مدير التحرير

الدين والمؤسسة الدينية

الهدى 1250-1251                                                                                                          يوليو وأغسطس 2023

يُعرَّف «الدين Religion»، على أنَّه علاقة البشر بكلِ ما يعتبرونه مقدسًا، أو مطلقًا، أو روحيًّا، أو إلهيًّا، أو يستحق تبجيلًا خاصًّا. وفي العصور القديمة كان «الدين» يُعبِّرُ عن الحياة وفق قواعد الضمير والالتزام الأخلاقي، والشعور بالحقِ والواجبِ تجاه شيء ما، كما كانت كلمة «دين»، في اللغة اللاتينيّة، تُستخدمُ فقط في تبجيل وتقديس وعبادة الله، والعيش وفق التقوى والقداسة. وبنظرةٍ سريعة يمكن ملاحظة وتطبيق ذلك المفهوم على كثير من الأنبياء، ورجالات الله كما سطرها الوحي المقدس في كلمة الله، سواء في العهد القديم أو العهد الجديد.
أمَّا «المؤسسة الدينيّة»، فهي كيان يمثل نسقًا اجتماعيًّا تنظيميًّا، يرتكز على جملة قوانين وتنظيمات تُسيِّره وتحكمه لخدمة المجتمع في المجال الديني؛ في الحقيقة إن المؤسسات الدينيّة لم يعرفها الإنسان كما عرف ظاهرة الدين منذ أن دب على وجه الأرض، بل عرفها بعد فترة طويلة من الزمن عبر مراحل تاريخية، أي أنَّ مأسسة الدين ليست قديمة قِدم الدين ذاته، وقد عرفت المجتمعات ظاهرة المؤسسة الدينيّة مع ظهور المجتمعات الزراعيّة، حيث ظهرت بشكلِها البسيط أي عبارة عن كهوف وبيوت وأكواخ كأماكن للعبادة، ثم تطورت وأخذت أشكالًا وأنواعًا متعددة ومعقدة تمثلت في المعابد والمساجد والكنائس والأحزاب الدينية… الخ.
وفي حين أنَّ «الدين» في بساطته، يمثلُ علاقة الإنسان بإلهه، فإنَّ «المؤسسة الدينيّة»، تُمثلُ تنظيمًا إنسانيًّا، وتدخلًا بشريًّا في تلك العلاقة، فقد سنَّت كثيرًا من الطقوس الدينيّة، التي تُنظم تلك العلاقة بين الإنسان وإلهه، وفقًا لما يراه رجال المؤسسة الدينيّة، وما يحكمون عليه وفق قوانينها وشرائعها، تلك القوانين التي تتغير بتغيير الزمان والمكان والأهداف بالرغم من ثبات الدين ومتطلباته.
ويؤكد التاريخ، أنَّ الإنسان في فطرته، ومنذ نشأته، عاش متدينًا، يتبع دينًا أيًّا كان اسمه، أو إلهه، وهو ما تؤكده إحصائيات اليوم، التي تُظهر أنَّ 92% من سكان العالم ينتمون إلى أحد الأديان. على عكس تبعيته للمؤسسة الدينيّة الذي جاء لاحقًا، ويكشف لنا التاريخ كم أثقلت المؤسسة الدينيّة على تابعيها وربما كانت سببًا في هجر بعضٍ منهم عن الالتزام بأي «دينٍ».
فإذا كان «الدين»، يمثل شخصيّة وتفرد العلاقة بين الإنسان وإلهه، فإنَّه يمثل الإبداع في العبادة، والحريّة في التعبير، في حين نرى «المؤسسة الدينيّة»، ولأنَّها تتماهى مع الدين، وتُقيم نفسها قيِّمًا عليه، فإنها دائمًا وأبدًا تُقدِسُ قوانينها وشرائعها التي سنَّتها، وترى أنَّها فوق النقد، ولا تميل للاعتراف بارتكاب الأخطاء؛ حتى لو فسد قادتها وأخطأوا وارتكبوا الجرائم، فإنَّ المؤسسة الدينيّة تُفضِل التستر عليهم. ولهذا لا تتحدث المؤسسات الدينيّة عن المشاكل بل عن التحديات. لا يتحدثون عن الأخطاء بل عن العظمة. لأنَّه إذا اعترفت المؤسسة الدينية بأخطائها، فإنها ستكون ملزمة بالتغيير. هذا يعني مغادرة منطقة الراحة الخاصة بهم. إنه يترجم إلى فقدان الامتياز، ولذا تُعلِّم المؤسسة الدينيّة بالخضوع والطاعة والقبول لكل ما تُعلِّم به، من دون نقاشٍ أو حوار، إنَّها تطلب من تابعيها الصمت والامتثال.
ومن هنا جاء الصِراع والصِدام بين يسوع والمؤسسة الدينيّة في عصره، فلا يخفى على مُطَّلعٍ أنَّ صراعَ يسوع كان غالبًا مع المؤسسة الدينيّة ورموزها، من القادة والكتبة والفريسيين، وما أكثر المرات التي طلبت فيها المؤسسة الدينية اليهوديّة اغتيال يسوع، ورغم أنَّها باءت بالفشلِ كثيرًا إلَّا أنَّها نجحت أخيرًا، وحققت مطلبها، حيث ألقت القبض عليه، وحاكمته محاكمة مشبوهةٍ، ومِنْ ثمَ صلبته.
لقد أعلن يسوع خلال حياته وخدمته وكرازته، حقيقة محبة الله للعالم الخاطئ، أكَّد على أنَّ ملكوت الله قد أصبح مُتاحًا، ومع أنَّه أعلن، أنَّ «ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (متى 18: 11). لكنَّه أظهر غضبًا غير عادي في وجه المؤسسة الدينيّة ورموزها من الكتبة والفريسيين، وكم كال لهم من الويلات، ويكفي أن نقرأ بشارة متى الإصحاح الثالث والعشرين، لنرى كمّ النقد والسخط والويلات التي تكلَّم بها يسوع ضد المؤسسة الدينيّة، عامة، والكتبة والفريسيين خاصة.
والسؤال المطروح، ما هي المبادئ التي قامت عليها المؤسسة الدينيّة اليهوديّة «إنموذجًا»، وكانت سببًا في صراعها مع يسوع، وكل ما يُمثل «الدين»؟
وسوف استعرض معك عزيزي القارئ في سلسلةٍٍ قادمة من المقالات، بعضًا من الأسباب التي ذكرها الكتاب المقدس والتي جعلت من مواجهة المسيح للمؤسسة الدينيّة أمرًا لا بُدَّ منه، وكيف واجه المسيح تلك المؤسسة، لنتعلَّم منه أساسيَّات المواجهة وكيفيّة النقد للمساعدة في البناء والإصلاح.

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى