الهدى 1218 فبراير 2020
في مقالٍ سابق كان الحديث عن «العلاقة بين الأجيال» كبعدٍ من أبعاد العلاقات الإنسانية واليوم استكمل معك عزيزي القارئ الحديث في بُعد أخر يحمل نفس القدر من الأهمية وهو «النقد الموضوعي»، والهدف هو التركيز على بعض الأساسيات في علاقتنا كأفراد وكجماعة لأنَّ في إدراكها ومعيشتها تحرك جاد نحو علاقات أكثر سواءً ونضجًا وبناءً وأقل صراعًا وأنانية.
وفي إدراكنا أن العلاقات الإنسانية بصفة عامة لا تنشأ من فراغ ولا تُمارس في فراغ أرى أننا نحتاج أولاً للتعرف على بعض السمات العامة التي تساهم في تشكيل المناخ العام الذي نتعامل فيه. السمة الأولى هي «الميل للذات» وهي صفة بشرية ودافع إنساني طبيعي لا يضر بالغير وهو يختلف عن «الأنانية» حيث يسعى الفرد لتحقيق ما يريد مهما كان الثمن. وثانيًا نحن نعيش في مجتمع تغلُب عليه «القبلية» وهي في مفهومها الأشمل الانتماء للدائرة الأصغر والأضيق دون إعطاء وزن أكبر للدائرة الأوسع والأشمل، وأيضًا نحن نعيش في مجتمع تحركه بصفة عامة العاطفة ولا تحكمه “العقلانية” وهي بحث ودراسة وتحقق بينما “العاطفية” هي انفعال واندفاع وانسياق.
في وسط هذا المناخ نحن مدعوون لتبني «الموضوعية» أسلوبًا للتفكير والحياة. لكن ما هي الموضوعية؟؟ ببساطة هي أسلوب راق ناضج يناقش»«الموضوع» في ذاته بغض النظر عن الأشخاص ودون إساءة أو تجريح لهم، هي تغليب الصالح العام على المصالح الذاتية، وهي القدرة على تحديد وفرز الصواب من الخطأ والمخطئ من المُصيب. وهي بذلك تكون حوارًا بناءً والسماح بمساحة من اختلاف الرأي مع حفظ العلاقات سليمة. وبناءً على ذلك يكون الشخص «الموضوعي» هو الشخص القادر أن يعطي المصلحة العامة أولوية على المصلحة الذاتية والقادر أن يبادر بالاعتذار متى أخطأ والعتاب متى كان الخطأ في حقه ليحفظ العلاقات قائمة ومستمرة وبناءة. لكن الجدير بالذكر أن «الموضوعية الكاملة» بنسبة ١٠٠٪ غير ممكنة وغير واقعية ويبقى المعيار هو النسبة المئوية التي تشغلها المصلحة العامة فوق المصلحة الذاتية. أثق عزيزي القارئ أنك أدركت أن الموضوعية ليست أمرًا بسيطًا سهلاً لكن تيقن أيضًا أنها ليست مستحيلة. فقط تحتاج إلى إعداد وتدريب وجهد مُستحق لأنها قيمة جوهرية ومحورية في أي علاقات إنسانية.
فهي تحتاج إلى بناء الثقة بالنفس فالشخص «الذاتي» في الأغلب يكون ضعيفًا لشعوره بالنقص. وتحتاج أيضًا إلى أن يتقبل الشخص ذاته وواقعه بكل جوانبه سواء المتميزة أو القاصرة وبالتالي يكون طموحه وأهدافه لا تتجاوز قدراته مما يدفعه للتقدم والنمو والنضج مع إدراك أن هذا الإدراك الواقعي للذات لا يتعارض مع الطموح. قبول الذات أمر حيوي لأن من لا يقبل ذاته لا يقدر أن يقبل الغير لأنه دائم المقارنة بين نفسه والآخرين. وبناء الموضوعية يحتاج أيضًا إلى التدريب على المشاركة والإحساس بالآخرين والاهتمام بهم وإلى بناء وترسيخ قيم سلوكية مُسَاعِدة بمثابة الأكسجين الذي يمنح الحياة للموضوعية مثل الأمانة، النزاهة، الصدق والاستقامة، الفصل بين الشخصي والعام، الاتضاع لأن الإنسان في هذه الحالة لا يستطيع أن يكون موضوعيًا لأنه يرى نفسه دائمًا الأفضل من غيره وعادة ما يقوده غروره لرغبات الشهرة والشعبية وينمي فيه ميول الزعامة والهيمنة فيحطم كل شيء يحول دون تحقيقه ذلك.
وأختم عزيزي القارئ باستعراض سريع ومختصر لبعض المبادئ الهامة واللازم ادراكها واتباعها في أي علاقات إنسانية سوية وبالطبع تصب كلها في النهاية في قناة «الموضوعية» وهي:
- الاهتمام بالناس كبشر وليس مجرد أشياء نستخدمها والحفاظ على خصوصيتهم وعدم جرح مشاعرهم بالسخرية أو التهكم والتحقير.
- لا تتعجل محاسبة الناس فهذا يقودك إلى حالة التربص وتصيد الأخطاء والتركيز عليها والسعي الدائم إلى ابرازها وإطلاق الاتهامات المُرسلة بلا دليل. بل حاول أن ترى الأمور من وجهة نظر الآخر.
- تنمية القدرة على تقبُل النقد والتعلم من الأخطاء. من الطبيعي أن يستريح الإنسان إلى المدح والثناء فبهما يشعر بأهميته وتقدير الغير له لكنه في نفس الوقت يحتاج لأن يستمع إلى انتقادات الغير له وخاصة أن الإنسان أحيانًا لا يشعر بخطأ ما ارتكبه. لا تستسلم لموقف الرفض لأي نقد يوجه إليك والإسراع إلى ارتداء ثوب الدفاع التلقائي عن النفس. الإنسان الناضج يقبل النقد بوعي لأنه يعلم أنه مصدر هام من مصادر التعلم وزيادة المعرفة وأيضًا يملك مبادرة الاعتراف بالخطأ. وإمكانية الاستفادة من كل ما يتم توجيهه إليه من انتقادات بغض النظر عن دوافعها [مخلصة أو حاقدة] لأنه يركز على المضمون والمحتوى. لكن على الجانب الآخر (من يوجه النقد) عليه أن يراعي التوقيت المناسب والتوجه الداخلي والأسلوب المناسب وفي هذه أناشدك عزيزي القارئ من فضلك توقف قليلاً عن القراءة وطالع رسالة رومية 12: 16؛ أفسس 4: 29، 31؛ كولوسي 3: 17.
- تنمية القدرة على كسب الأصدقاء والحفاظ على صداقتهم، وعلى إقامة الحوار البناء مع الجميع مع الحفاظ الجاد على استمرار صلاحية وقوة جسوره.
وختامًا.. كل الأحباء شركاء الخدمة سواء من العلمانيين أو القسيسين أدعوكم بعد القراءة لدقائق في جلسة هادئة مع النفس أمام الهنا لتجيب في نهايتها بينك وبين إلهك على سؤال: في علاقتنا معًا كأعضاء في جسد المسيح الواحد هل نمارس النقد الموضوعي؟ أي الموضوعية في التعامل؛ ثم نشجع بعد ذلك بعضنا البعض على تبني أسلوب حياة النقد الموضوعي والموضوعية في تعاملاتنا معًا.