مَن هو الأعظم؟
الهدى 1207 مارس 2019
هذا هو السؤال الذي لا ينطق بالكلمات ولكن يصرخ في التصرفات والتعاملات والعلاقات. فغالبا لا يكون مباشرا ولكنه يتجلى في أمور كثيرة بطريقة غير مباشرة وهو الغائب الحاضر في معظم الصراعات والمشكلات التي نعيشها ولأن الطبيعة البشرية الخاطئة وبقاياها فينا تميل إلى الذات والأنا.
فإننا جميعا متورطين في هذا الأمر ولو بنسب متفاوتة. فلا يمكن لواحد منا أن يعلن أنه نقي وطاهر تمامًا من هذا التفكير فلا يخلوا عقل من مثل هذا التفكير. لذلك فإقرارنا بوجوده فينا هو خطوة لازمة ومحورية في طريقة تعافينا منه أما إذا قابلنا هذا الأمر بالإنكار مدعين إننا أبعد ما يمكن إلى هذا الفكر فنحن نحكم على أنفسنا بأن نعيش أسرى هذا التفكير دون علاج، بل والمفارقة فإن أكثر الذين يدعون بخلوهم من هذا الفكر ربما هم أكثر المتورطين فيه.
وقد ذكر هذا الأمر في الأناجيل الثلاثة متى ومرقس ولوقا حيث يذكر لوقا أنه فكر داخلهم في لوقا 9 :46 يذكر متى أنه تحول إلى سؤال يسألونه التلاميذ للسيد بينما يشتد الأمر قليلًا في مرقس حيث يذكر أن المسيح كان يسألهم عن ماذا يتكالمون فيما بينهم وكلمة تتكالمون هنا تعني تتشاحنون بالكلام أما لوقا فيذكر لنا أن الأمر تطور إلى مشاجرة بين التلاميذ في لوقا 22 : 24. ولعل توقيت هذا السؤال كان خطيرا جدا حيث أن المسيح يكلمهم عن الصليب والسير في رحلة بذل الذات وتقديم النفس عن الآخرين وهم مشغولون بمن يكون الأعظم لذلك فقد صرفوا وقتا وجهدًا وطاقة بعيدا عن الهدف الأساسي لهم في ذلك الوقت. فكم من أوقات ومجهودات كان ينبغي أن تقضي في خدمة السيد وحمل الصليب ولكننا أضعناها في البحث عن ذواتنا وإشباع أنانيتنا والبحث عن من هو أعظم ومن له الكلمة الأولى والمكانة المتقدمة في الوقت الذي ندعي فيه أننا خدامه حملة الصليب.
أدرك السيد خطورة هذا الفكر فلم يتجاهله أو يستصغره ولكنه أخذه مأخذ الجد والاهتمام لإدراكه أن أكبر عدو داخلي يمكن أن يشتت الجماعة هو هذا الفكر. فكم من جماعات تفرقت ومجهودات تشتت وطاقات أهدرت في مثل هذه المشاحنات التي غرق أصحابها في بحر الأنا والتبعيات المترتبة عليها.
من خلال الأربع فقرات التي وردت فيها هذه القضية في متى ومرقس ولوقا نتعرض لكيفية معالجة المسيح لهذا الداء قبل أن يستفحل وسط التلاميذ فينهي رسالتهم قبل أن تبدأ. لكي نقف نحن أمام هذا الفكر الذي قسّمنا إلى أحزاب وأضاف عليها التحديات وأضعف المؤمنين وقزّم الخدام وعثّر المبتدئين. وأصبح أول المعطلين هم شركائنا في نفس الخدمة .
وقد تناول المسيح هذه القضية من خلال استخدام ثلاثة نماذج لكي يصل من خلال كل واحد فيهم إلى فكرة تعالج هذه الروح التي بدأت في التفشي وسط جماعة التلاميذ.
أولًا : نموذج الولد الصغير :
دعا المسيح ولدًا صغيرًا وأقامه في الوسط ليكون درسًا للتلاميذ وقال لهم أن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد.. ، من وضع نفسه مثل هذا الولد…، من قبل ولدا واحدا مثل هذا باسمي…، ولإدراك هذا النموذج يجب أن نلقي نظرة على مكانة هذا الولد في الفكر اليهودي أنذاك. لم يكن للطفل اليهودي أي قيمة أو اعتبار فكان فكره بالنسبة لهم وهو خاضع لسلطان أخرين ولا يقدم كنموذج للاقتداء في أي حال من الأحوال. والتركيز الذي قدمه المسيح هنا ليس مجرد الرجوع إلى التحليّ بصفات الأطفال ولكن الأمر المحوري هو قبول موقف ومكانة هذا الولد. لذلك أعقب كلمته عن الرجوع مثل الأولاد بمن وضع نفسه مثل هذا الولد فالأمر هو قبول أن يضع الإنسان نفسه بكل تواضع وقبول أن أعيش حياة متمتعة دون أن أنشغل بالعظمة أو الكبر.
وأيضًا قبول كل من هم في هذه الحالة لذلك قال لهم من قبل ولد مثل هذا باسمي وبالتالي أراد السيد أن يقول لهم أن تقبلوا أنتم أن تكونوا في موقف هذا الولد وأن تقبلوا من هم في موقف الولد. فعلامة الاتضاع أيضًا هي قبول المتضعين والبسطاء والمبتدئين دون السعي وراء من لهم شأن واعتبار وترك وتجاهل المتضعين. وبذلك يسير المسيح على مبدأ هام من خلال هذا النموذج وهو التحول من عقلية التنافس والسعي وراء المراكز الأولى والعظمة إلى قبول مبدأ إنكار الذات وحياة الاتضاع الحقيقي دون تزييف.
ثانيا : نموذج ملوك الأمم والمتسلطون
وهنا شرح المسيح مبادئ الملكوت الأرضي الذي فيه تظهر المناصب والمراكز والسلطان من خلال السيادة على الأخرين والتحكم فيهم وأن الأعظم والأقوى هو الذي يسود على الأخرين فيصير الآخرون تابعين خادمين خاضعين قانعين له ولسلطانه كما تخضع الشعوب والعبيد والرعايا لملوكهم وأيضًا يتطور الأمر إلى قبول هذا السلطان والسيادة والاستمرار فيه إلى الحد الذي يصل إلى تأليه هؤلاء المتسلطون لدرجة أنهم يحسبون محسنين فكل ما يصنعه الملك المتسلط للرعايا آلت بعين الخاضعين الخادمين هو إحسان وتعطف وتلطف من هذا العظيم على هؤلاء الرعايا غي المستحقين وهنا تظهر المبالغات في قبول الاستعباد واستعذاب الخشوع إلى درجة العبادة.
ولكن المسيح يقول أن الأمر بالنسبة لكم مختلف. ففي ملكوت الله الكبير هو الأصغر والمتقدم هو الخادم وهذه كانت ثورة بكل المقاييس على المعروف والموروث في ثقافة التلاميذ بل والمجتمع كله ولا تزال هذه التعاليم تمثل ثورة في الفكر حتى في أيامنا هذه بالرغم من كل تقدم ثقافي وحضاري. وأظهر لهم المسيح جليًا أن العظمة الحقيقية هي عن طريق تقديم الأخر ومصلحته وسعادته على المصالح الشخصية الذاتية. ووضح السيد أن العظيم والكبير هو من يخدم الأخرين ويقدم أمورهم على أموره الخاص وبما أن التلاميذ قد قبلوا هذا الملكوت فلا بد أن تحكم مبادئ هذا الملكوت الجديد أفكارهم وانتظاراتهم. هنا وكما وضح المسيح من خلال نموذج الملوك الرؤساء ومقارنة الملكوتيين على مبدأ هام وهو: أن يتحول طموح العظمة والسيادة والسلطان والامتلاك إلى طموح خدمة الأخرين والعمل على إسعادهم.
ثالثًا: النموذج الثالث الذي قدمه المسيح هو نفسه
فقد قال لهم سائلا من هو الأكبر الذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ، ولكني أنا بينكم كالذي يخدم وهنا استمرار للمقارنة بين الملكوت الأرضي والملكوت السماوي والفارق بينهما ثم يوضح لهم وخصوصًا وهم مشغولين بمن سيغسل الأرجل ومن يقبل على نفسه هذه المكانة الوضيعة يفاجأوا بتفكير المسيح في هذا الأمر الذي تحول إلى سلوك فعلي في يوحنا 13 ثم يستكمل لهم المسيح في لوقا 22 : 28 ـ29 ليوضح لهم أن هناك في الملكوت الذي صنع لهم سوف يأكلون ويشربون ويتكئون لكي يدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر. ودون الاستغراق في التفاصيل والتفاسير نرى فكرة بسيطة في هذا النموذج وهي الفارق بين هنا والآن، وبين هناك لاحقًا، فأنتم الآن تجوعون وتعطشون وتخدمون وتبذلون لأن هذا هو الوقت للعلم والخدمة والبذل والعطاء وحمل الصليب لكن سيأتي الوقت هناك الذي فيه تأكلون أي تشبعون وتشربون أي تنعمون بالسرور والفرح وتجلسون لكي تدينوا أسباط إسرائيل. فمن يحمل الصليب هنا يمجد هناك ومن يخدم ويقدم نفسه هنا يجدها هناك ومن يقدم الآخرين هنا يقدم هناك أما العكس فهو صحيح. وبالتالي يقدم لهم من خلال نموذج المسيح مبدأ تقديم الذات وبذل الحياة في خدمة الآخرين له مكافأة عظيمة عند السيد والله الأب الذي سيعطي كل واحد حسب ما قدم وجسد هذه التعاليم في حياته.
وبهذا يخرج المسيح عن سياق الصراعات والمشاحنات التي تميز أهل العالم إلى المبادئ الأسمى التي تميز أبناء الملكوت ويوضح بفيض من التعاليم والنماذج أن العظمة في الخدمة وأن الكبير هو من يكون كا لأصغر ولكن الأهم هو أنه عاش طيلة حياته على الأرض ليجسد هذه التعاليم في حياة فلم يسع أبدًا لمركز أو منصب مع أنه السيد والمعلم ولكن قدمه حياته.
ما أكثر ما نُعلِم به ونعتقد فيه بخصوص قيمة الاتضاع وتقديم الأخرين ومفاهيم الإخلاء وإنكار الذات ولكن ما أبعد هذه الأمور عن حقيقة ما نفعل ونتصرف بشكل يومي في حياتنا على مختلف المجالات.