يونان خادم مع إيقاف التنفيذ
الهدى 1219 مارس 2020
يوجد مبدأ إنساني نختبره يوميًا في علاقاتنا وتعاملاتنا مع الأخرين، وهو مواقفهم منا، ومواقفنا منهم، وهذه الحقائق إما تثبت الموقف أو تلغيه. وهذا الأمر يمكن تطبيقه على موقف يونان من مدينة نينوى، هذا الموقف الذي كشف لنا عن بعض الأزمات التي كان يعاني منها يونان شخصيًا، وهي أزمات نعاني منها اليوم كخدام للرب، بشكل أو بآخر، وهي:.
أولًا أزمة ضياع الهوية: (من أنا ولمن أنا؟)
يبدأ سفر يونان بتكليف خاص من الله لخادمه يونان، مأمورية خطيرة لارتباطها بمصير شعب بأكمله، لكن على غير المتوقع، نجد يونان يهرب إلى طريق أخر.
فالأزمة الأولى التي عانى منها يونان، أزمة «ضياع الهوية» فلم يكن يونان واعيًا بدعوته ورسالته، فتعامل مع تكليف الرب بمنطق الشخص العادي الذي لا يفكر إلا في نفسه، لا بمنطق الخادم الذي يتوجب عليه التفكير في الأخرين. فنسيّ يونان من هو ولمن هو؟! ولم يحرك هلاك مدينة بأكملها أي ساكن له!!
فهوية الخادم تعني أن تحقيقه لذاته يكمن في خروجها منها، لا تقوقعه فيها، وهو ما عبر عنه جون ستوت بالقول: «الله لم يختر الكنيسة بدلًا من الأخرين بل من أجل الأخرين»
ونحن نعاني من أزمة «ضياع هوية» في أوقات كثيرة، فنتحول من خدام للرسالة لخدام للذات، وبدلًا من أن نحقق مشيئة الرب، نسعى، وباجتهاد، لتحقيق مشئيتنا الشخصية!
ثانيًا أزمة الاتساق مع الذات: (ما أقول وما أفعل؟)
يكشف لنا حوار الرب مع يونان في الاصحاح الأخير من السفر، عن السبب وراء رفض يونان الذهاب لنينوى، وهو شعوره الداخلي بعدم استحقاق هذا الشعب الشرير للنجاه.
لكن الغريب في الأمر أن يونان، وهو خادم للرب، في هروبه وعصيانه فعل كل الذنوب التي يفعلها شعب نينوى. هو أمر يدعو للحسرة فنحن نجد يونان يدين سلوكيات أهل نينوى، وهو فاعل متعمد لما هو أسوأ منها!
فالأزمة الثانية في حياة يونان هنا، هي أزمة الاتساق مع الذات، أزمة التناقض بين ما نقوله وما نعيشه، بين ما فينا وما يظهر عنا، نعظ الأخرين ولا نعظ أنفسنا، نعطي أنفسنا الحق في إدانة أفعال الأخرين، دون أن نفحص أفعالنا نحن ونوبخها.
هذه الأزمة إن أصابت حياة الخادم فهي كفيلة بأن تدمر خدمته، فيتحول من خادم إلى مهرج، ومن شجره مثمرة إلى شجرة زينة «بلاستيك»!!
ثالثًا أزمة الابن الأكبر: (أنا أم أنت؟)
وضعت لهذه الأزمة عنوان «أزمة الابن الأكبر» نظرًا للتشابه الكبير بين شخصية يونان وشخصية الابن الاكبر في مثل الابن الضال، ويمكن تلخيص هذه التشابهات في النقاط التالية:
- كلاهما تضايق لعدم تنفيذ مشيئته الشخصية، فقد تضايق الابن الأكبر من قبول الأب لأخيه العائد، كما تضايق يونان من قبول الله لشعب نينوى التائب.
- كلاهما ظن أنّ الخدمة تعطيه الحق في ممارسة دور الوصي على من يخدمه، وهو ما اتضح من كلمات الأخ الاكبر لأبيه عن خدمته له سنوات طويلة.
- كلاهما صنع أزمة بدون داعي، لماذا كل هذا الغضب؟ وليمة الأب تسع الأخين معًا الأصغر والأكبر، والاحتفال بالابن الأصغر لا يقلل من محبة الأب للابن الأكبر، ومحبة الله لشعب نينوى أيضًا لا تنتقص من محبة الله لشعب إسرائيل.
- كلاهما كان أنانيًا، لا يرى سوى نفسه، يصارع حتى يبقى وحيدًا في المشهد، وهو يرى في ظهور الأخر تهديدًا لوجوده. هذه الانانية كشفتها وعرّتها محبة الاب لابنه الاصغر، ومحبة الله لشعب نينوى.
- كلاهما كان غاضبًا دون سبب منطقي، فإن كان الله- الأب- من كانت الإساءة موجهه لشخصه- غفر الاساءة، فبأي منطق يغضب كلًا منهما، وهما لم يتعرضا لأي اساءة!
- الاثنان اتفقا في ردود أفعالهما، فما كان يحركهما هو النظرة المادية للأشياء، الابن الأكبر لا يهتم بالأخ العائد بل يتحدث عن «الجدي» الذي لم يأخذه من أبيه، هكذا يونان لا يهتم بشعب كامل ينجو، بل «يقطينة» قد يبست!!
- نهاية القصتين مفتوحتين، لا نعرف هل عاد يونان للخدمة أم لا؟ هل تبنى رأي الله وفرح بخلاص نينوى أم لا؟ ولا نعلم أيضًا هل دخل الابن الاكبر ثانية الحفل أم ظل خارج البيت؟!
أزمة «أنا أم أنت؟» أزمة عانى منها يونان والابن الأكبر، وهي أزمة نعاني منها كخدام للرب في أحيان كثيرة.
أزمة كانت ومازالت نهايتها مفتوحة، بلا نهاية، لا نعلم متي وكيف تنتهي؟!