليه مشكلة إلا وتمكن من حلها..
– رقد رجل العظمة والمجد.
والذي كانت عظمته في خدمته متممًا قول السيد: ” مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا” (مت20: 26).
– نعم عزاؤنا أنه رقد .. رقد ليستريح قليلًا ريثما يجئ الرب الذي سيغير شكل جسد تواضعنا لنكون على صورة مجده.
– أيها الكريم العظيم .. دعني أناجيك قائلًا: لقد فقدنا بفقدك رجلًا ملء الأسماع والأبصار.
– شهامة في وداعة .. ورقد في شجاعة. جماعة في فرد.. وقبيلة في رجل. قليل مثالك .. ونادرًا أمثالك.
أيها الأحباء أما عن الكلام فكثير ولكن يعجز اللسان ويضيق الوقت.
أيها الوالد المحب الكريم إن الخسارة فيك لا تعوض ولكن أمام ربح السماء فنحن نصمت.
+ وأمام تيجانك وأكاليلك نحن نسكت.
+ وأمام راحتك من عالم الشقاء نحن نصبر.
+ وأمام رجاء اللقاء في يوم اللقاء فنحن نتعزى.
+ هنيئًا لك .. وإلى اللقاء.

الدور الاجتماعي في كتابات الدكتور القس مكرم نجيب

القس رفعت فتحي
من أهم القضايا التي تعرَّض لها القس مكرم نجيب في كتاباته-وعلى منبره-هي:
1. السلبية والانعزال: ركَّز د. ق. مكرم نجيب على دور المسيحي في المجتمع كملح للأرض ونور للعالم. ويسمي الانسحاب من المجتمع، وترك الشهادة للعالم بالروحانية الكاذبة. إننا مدعوون إلى الشهادة بالحياة الإيجابية، وإلى الإحساس بالمسئولية، وأن نكون رسالة حب وسلام، نزرع القيم النبيلة، ونساهم بدور فعّال في تقدم بلادنا إلى الحياة الأفضل. وشهادة المؤمن من خلال السلوك المسيحي، هي أقصر وأقوى الطرق للتأثير في المجتمع بكل طبقاته.
2. الانتماء: المسيحي يجب أنْ يشعر بانتمائه للمجتمع، ومسئوليته عن تقدّمه ونموه. والدين لا يتنافى مع انتماء المؤمن لوطنه. فالدين ليس اغترابًا عن قضايا الوطن؛ وإنما اشتراك في هذه القضايا، ومشاركة في حلولها. والمسيحية تدين الفوضى والعنف وتدمير المجتمع وإهدار القيم والفضائل؛ وتحث على الولاء للوطن والطاعة للرؤساء.
3. الحوار: يرى د. ق. مكرم نجيب أن الطريق إلى الحوار الناجح هو طريق الصدق والانفتاح على الآخر. ويضع مفهومه للحوار الصحيح وموقفه من الأديان الأخرى، فمن ناحية لنا اليقين الكامل بأن الذي لا يثبت في تعليم المسيح فليس له الله. ومَن يثبت في تعليم المسيح؛ فهذا له الأب والابن جميعًا. هذا يقين جوهري لا مساومة فيه. ومن الناحية الأخرى؛ فإنَّ الموقف المسيحي يحترم الأديان الأخرى، ويُقدّر مسئولية العيش المشترك وممارسة المحبة، ويعمل على وحدة الوطن وتقدّمه وسلامته.
4. الوقت: الوقت من أهم القضايا الاجتماعية، وإهدارنا للوقت يمثل مشكلة كبيرة تقف في طريق تقدمنا. ويرى د. ق. مكرم نجيب أنَّ الوقت هو نعمة كبرى في حياة الفرد والجماعة.
5. فردية العمل: يسيطر على المجتمع المصري بصفة عامة، والمجتمع الكنسي بصفة خاصة سمة فردية العمل، الذي يلوّننا بصبغة الفرد، ويقود إلى الديكتاتورية والاستبداد بالرأي. وأنَّ سمة العمل الجماعي بروح الفريق هي أحد أسباب التقدم في كل المجالات في الدول المتقدمة.
6. دور العلماني في الكنيسة: لا تفرق الكنيسة بين المتفرغ للخدمة الدينية والعضو العادي؛ لذا فلا مجال للحديث عن العلمانية في الكنيسة الإنجيلية. ويرى د. ق. مكرم نجيب أنَّ نهضة الكنيسة لا تقوم على أكتاف رجال الدين – أو المتفرغين للخدمة – وحدهم؛ بل أنَّ النهضة في أبهى معانيها هي إدراك العضو العادي بالكنيسة لمكانه ودوره في صناعة هذه النهضة
7. المرأة: أنَّ مشكلة تمكين المرأة مرتبطة بالكثير من مشكلات المجتمع، وإذا حُلت مشكلة المرأة؛ حُلت مشكلات كثيرة في المجتمع. وهذا يتم عندما نعمّق مبدأ المساواة في القيمة، والتكامل في الأدوار بين الرجل والمرأة
8. الفن: الفن هو الارتقاء بأحاسيس وذوق المجتمع، وهو مؤشر لرقي المجتمع وتحضره. وشجع د. ق. مكرم نجيب الفن الجاد، وانتقد الإسفاف تحت مُسمى الفن.
ولقد أولى د. ق. مكرم نجيب في كتاباته اهتمامًا كبيرًا بقضايا الأسرة. فالأسرة هي نواة المجتمع. وأهم المشاكل الأسرية التي تعرض لها:
1. الجنس وإطاره الصحيح: الجنس من الموضوعات المسكوت عنها في مجتمعاتنا الشرقية؛ الأمر الذي جعله يُشكّل مشكلة كبيرة، لا تجد مَن يتصدى لها. أنَّ الجنس هو عطية من الله، وأنَّ الإطار الذي حدده الله للجنس هو الزواج. كما أنَّ ضرورة احترام الجسد تجعل من الزواج الإطار الصحيح للجنس
2. الأسرة المسيحية ودور كل عضو فيها: نبّر د. ق. مكرم نجيب على أهمية وضوح دور كل فرد من أفراد الأسرة. وركّز على محبة الزوج وخضوع الزوجة، ويرى أنَّ خضوع الزوجة هو خضوع الحب والتعاون والمشاركة والاختيار الحر، ومن الطبيعي إذًا أنْ يحب الرجل زوجته التي تمنحه الولاء. ويرى أنَّ الوالدين غير الأسوياء ينتجون أبناءً مُحطَمين، يفتقدون للطموح ويفتقرون إلى الثقة بالنفس.
3. أسرة الخادم المسيحي: ركّز د. ق. مكرم نجيب على أهمية البيت كأولوية أولى في حياة الخادم والمسئول؛ لأنَّ النجاح في الأسرة هو نموذج للنجاح في الخدمة. واعتبر الزوجة شريكة في خدمة الخادم. ومن هنا تأتي أهمية جلوس الأسرة معًا في وقت محدد للعبادة والشركة
يركز أيضاً د. ق. مكرم نجيب في كتاباته على تقديس العمل، كقيمة غالية لا يمكن الاستغناء عنها.

الفكر اللاهوتي في كتابات الدكتور القس مكرم نجيب

القس يوسف سمير
رغم أن الراحل الدكتور القس مكرم نجيب كان راعيًا لواحدة من كبرى الكنائس الإنجيلية في القاهرة، ورغم ما يتطلبه هذا الوضع من انشغال رعوي كبير ومتسع، إلا أنه لم يتنكر لدوره كمفكر واع ولاهوتي مستنير، فأخرج للكنيسة المصرية والعربية على مدى أربعين عامًا ما يقرب من الأربعين كتابًا لمست الكثير من القضايا الساخنة والمصيرية سواء في المجالات العامة أو في مجال تخصصه وهو بالطبع مجال الفكر المسيحي. وعندما نعود إلى مؤلفات الدكتور القس مكرم نجيب أو إلى الترجمات التي قام بها نستطيع أن نلمح الخطوط العريضة لفكرة اللاهوتي. ملخصة فيما يأتي:
* الحرص على تفنيد فكرة المسيحية الصهيونية
أمام الاتهامات المستمرة و المتصاعدة للكنيسة الإنجيلية المشيخية بمساندة و تعضيد الحركة الصهيونية أفرد القس مكرم لهذا الموضوع الشائك كتابًا كاملًا « قراءة عربية للمجئ الثاني للمسيح: المزاعم الصهيونية لنهاية التاريخ» وفيه استعرض النظريات المختلفة للمجئ الثاني للمسيح والنظرة المسيحية المعتدلة لدولة إسرائيل، وفي الكتيب الذي يحمل عنوان «الإنجيليون العرب و الصهيونية « يضيف القس مكرم تحذيرًا من خطورة تعميم موقف الصهيونية المسيحية على كل أطياف الفكر الإنجيلي مؤكدًا أن الكنائس الإنجيلية في الشرق الأوسط تقف موقفًا حازمًا ضد تسييس الدين و صبغ المسيحية بالصبغة الصهيونية و في كل المواقف و المحافل تعلن تعاطفها الكامل تجاه القضايا العربية من منطلق نبذها لكل أنواع التعصب و تفهمها الواعي لمشروعية الحقوق العربية في فلسطين و سوريا و لبنان .
* التركيز على البعدين الأخلاقي والعملي للحياة المسيحية
في غالبية كتابات الدكتور القس مكرم نجيب نتقابل مع هذين البعدين، الأخلاقي والعملي للحياة المسيحية. ففي كثير من كتبه نجد التنبير الواضح على الكثير من القضايا الأخلاقية السلوكية المتعلقة سواء بالفرد أو المجتمع.
– ففي كتيب « الفكر اللاهوتي للقوة « نراه يُفند مقولة « المستبد العادل « نظرًا لكونها التفافًا واضحًا لفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان ثم يقدم، في ثلاث عشرة نقطة الرؤية المسيحية للقوة ولمشروعية الحرب تتلخص في أن مبدأ المسيحية المرفوع دائمًا هو المحبة وعدم مقاومة الشر بالشر والرفض التام لدعوة عسكرة الدين وأن اللجؤ للحرب لا يكون إلا إذا فرضت كالملجأ الأخير، وفقط في حالة الدفاع عن تراب الوطن وحريته، وفي كتاب «إشكاليات الفكر الديني الراهنة في المجتمع المصري» يطرق القس مكرم ملمحًا أخر من ملامح الأخلاق المسيحية وهو مفهوم الأخر والحوار معه ويضع شرطًا أساسيًا لإقامة حوار ناجح مع الآخر وقبوله كشريك في الإنسانية والوطن هو وجود مستوى جيد ونوعية سوية من النضوج الانفعالي والفكري والثقافي ويؤكد أن وظيفة الحوار المتبادل بين الأديان أساسًا هي العمل على تفهم الأخر وإبداء الاحترام الحقيقي لمعتقدات الأخر واحترام شخصيته وكيانه.
* الرؤية التصحيحية لبعض المفاهيم اللاهوتية المغلوطة
أمام السيل الجارف من التعاليم التي تبعد تمامًا عن الخط الكتابي المتزن، قدم د.ق مكرم نجيب سلسلة من الكتابات حول بعض المفاهيم اللاهوتية التي أسئ فهمها وتفسيرها على مدى سنوات عدة في محاولة لتصحيح هذه المفاهيم وإعادتها إلى إطارها الكتابي السليم.
(1) ففي كتابه «الخلاص قصة عمر» يعالج القس مكرم المفهوم المنقوص للخلاص، والذي يحد عمل المسيح عند نقطة التبرير ويتناسى الوجه الداخلي للخلاص وهو التقديس الذي يشمل رحلة حياة الإنسان كلها فيقول: « ولا يمكن فصل التبرير عن التقديس، لأنهما من عمل الروح الواحد في حياة الإنسان. والخلاص بمعنى التبرير الذي لا يكون أبدًا «بأعمال» هو بمعنى التقديس «لأعمال» صالحة قد سبق الله أعدها لكي نسلك فيها»
(2) أما في دراسته تحت عنوان « الروحانية: الجذور والثمار» فيستعرض الدكتور القس مكرم الصور المغلوطة والمشوشة عن الروحانية ويلخصها في خمسة اتجاهات هي روحانية الحرفية التشريعية الجامدة، وروحانية الفكر الأفلاطوني، ثم روحانية البيوريتان وروحانية الخمسينية الجديدة وأخيرًا الروحانية السوبر الجديدة. ثم يقدم في الجزء الثالث و الأخير من الدراسة مفهومًا جديدًا ومستنيرًا للروحانية الإنجيلية الحقيقية التي هي كما يصفها: «أسلوب تفكير وأسلوب حياة ناهضة نامية باضطراد منتظم، كتيار يتغلغل في حياة الفرد و الكنيسة سواء في مجالات العبادة و الخدمة، أو في جلساتنا الإدارية، أو في تواجدنا في بيوتنا و بين أسرنا، أو في حقول العمل في العالم والمجتمع، إنها روحانية العيون المفتوحة و العقول الواعية والركب الساجدة، التي تتجه إلى الهدف في إصلاح دائم وتغيير مستمر، ورحلة لا تتوقف نحو نهضة متجددة و تنمية شاملة» .
(3) أما في الكتاب المترجم «دعوة للنهضة» [تأليف الدكتور القس والتر كايزر]، فقد قدمه الدكتور القس مكرم نجيب في لغة الضاد لأنه يصحح مفهومًا اختلط على الكثيرين في فهمه، ألا وهو مفهوم النهضة. فالنهضة في ذهن الكثيرين منا هي تلك المجموعة من الاجتماعات الانتعاشية التي تنظمها الكنائس المحلية لتقديم الرسائل الخلاصية المتنوعة في فترة زمنية محددة، لكنها، كما يعبر القس مكرم في مقدمته لهذا الكتاب: «عملية إحياء للكنيسة، حتى تقوم بالأعمال الصالحة التي سبق الله وأعدها لشعبه. فتحقق مقاصد الله من وجودها، ودعوتها في موقع معين وزمن محدد.
(4) كذلك، يفرد القس مكرم جزءًا لا يستهان به من كتاباته لمناقشة موضوع الحركة الكاريزماتية ومواهب الروح القدس. نجد هذا التناول على الأقل في ثلاثة من مؤلفاته هي: «قضايا الروح القدس»، و «الحركة الكاريزماتية» و «كاريزما أم كارثة « (مترجم). في هذه الأعمال الفكرية يتتبع القس مكرم تاريخ الحركة الكاريزماتية والمنعطفات اللاهوتية الخطيرة التي وصلت إليها والتي أدت بها إلى ربط كل ما هو معجزي وغير طبيعي (مثل مواهب التكلم بالألسنة وإخراج الشياطين والشفاء…) باختبار الملء بالروح القدس كدليل على الإيمان والروحانية الحقيقية. يفند كاتبنا هذه المزاعم بالقول: «لا يرتبط هذا الاتجاه إذن بالإيمان والروحانية، بل يرتبط أصلًا بالسطحية والغيبوبة الفكرية، التي تفشت في المجتمع، والتمسك بالكثير من الخرافات والخزعبلات، والشعوذة باسم الإيمان والروحانية، وما الخرافة إلا أن يبحث الناس بكل الطرق عن التماس النتائج من غير أسبابها الحقيقية، هربًا من مواجهة مشكلات الواقع وظروف الحياة، وبحثًا عن الحلول الأسهل والأسرع، حتى إن كانت هذه الحلول من أفاعيل السحر في شكل ديني».
(5) قضية أخيرة أفرد لها الكاتب عملًا خاصًا هو كتاب « المعمودية بين المفهوم والممارسة». وفي هذا المؤلف يقدم القس مكرم دراسة كتابية- تاريخية – لاهوتية – عقائدية لموضوع المعمودية لفك الاشتباك الفكري الحادث بصدده بين الطوائف المختلفة. وفي الفصول التسعة التي يتكون منها هذا المرجع القيم يقدم الكاتب استعراضًا عميقًا للأفكار المختلفة والإشكاليات المتعلقة بالمعمودية مثل معمودية البالغين والأطفال وموضوع التثبيت (Confirmation) وإعادة المعمودية ونظم الممارسة.
* التنبير على ضرورة الاقتراب المتوازن من الكلمة المقدسة
هنا نرى التركيز على ضرورة وأهمية الاقتراب المتوازن من الكلمة المقدسة حتى يمكن الوصول، في موضوعية دراسة وأمانة تفسير للرسالة الحقيقية التي ابتغى الله توصيلها، وربما كان المرجع الرئيسي الذي قدم فيه هذه الرؤية هو كتاب «علم الوعظ» الذي صدر في جزئين. في هذا المرجع يقدم الدكتور القس مكرم رؤية متكاملة لكيفية التعامل مع النصوص الكتابية المختلفة. والنظرية التفسيرية التي يتبناها المؤلف هي نظرية التفسير التاريخي الروحي الذي يعتمد على العودة إلى كل خلفيات النص الكتابي من لغة وتاريخ وجغرافيا وعادات وغيرها للوصول إلى المعنى الأصلي للنص الكتابي، أي المعنى الذي أراد الله أن يوصله للقارئ أو السامع الأول. هذه الخطوة تليها أخرى وهي كيف ننتقل من النص الكتابي إلى الحياة اليومية وهنا يأتي دور المنبر الفعال. ف «لكي يستطيع المنبر أن يقوم بدوره الفعال الناجح كواسطة ووسيلة التغيير وعلامة التحول في حياة الكنيسة ورسالتها، لابد أن يكون هو القنطرة أو الكوبري بين الكتاب المقدس (العالم الكتابي) وبين المجتمع (العالم المعاصر) الذي نحيا فيه الآن بكل تحدياته ومتغيراته»، وفي الكتاب المترجم بعنوان» طرق خلاقة ومعاصرة لدراسة الكتاب المقدس» (إعداد John B.Job) يؤكد القس مكرم هذا الاتجاه من خلال اختياره لهذا الكتاب: فهو يؤكد فكرة الوحي الديناميكي، أي الذي يحمل فكر الله الكامل، فهو وحي إلهي محض، لكنه كتب بأيدي أشخاص متعددي الخلفيات والثقافات: « وعندما نقرأ كتابات هؤلاء وغيرهم في الكتاب المقدس، فنحن نقرأ كلمة الله الجلبة، وفي نفس الوقت لا نملك إلا أن نشعر بشخصيات الرجال الذين اختارهم الله ودربهم وجهزهم. وسنتمكن من رؤية هذه الحقيقة بوضوح… حقيقة الدور الإلهي والدور البشرى في الوحي، حقيقة أن الكتاب المقدس هو «كلام الله» الحي الباقي إلى الأبد (1بط1: 23)، أما في كتابه «محافظ أم متحرر» والذي يحوي بين دفتيه مجموعة مختارة من بعض المقالات ودراسات القس مكرم، فإنه ينبر على خطورة التعامل الحرفي مع الكتاب المقدس لأن مثل هذه الحرفية لا تجعل الكتاب المقدس يخاطب العصر الذي نعيش فيه لأنه يصبح عندئذ مجموعة النصوص القديمة المفاهيم. فيخاطب القس مكرم بقوة كل قضايا المجتمع المعاصر، ويشبع بغنى كل احتياجات الإنسان اليوم. هذه الحرفية السلفية التي لا تقدر أن تميز بين «مضمون» كلمة الله والمبادئ الثابتة الباقية إلى الأبد، وبين «القوالب» الحضارية أو «الثياب» الحضارية التي ارتدتها وظهرت بها، والتي يمكن أن تتغير ونتبدل مع تغير العصور والحضارات والمواقع الجغرافية».

رثاء صديق
كتب الشيخ سامي فوزي شيخ كنيسة الشرابية، رثاءً لصديق عمره د. القس مكرم نجيب حيث بدأت صداقتهما في قرية العسيرات بسوهاج صيف 1965، 1966، كتعيين صيفي لطالب اللاهوت مكرم. وبعد التخرج كانا معًا في كنيسة بني سويف والتي خدم فيها القس مكرم قسيس مساعد، وقد خدما معًا فترة التجنيد، وبعدها رُسم القس مكرم نجيب راعياً لكنيسة الشرابية عام 1971م، والتي كان سامي فوزي شيخًا فيها، وقد قال فوزي عن مكرم: “لقد خدم الكنيسة وكان وقت خدمته تأثيرًا في تدريب عميق للخدام، ومؤثر في رعاية الفقراء، وحينما ترك الكنيسة توجه إلى مصر الجديدة الإنجيلية، وأخيراً يقول “الآن اراك في حضن الأب بين المتوجين، فهنيئًا لك فذكراك لن يمحوها الزمن ولن تنسيها السنين”.

الكنيسة والسياسة في فكر مكرم نجيب

القس رفعت فكري
كان الراحل الدكتور القس مكرم نجيب واحداً من الرواد الذين رفضوا انعزال المسيحي عن المجتمع ونادى بضرورة مشاركة المسيحيين في العمل العام فبخصوص موقف الكنيسة من العالم والمجتمع والسياسة يقول الدكتور القس مكرم نجيب في كتابه المسيحية والانتماء الوطني: توجد ثلاثة تيارات فكرية مختلفة، التيار الفكري الأول وهو ما يسمى بلاهوت الاندماج، وينادي هذا التيار باندماج الكنيسة الكامل في المجتمع الذي تعيش فيه، هذا التيار أنه حول رسالة الإنجيل بغناها وشمولها إلى لون من النشاط الاجتماعي، وعلى النقيض من هذا التيار ظهر التيار الفكري الذي ينادي بالفصل التام بين الكنيسة والعالم، بين الروحي والدنيوي ونتيجة لذلك ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حركات تنادي بهذا التوجه عرفت بالجماعات التطهرية أو التقوية التي تدين أساليب الحياة المدنية، بالانسحاب من العالم والانفصال عن المجتمع، ومن سلبيات هذا التيار أنه أهمل الحياة العامة، وتجاهل قضايا المجتمع، وأوجد انفصاماً في حياة الناس بين العبادة والسلوك العملي، كما عمق الفجوة بين ثنائية الله والعالم، الروح والجسد، ونظراً لتطرف التيارين السابقين، إذ أهمل تيار الاندماج بين الكنيسة والعالم التركيز على طبيعة الكنيسة، وتجاهل تيار الانفصال والانسحاب رسالة الكنيسة وأفقدها دورها الإيجابي، ظهر تيار ثالث معتدل ينظر إلى العلاقة بين الكنيسة والعالم نظرة متوازنة، والمنتمون لهذا التيار حددوا رؤيتهم نحو دور أكثر فاعلية في المجتمع بغية تنميته وتطويره والمشاركة في صنع حياة أفضل لكل أفراده.
فالروحانية الإنجيلية هي دعوة للتوازن والاعتدال تجمع الفكر والسلوك والعقل والعاطفة والروح والجسد .. الروحانية الإنجيلية تدعو إلى التوازن الرائع والدقيق والفعال في حياة الكنيسة التي تؤمن أنها في المسيح وفي العالم، في ذات الوقت لذلك فإن العبادة المسيحية بمفهومها الواسع لاتنحصر داخل جدران الكنيسة فقط بل تتسع لتشمل الحياة كلها في مجالاتها المتعددة، فالعبادة المقبولة هي العبادة المسؤولة تجاه المجتمع الذي تنتمي إليه والعالم الذي تعيش فيه، وهنا تشكل العبادة رؤية متسعة للحياة والخدمة نشارك من خلالها في صنع الحياة الأفضل التي نادى بها الرب يسوع للإنسان في هذا العصر، الإنسان الضعيف والمقهور، والمهمش، وهكذا ترتبط العبادة الحقيقية بالرؤية المتسعة والحركة الإيجابية والخدمة المثمرة، وهنا لا تصبح العبادة مجرد تفريغ بل تكون طاقة عاطفية روحية تترجم إلى فرصة لإنجاز معين تضع له الأهداف المحددة والخطط المدروسة بالوسائل المتاحة وبهذا تصبح العبادة بوتقة للرؤى والحياة المبدعة في خدمة الكنيسة والمجتمع وتقدم دعماً للحاضر بكل تحدياته وضغوطه، وتطلعاً للمستقبل بكل فرصه وأدواته، فتكون بحق عبادة مشبعة دافعة ورافعة معاً، ولذلك فإن الكنيسة مدعوة لأن تخرج من واغترابها إلى المشاركة الفعالة في هموم وطنها وقضاياه، وعليها أن تشجع أعضاءها على القيام بدورهم، كما عليها أن ترعى المشتغلين منهم بالسياسة والعمل العام دون أن توجههم لتيار بعينه، والكنيسة مدعوة أيضاً إلى تشجيع الأفراد على متابعة الأحداث التي تجري في المجتمع والاهتمام بممارسة الحقوق المدنية في الاستفتاءات والانتخابات العامة وأن يشتركوا في اتحادات الطلاب والنقابات المهنية والأحزاب السياسية وأن يراعوا مصلحة المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو السياسية، إن الكنيسة مدعوة للإيمان بوضعها كأقلية فاعلة إيجابية بدون إنكار أو خجل أو خوف وبدون شكوى أو تذمر وبدون عقدة نقص أو عقدة اضطهاد، وأن تدرك الدور الكبير والخطير للأقليات الفاعلة في كل العالم ، فتكون أقلية فاعلة وليست مهتزة أو مغتربة. وأيضًا الكنيسة مدعوة إلى دور تربوي تقوم به بتنشئة الأجيال الجديدة على المفاهيم الصحيحة للمواطنة والمجتمع والذي وجدت من أجله.
إن على الكنيسة أن تركز نظرها باستمرار في اهتماماتها وأنشطتها على الجنسيتين اللتين تحملهما وعلى المملكتين التي نحن مواطنون فيهما، فنحن ننتمي أولاً إلى ملكوت الله، ونحن ننتمي ثانياً إلى المجتمع الذي نعيش فيه، وكذلك فإن الكنيسة مطالبة اليوم بأن تكون المنارة الموضوعة على الجبل، الأمة المقدسة، ومن هنا يجب على كل مواطن أن يناضل بفاعلية ليحصل على كافة حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية وأن يشارك بإيجابية وفاعلية.
لقد كان مكرم نجيب هادئا في صوته ولكنه كان عملاقًا في موضوعيته واتزان فكره، وإن كنا نفتقده لرحيله عنا بالجسد إلا أن نثق أنه لم يمت، فالعمالقة لايموتون!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى