حكاية ترانيم ميلادية
الهدى 1252-1253 يناير وفبراير 2024
عندما تَعرِف قصَّة التَّرنيمة سوف تُرنِّمها بشكل مُختلف عن ذي قَبل، سوف تُصبح ترنيمتك المحبَّبة. هناك مَن يكتبون ترانيم لأنَّهم يرغبون في ذلك، أو لأنَّه طُلِب منهم. لكن هناك من كتبوا بدافع داخليّ نَقيّ، فوُلِدت كلماتهم من رَحم شدَّةِ مُعاناةٍ، أو فيضِ شُكرٍ، أو عُمقِ فكرٍ. وكلُّ ترنيمة من التَّرانيم القديمة الأصيلة كانت تتضمَّن تعليمًا كتابيًّا وروحيًّا، فكانت بحقّ ترانيم تعليميَّة، بقيَت طيلة الزَّمان. وما يُقال في صياغة الكلمات أو ترجمتها، يُقال أيضًا في تأليف الألحان الموسيقيَّة. أمَّا في مناسبة الميلاد فهناك ترانيم حُفِرَت في ذاكرة الكنيسة، وتُرنَّم بأكثر من لُغة حول العالم، وما تزال تحتفِظ برونقها وقوَّتها وتناسُق كلماتها وشَدو ألحانها. هذه حكايات ثلاثٍ منها:
- مع ملاكِ اللهِ جُندٌ
واحدةٌ من أروع التَّرانيم الميلاديَّة المشهورة جدًّا في الأوساط المسيحيَّة كافَّة، إذْ تُعتبر من التَّرانيم العالميَّة، بسبب كلماتها الرَّائعة ولحنها الخشوعيّ، الذي يبعث الدِّفء في القلوب والفرح في النُّفوس. مؤلِّفها القس (تشارلز وسلي) (1707-1788) الذي أغنى المكتبة الموسيقيَّة المسيحيَّة بالتَّرانيم الشَّهيرة، التي زادت عن ستَّة آلاف ترنيمة، حتَّى أُطلِق عليه “داود الثَّاني“. وقد كتب هذه التَّرنيمة بعد سنة من اهتدائه إلى المسيح 1738م.
تروي هذه التَّرنيمة قصَّة ميلاد المسيح كما وردت في (لوقا 2: 8-14)، حيث ظهر الملائكة للرُّعاة مبشِّرين بولادة يسوع. وقد ظهرت لأوَّل مرَّة في كتاب ترانيم نُشِر في إنكلترا سنة 1739، وكانت تتكوَّن من عشرة أبيات شعريَّة. بعد ذلك أجرى القس (مارتن مادان) عليها بعض التَّغييرات واختصرها سنة 1760. أمَّا المُعرِّب والنَّاظم فهو الشّاعر (متري الحدَّاد)، الذي صاغها بكلمات بسيطة خشوعيَّة رنَّانة، لتتطابق مع ما جاء في النَّصّ الكتابي.
أمَّا الملحِّن فهو (فيلكس مين ولسن)، وهو من أشهر المؤلِّفين الموسيقيِّين في القرن التَّاسع عشر. وُلِد في عائلة يهوديَّة اعتنقَت المسيحيَّة، وكان موسيقيًّا بارعًا منذ صغره. كان أوَّل احتفال موسيقي يقدِّمه أمام جماهير غفيرة عندما كان عمره تسع سنوات. وقد نبغ كموسيقيّ ومُلحِّن وعازف وقائد أوركسترا وقائد لجوقة التَّرنيم.
التَّرنيمة في شكلها الحاليّ تتكوَّن من ثلاثة أبيات: يحكي الأوَّل قصَّة ظهور الملائكة للرُّعاة، وأنشودتهم الشَّهيرة “المجد لله في الأعالي…“. والبيت الثَّاني موجَّه إلى البشَر ليسمعوا نشيد السَّماء وإعلان ميلاد المسيح الملِك. أمَّا البيت الثَّالث ففيه تعليم لاهوتيّ عن عقيدة التَّجسُّد، ودعوة للبشَر جميعًا للهُتاف والمديح لذاك الذي يمحو الخطايا، ربّنا الفادي المسيح. وعلى الرَّغم من الزَّمن الطَّويل الذي انقضى على تأليف هذه التَّرنيمة، إلَّا أنَّها ما تزال حديثة مُتجدِّدة، وما تزال تَروي عبْر الأجيال قصَّة الميلاد بلغات مختلفة وفي بلدان مُختلفة، ولكن باللّحن نفسه الذي عُرِفت به.
مَع ملاكِ الله جُندٌ لرُعاةٍ قد ظهَر،
حولَهُ الأملاكُ تَشدو بخلاصٍ للبشَرْ
في العُلى للهِ مَجدٌ وعلى الأرضِ السَّلامْ،
ولهُ شُكرٌ وحمدٌ وسرورٌ للأنامْ
- هذا هو اليوم السَّعيد
مَطلع هذه التَّرنيمة يدلُّ على مُحتواها وهدفها، الفرح الذي أنشدَت به ملائكة السَّماء عند ميلاد المسيح (لوقا 2: 10). مؤلِّف كلماتها (اسحق واتس 1674-1748). وُلِد في ثاوسهامبتون-أميريكا، وكان عبقريًّا منذ صغره، تعلَّم اللّاتينيَّة وهو في الخامسة من عمره، واليونانيَّة في التَّاسعة، والفرنسيَّة في الحادية عشرة، والعبريَّة في الثّالثة عشرة من عمره. ودرس الفلسفة وعلم اللّاهوت وبرز فيهما. له كثير مِن التَّرانيم، والمؤلَّفات اللّاهوتيَّة التي كان لها أثرٌ كبير على الفِكر اللّاهوتي المُصلَح في أواخر القرن السَّابع عشر وبداية الثَّامن عشر. أمَّا هذه التَّرنيمة فقد وُجِدت في كتاب له بعنوان مزامير داود بكلمات العهد الجديد، طُبِع سنة 1719، وجاءت كلمات هذه التَّرنيمة نَظمًا لـ(مزمور 98: 4-9). ورُغم أنَّها عُرفت عالميًّا بأنَّها ترنيمة ميلاديَّة، إلَّا أنَّها تتحدَّث عن الفرح الذي يعمُّ كلَّ البشر، ليس في مناسبة الميلاد فحسب، بل في كلِّ يوم. لأنَّ الفرح بظهور الله في الجسد لخلاص الإنسان ليس ليس مُقتصرًا على معنى الميلاد فحسب.
عندما كان اسحق واتس شابًّا في الثَّامنة عشرة من عمره، وكان مُولعًا بالتَّرنيم، وجَّه نَقدًا على نوعيَّة التَّرنيم والأسلوب الذي كانت تُرنَّم به ترانيم المزامير في الكنيسة آنذاك. فقال له والده: “إذا كان هذا التَّرنيم لا يعجبك، فلماذا لا تقدِّم لنا ما هو أفضل؟” فما كان من اسحق إلَّا أن قَبل التَّحدِّي، وقدَّم أوَّل ترنيمة له في الأحد التَّالي، واستقبلتها الكنيسة بحماسة شديدة، الأمر الذي شجَّعه في نظم ترنيمة جديدة لكلِّ خدمة كنسيَّة، حتَّى وصل عددها إلى 210 ترنيمة جُمِعت في كتاب طُبِع 1707، وتبعه بكتاب آخَر في 1719 فكان للكتابَيْن أثرٌ بالغ في النُّفوس.
أمَّا لحن التَّرنيمة، فالأرجح أنَّه مُقتبس من مقطوعة موسيقيَّة عالميَّة للموسيقي الشَّهير (جورج هاندل 1685-1759). حيث قام بنظم اللّحن الذي تُرنَّم به التَّرنيمة فيما بعد هو الموسيقي (لويل مايسون 1792-1872)، وعُرِف لحن التَّرنيمة باسم “أنطاكيا” في كتاب للترنيم له بعنوان (المرنِّم الجديد). أمَّا في كتاب نظم المزامير فقد سُمِّي اللّحن بـ”اليوم السَّعيد“.
وأمَّا ناظم التَّرنيمة بالعربيَّة فهو اللبناني الشَّيخ أسعد الرَّاسي (1858-1915) في خمسة أبيات شعريَّة. كلمات هذه التَّرنيمة بسيطة مُعبِّرة خشوعيَّة، وفي الوقت نفسه روحيَّة لاهوتيَّة بامتياز، تُذكِّرنا بذلك الفرح العظيم لجميع الشُّعوب بميلاد المسيح المخلِّص الفادي.
هذا هو اليوم العظيم وبهجة الأزمان
نلنا به الوعد القديم برحمة الرَّحمان
- في الدُّجى والسُّكون
تُعتبر هذه التَّرنيمة أشهر ترانيم الميلاد عالميًّا على الإطلاق، وهي المعروفة باسم (Silent night, Holy night)، التي عمَّت بلدان العالم بكافَّة اللّغات، ويُطلِق عليها بعضٌ (نشيد الميلاد). وكما كان ميلاد المسيح في مذودٍ ميلادًا مُتواضِعًا، كذلك كانت ولادة كلمات ولحن هذه الترنيمة. إذْ وُلدت كلماتها ولحنها وترنَّمت بها الكنيسة في يوم واحد، هو يوم عيد الميلاد.
مؤلِّفها هو الأب جوزيف موهر سنة 1818 وهو كاهن كاثوليكي شاب، تعيَّن في السّادسة والعشرين من عمره مساعدًا لراعي كنيسةٍ في قرية مغمورة (أوبرندورف –سالزبورج –النِّمسا)، وكان ورِعًا تقيًّا. كان أوّل يوم له في البلدة ليلة عيد الميلاد، وكان أحد أثرياء القرية قد دعا فرقة تمثيل لأداء قصَّة ميلاد المسيح، وكان ضيف الشَّرف هو الأب جوزيف. الذي أُعجِب بشدَّة بمشاهدته التَّمثيليَّة، ولما ذهب إلى طرف القرية في هدوء اللّيل وسكونه، ألَّف كلمات هذه التَّرنيمة في بساطة. وفي اليوم التَّالي ذهب إلى الكنيسة في الاحتفال، وطلب من عازف الأورغن، صديقه فرانز غروبر، أن يضع لها لحنًا. ورغم أنَّ الأورغن كان مُعطَّلًا، فقد وضع اللّحن وعزفه على الجيتار، ورنَّمته جوقة صغيرة من شخصَيْن فقط، وبدأت الكنيسة تسمَع التَّرنيمة وتردِّدها بحماسة شديدة. ومن تلك القرية البسيطة، في تلك اللّيلة البهيجة، انطلقت التَّرنيمة إلى العالم كلِّه، وتُرجِمت إلى كافَّة اللّغات، ومنها العربيَّة.
تتكوَّن التَّرنيمة من ثلاثة أبيات شعريَّة بسيطة، تتضمَّن ثلاثة أفكار رئيسة. الأولى تُصوِّر هدوء اللّيل وسكونه، والطِّفل المولود في رقَّته وقداسته. الثَّانية تصوِّر السَّماء وسطوعها بجمهور الملائكة وهم يُنشدون ويُبشِّرون الرُّعاة. والثَّالثة تتغنَّى بذلك الطِّفل العجيب ووجه المُشرق على الجميع. وقد صِيغت في اللّغة العربيَّة بصيغتَيْن، الأولى للشَّاعر اللّبناني أنيس المقدسيّ، يقول في بيتها الأوّل:
بالسَّلام بالسَّلام ليلة الميلاد
بشِّري كلَّ الأنام فاض من نجم الفداء
ماحيًا سناه ظُلمة الأيام.
أمَّا الصيغة الثَّانية فهي للشَّاعر اللّبناني إلياس مرمورة، ويقول في بيتها الأول:
في الدُّجَى والسُّكون والكَرَى سائدان
وعلى مَهد العَلي والِدان يسهَران
يرعيان طِفلًا نامَ بأمان.