الكنيسة في خطر
الهدى 1256 – 1259 مايو – أغسطس 2024
في أوائل ستينيات القرن الماضي واجهت أمريكا صدمة كبيرة بسبب التّفوق السوفيتيّ الفضائيّ، والذي تمثل في رحلتيّ لايكا وجاجارين وإطلاق سبوتنيك من قبلهما، كما واجهت صدمة كبيرة بسبب تفوق وسيادة المنتجات اليابانية عالميًا، هذا بالإضافة إلى كم كبير من الأزمات الأخرى التي واجهتها بطبيعة الحياة. لم تهدأ ولم تسكت أمريكا على وضعها، وأجرى مفكريها وخبراؤها دراسات متعدّدة لدراسة كيفيّة الخروج من أزماتها الخانقة. وفي رؤيتها وانشغالها للاهتمام بإصلاح الاقتصاد، وتطوير الصّناعات، وتحسين العلاقات التّجارية…وغيرها، أدركت تمامًا أنَّه لا إصلاح لأي شيء يمكن أن يحدث في الدّولة دون إصلاح التّعليم أوّلًا. فأعطت التّعليم الاهتمام الرّئيس والجوهريّ للخروج من كل الأزمات الخانقة التى تجتازها.
في سبيل ذلك تشكّلت لجنة قوميّة في أمريكا لإصلاح التّعليم عام 1983، قدَّمت هذه اللّجنة تقريرًا شهيرًا أسمته «أمّة معرَّضة للخطر» وكان هو عنوان تقرير الرّئيس الأمريكيّ رونالد ريجان ومحط اهتمامه، وهو اسم لا يوحي بالتّشاؤم بقدر ما يوحى بالإحساس بالمسؤوليّة. اهتزت أمريكا أمام هذا التّقرير، وتحرّكت كل أجهزة الدّولة، واضطلع كلّ بدوره، وكان نشر هذا التّقرير حدثًا بارزًا فى تاريخ العمليّة التّعليميّة الأمريكيّة الحديثة، وساهم فى النّمو الذي لم يحدث قبل ذلك مطلقًا. وأُعيد تقييم أوضاع البلاد مرة أخرى عام ۱۹۸۸، وأصدر الرّئيس بوش عام 1991 م وثيقة «أمريكا ۲۰۰۰ « لاستمراريّة إصلاح التّعليم أيضًا. وجاء بعده الرّئيس كلينتون، وسار على نفس نهج الإصلاح، وقدّم طرحه الجديد لاستمراريّة إصلاح وتطوير مسيرة التّعليم في البلاد.
إذا كانت أمريكا قد رأت نفسها أنَّها «أمَّة فى خطر» وأنَّ الحلّ الرّئيس والجوهريّ لإصلاح قضايا البلاد وأزماتها المتعدّدة يكمن فى إصلاح التّعليم، فنحن نرى رغم اختلاف طبيعة أزماتنا وأهداف مواجهتها، أنَّ الحلّ الجوهريّ أيضًا لكل قضايانا وأزماتنا الكنَسيّة يكمُن بدرجة كبيرة جدًا في إصلاح التّعليم الكنسيّ. فالتّعليم الصّحيح المهدَّف يخلق المثل العليا، ويساعد على إيقاظ الشّعور، والتّأثير على الإرادة، وإنماء الشّعور بالمسؤوليَّة، وتقويَّة روح العطاء، وتعلّم فنون الإبداع، وغير ذلك.
السّيد المسيح أعطى الأولويَّة للتّعليم
عدَّ السّيد المسيح التّعليم الفرصة العظمى لتشكيل المُثل العليا في النّاس وعقلياتهم وتصرفاتهم. ولذا فإنّه لم يكن أوّلًا واعظًا أو مصلحًا أو حاكمًا، بل كان معلمًا. ومع أنّه لم ينتم إلى مهنة التّعليم كالكتبة والفريسيين الذين كانوا يفسرون النّاموس بأدق التّفاسير لكنّه كان يعلّم، ولم يلتجئ إلى إثارة عواطف الجماهير، ولا إلى الفرائض والطّقوس، ولا إلى المناورات السياسيّة، بل اعتمد عملية التّعليم والتّدريب المطوّلة. قال أحدهم «كان عمله الرّئيس التّعليم. فكثيرًا ما كان شافيًا، وتارة كان صانع عجائب، وطورًا آخر واعظًا، لكنّه دائمًا معلمًا. ولم يعلّم في أوقات فراغه، بل أدى أعماله الأخرى في أوقات فراغه من التّعليم، لأنّه جعل التّعليم وسيلته الأولى لخلاص وتنميّة الإنسان.»
ما يبيّن تقدير يسوع للتّعليم كوسيلة لتأدية مهمته هو أنّه كان معروفًا عند النّاس كافة «بالمعلم» فنرى في الأناجيل تلاميذه ومن عرفوه، عرفوه كمعلم. ولقّب بهذا اللّقب خمس وأربعين مرّة في الأناجيل ولم يلقّب «بالواعظ» أو «الكارز» مرّة واحدة وإذا عددنا كل لقب له معنى «معلم» لكان العدد واحدًا وستين، وأنّه ورد في خمس وأربعين مرّة أنّه كان يعلّم، وفي إحدى عشرة مرّة أنّه كان يكرز، وكثيرًا ما ذُكرت الكرازة مع التّعليم كما قيل عنه أنّه كان «يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت.» (مت 4: 23)
وهناك إشارة أخرى إلى الأهميّة العظمى التي أعطاها السّيد المسيح للتّعليم وهي ألقاب أتباعه، فلم يُدعَوا خاضعين له ولا خُدّاما ولا رُفقاء، ولم يوصفوا بلقب «مسيحيين» إلّا ثلاث مرّات في العهد الجديد وفي إحداها سموهم بهذا الاسم احتقارًا لهم، أما لقب «تلاميذ « فمستعمل 243 مرة. وعرفت رسالته بلفظ «تعليم» نحو تسع وثلاثين مرّة وبلفظ «حكمة» نحو ست مرَّات، في حين لم تُعرف بلفظ «خطاب» أو «وعظ» وحتى عبارة «الموعظة على الجبل» غير واردة في العهد الجديد، بل يقول متى «ففتح فاه وعلمهم» (متى5: 2) فيجب أن تسمى «التّعليم على الجبل!»
ويتّضح تشديد السّيد المسيح على التّعليم أيضًا في حماسته ونشاطه في التّعليم، فكان يعلّم في كل مكان. في الهيكل وفي المجامع وعلى الجبل وعلى شاطئ البحيرة وإلى جانب الطّريق وقرب البئر وفي البيوت وفي المجتمعات وخلوة مع أفراد. فقد تفرغ في بعض الأوقات حتَّى عن عمل الشّفاء، عندما رأى أنّ بإمكانه أن يستخدمها في تقديم رسالته التّعليميَّة. ويقول متى «كان يسوع يطوف كلّ الجليل يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشّعب» (متى 4: 23). كان يخلق في اجتماعاته جوًا تعليميًّا لا جوًا خطابيًّا مثيرًا. لأنّ النّاس شعروا بالحريّة في أن يسألوه أسئلة وسألهم هو بدوره أسئلة لاستمراريَّة الحوار والتعّلم.
تعليم ذو تخطيط استراتيجي
لا بد أن نقتنع أنّه لم تعد تصلح نظم وأساليب التّخطيط التّقليديَّة القديمة ذات الخبرات الماضية لمواجهة تحديات المستقبل، والتّكيّف مع المتغيرات العالميّة المتلاحقة. فحين يضلّ الإنسان طريقه ويريد أن يصل إلى هدفه لا بد له من خريطة توضح له معالم مكانه، ثم يحتاج إلى بوصلة تحدّد له الاتجاهات. من دون بوصلة أو دليل يبين له الوجهة لن يستطيع أن يفك طلاسم الخريطة وسيصبح وجودها كالعدم. ويأتي التّخطيط الاستراتيجي ليكون البوصلة التي توجهنا ككنيسة من حيث مستوى التّعليم وإمكانيّة وكيفيّة التّطوير فيها، وتحدّد لنا الاتجاه الصّحيح الذي يجب أن نسير فيه. فالتّخطيط الاستراتيجي كما يعرّفه بعض «جهد منظّم للوصول إلى قرارات ونظم وخطط استراتيجيّة للحصول على النتائج المطلوبة، وتحقيق هدف المؤسسة (الكنيسة) في إفادة وتعليم الفئة المستهدفة من النّاس.
ومع ظهور التّخطيط الاستراتيجيّ كأحدث صورة من صور التّخطيط في المنظمات، أدى هذا النّوع من التّخطيط إلى الكيفيّة التي تخطط بها المنظمات لوضع الاستراتيجيّات الخاصّة بها وإمكانيّة تنفيذها، وأصبحت الإدارة الاستراتيجيّة أداة أساسيّة للمنظّمات لكي تتعلم وتطوّر من نفسها إذا أرادت حالة من التّميز، والاستجابة بطريقة فعّالة للتغيّرات العالمية الآخذة في التّسارع. وهذا ما يجب أن تراعيه الكنيسة العامّة والخاصّة لتطوير نفسها وتأدية رسالتها بأسلوب أفضل وإنتاج أعلى وثمار أوفر.
ويعدّ التّخطيط الاستراتيجي بمثابة العمود الفقري لضمان استمراريَّة الكنيسة كمنظمة ونموها وتطورها، فهو يجعلنا نقرأ الواقع بشكل صحيح. نتوقع، ثم نخطّط، ثم ننفذ، ثم نقيّم، أي يجعلنا دائمًا نسبق الآخرين بخطوة. كما أنَّه يرسم لنا طريق المستقبل وذلك وَفق رؤية واضحة وحقيقيَّة يمكن الوصول إليها وتكون قابلة للقياس والتّطبيق.
لأجل هذا، هل نحلم باجتماع شامل فى صورة مؤتمر علميّ يجمع قادة كنيستنا، بالإضافة إلى عدد من الخبراء والمفكرين والمختصين وبعض أساتذة الجامعات لوضع دراسة شاملة فى صورة سرد خبرات عمليّة، وورش عمل نقاشيّة، وتكليف بمشروعات بحثيّة. تقول أين نحن الان، ما استراتيجيّتنا التّعليميّة للعام المقبل؟ ما استراتيجيتنا التّعليميّة لمدة خمسة أعوام قادمة؟ ما رؤيتنا للتّعليم الخاصّ بالشّباب؟ ما رؤيتنا للتّعليم الخاصّ بسنّ الطفولة؟ ما رؤيتنا للنّهضات الكنسيّة؟ ما رؤيتنا لمجالات التّعليم الخاصّ بالمرأة؟ ما رؤيتنا للدّراسات الأكاديميّة؟ ما رؤيتنا للدّراسات العقديّة؟ إلخ، مع مراعاة التّرتيبات المسبقة الكثيرة التى يجب أن تجرى من الإعدادات قبل هذه الاجتماعات العلميّة والبحثيّة.
تعليم يسير على منهجيّة واضحة
والمنهجيّة في التّعليم تشير إلى الأساليب أو التّقنيات المنهجيّة والنّظريّة والعمليّة التي يستخدمها المعلمون لتقديم وتسهيل التّعلّم. إنها تنطوي على اختيار واستخدام وتكييف أساليب واستراتيجيات التّعليم المناسبة التي تعتمد على مبادئ التّعلّم وطبيعة الموضوع الذي يقدم. وتعد المنهجيّة في التّعليم عنصرًا أساسيًا في التّعلّم الفعّال، لأنها تساعد المعلمين على تصميم وتنفيذ وتقييم العمليات والأنشطة التّعليميّة التي تعزّز مشاركة المستمعين وتحفيزهم وإنجازهم.
وأعتقد أنَّه من حقنا أن نحلم أيضًا أن يكون بين أيدينا ككنيسة منهاج إنجيليّ مصريّ عربيّ شرق أوسطيّ معاصر، بتدريباته المختلفة يخدم سن حضانة، ومنهاج إنجيليّ مصريّ عربيّ شرق أوسطيّ معاصر، يخدم سن مدارس الأحد من أولى إلى سادسة ابتدائي، وإعدادي، ثانوي، جامعة وخريجين…إلخ. جلدنا الذّات، وأدنّا بعضنا، ونسبنا القصور كلّ منا للآخر، ولم نجن شيئًا من ذلك. هل نبدأ صفحة عمليّة جديدة مثمرة كجسد متكامل ليسوع المسيح. وللضّرورة القصوى، هل نفكر فى تفريغ مختصين مدربين مؤهلين فى اللّاهوت والكتابة لفترة زمنيّة محدّدة، نختارها بطريقة علميّة بعيدًا عن أيَّة مجاملات.
أوجه قصور في التّعليم تحتاج إلى علاج
أقول بصفة عامة إنّنا نحتاج إلى علاج جوانب القصور العامّة المنتشرة التّالية والتى يمكنها أن تضعف التّعليم فى الكنيسة العامّة والخاصّة مع المراعاة التّامة لعقائدنا:
التّسطيح المخلّ: الذي قد ينجم عن عدم التّمكن، أو فقر الإمكانات، أو ضعف الوعي الجاد بأهميّة الدّراسة المتعمقة للمعارف العلميّة.
التّلقين الممل: واسترجاع المعلومات دون تفاعل بنّاء. فمهما كان حجم المعلومات المتلقاة بطريقة التّلقين لن يكون لها مردود يذكر.
الرفض المتخلف: للانفتاح الواعي على مختلف الاتجاهات والمدارس العلميّة الحديثة، وهو اتجاه علينا استئصاله مهما كان ضعيفًا.
الفصل المتعنت: للعلوم الإنسانيّة، التي تدعم الخدمة وتعد البوصلة المطلوبة للاهتداء بها في تطبيق المعارف العلميّة الأخرى كافة.
الانبهار السّاذج: بالتّقدّم العلميّ فى الغرب، كل ما هو مترجم، الذي جعل بعض يتعامل مع العلوم الكتابيّة واللّاهوتيّة كبضاعة مستوردة، فنحن نحتاج إلى تعاليم مصرية بقدر الإمكان، وبنكهة شرق أوسطيّة مناسبة للبيئة التي نعيشها.
الدراسات العلمية تقول لا للتلقين …نعم للأبداع
أثبتت الدّراسات العلميّة أنّ السّبب الرّئيس لفشل التّعليم فى الكنائس أو الجامعات أو المدارس يرجع إلى التّلقين في العمليّة التّعليميّة حيث ينسى ما يقدّم بعد وقت وجيز جدًا. وقد أثبتت الدراسات أيضًا أننا نتذكر 10 – ١٥ % مما نقرأه، ۱۳ – ۲۰ % مما نسمعه، ٢٥ – ٣٥ % مما نراه، ٥٠- ٧٥ % مما نسمعه ونراه، ٨٥- ٩٥ % مما نقوله ونفعله. وقد استخدم الله ذاته -له كل المجد- وسائل تواصل عديدة وفريدة مع البشر لتوصيل المعلومة لهم، مثل عشب يشتعل (خر ٣:٣-٥)، حمار يتكلم مع صاحبه (عد 22: 21- 30)، نار وذبائح (1مل 18: 38- 38)، الصمت (امل ۱۱:۱۹ – ۱۳)، نجم في السماء (مت 2: 2 – 9)، كتابة بحائط (دا ٥: ٥-٢٨)، الأحلام (مت ۱ :۲۰)، الرؤى (أع 10 :36)، الأنبياء (أع ۱۰:۲۱ -۱۲)، الإعلان من الملائكة (لو 2: 9 – 15).
وعلينا أن نُدرك جيدًا أهميّة الوسائل التّعليميّة، فالدّراسات العلميّة تقول إن 90 % من التّعلّم يكون بما هو مرئي. فعيوننا تسجل ٣٦۰۰۰ تأثير مرئي كلّ ساعة، ٨٥% من المخ يتأثر بعمليات مرئيّة، شبكة العين تحتوي على ٤٠% من الأعصاب المرتبطة بالمخ، فالألوان والحركة تعزز التعلّم. وتساعد على توصيل الأفكار كما يقصدها المعلم. وتتيح الفرصة للمتعلمين ليكتشفوا بأنفسهم حقائق الموضوع الذي يقدم وتطبيقاته. كما أنها تقضي على الملل، وتطيل فترة التّذكر حيث يكون التّدريب أبقى أثرًا وأقل عرضة للنسيان.
استخدم الرب يسوع له المجد الوسائل التّعليميّة. فقد استخدم درهمًا لكي يعلم عن إعطاء الله حقه. (متى 22: 19 – 20). واستخدم طفلًا ليعلم عن الاتجاه، والدافع السليم للقلب (متى ۲:۱۸). واستخدم شجرة تين ليعلم درسًا عن الإيمان. (متى ۱۹:۲۱). واستخدم تقدمة أرملة ليوضح معنى العطاء الحقيقي (مرقس ٤٢:١٢).
شئنا أم أبينا يفرض الذكاء الاصطناعي نفسه علينا
أقول باختصار شديد جدًا، إنّ الذّكاء الاصطناعي هو تكنولوجيا جديدة ومتطورة بمستوى عال جدًا، تمنح المنظومات التّعليميّة قدرة هائلة على التّطوير وتحقيق الأهداف، والوصول إلى جميع الرّاغبين في التعلم وتقديم المعلومات والمعارف المطلوبة بجودة عالية دون تكاليف مادية باهظة ولا مجهود بدني كبير. ودور الذّكاء الاصطناعي في التعليم مثل حلقة الوصل بين المعارف والمعلومات المخزنة والرّاغبين في تلقي العلم، فيوفر لهم الطرائق المناسبة في أي وقت وأي مكان. ويجري حاليًا استخدامه في كل مجالات الحياة، وتستفيد منه بعض الكنائس والمؤسسات التّعليميّة المتقدّمة، وأعتقد أنّها فرصتنا الآن لدراسته وفهمه والتّدرب عليه وكيفيّة الاستفادة منه بأقصى قدر مُمكن.
أصلي أن يبارك الرب كنيستي الغالية التي رُبّيتُ في أحضانها مشاركًا المرنم «يا ربنا أضمن عهدها وزد بها الأمجاد. يا رب شيّد مجدها للدّهر والآباد.