Uncategorized

حكاية ترانيم الأسبوع المقدَّس

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

يُعطي التَّقويم اللّيتورجي أهميَّة كُبرى لذلك الأسبوع المُسمَّى “أسبوع الآلام”، على اعتبار أنَّ المسيح تألَّم كثيرًا في الأسبوع الأخير من زمن تجسُّده. والحقيقة أنَّ آلام المسيح لم تكُن في ذلك الأسبوع فقط، بل أسبوعُ آلامِه بدأ منذ ميلادِه. ونستطيع أن نقول، بمَوضوعيَّة، إنَّ ذلك الأسبوع هو أسبوع دخول الحُبّ الإلهيّ في ذُروة التَّعبير عنه. صحيحٌ أنَّ المسيح تألَّم كثيرًا فيه، بحسب الجسد، لكنَّه تهلَّل بالرُّوح: “أنْ أفعل مشيئتَكَ يا إلهي سُرِرتُ“، والموت صلبًا هو صُلْب مشيئة الآب المَحتومة.

إذًا، فهو بالنِّسبة للمسيح أسبوع السُّرور بإتمام مشيئة الآب، ودخول مشروع الخلاص في مرحلته التَّنفيذيَّة. أمَّا بالنِّسبة لنا فهو أيضًا أسبوع الفرح بخبَر الإنجيل، أنَّ المسيح تألَّم وصُلِب ومات، لكي يُسدِّد ثمن خطايانا نيابةً عنَّا، إقرارًا للعدالة الإلهيَّة والمحبَّة الإلهيَّة. لذلك، يجب ألَّا نُبالغ في مظاهِر أحزاننا عندما نتذكَّر آلام المسيح، لأنَّه تألَّم لكي نفرح بالخلاص. أمَّا إذا أردنا أن نتألَّم، فلنتألَّم بسبب خطايانا فنأتي إليه، ونتألَّم على خطايا الآخرين، فنَكرِز لهم ببشارة الفرح والخلاص.

أمَّا ذلك الأسبوع فهو مليءٌ بالذِّكريات العجيبة والمعاني الرُّوحيَّة العميقة، فهي أهمُّ مراحل الخلاص، أهمُّ فصلٍ في قصَّة الحُبِّ العجيب. لذلك، فإنَّ المشاعر الرُّوحيَّة في ذلك الأسبوع يكون لها عُمقٌ روحيٌّ خاصٌّ. فإنَّنا عندما نتذكَّر آلام المسيح لأجلنا، تنسحِق قلوبنا ونتوب بصِدقٍ، ونرتقي فوق مستوى المادَّة، وندخل في أجواءٍ أرقى. كما أنَّ الشُّعراء والمؤلِّفين والملحِّنين، يُبدِعون كثيرًا من الأعمال الفنيَّة من وحي أحداث ذلك الأسبوع. لذلك، اختارت المسيحيَّة الصَّليب رمزًا لها، لأنَّ له التَّأثير الأكبر في النُّفوس، أكثر مِن أيِّ حدثٍ آخَر في حياة المسيح. فمَن لا يعرف كيف يجد فوائد روحيَّة عميقة في ذلك الأسبوع، يصعُب عليه أن يجدها في بقيَّة أيَّام السَّنة. وهذه حكايات تأليف وتلحين أربعة من تلك التَّرانيم:

  1. يا مَلكُ اُدخُل راكِبًا

هذه واحدة من أشهر التّرانيم في مناسبة احتفال الكنيسة بذكرى دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم. وقد ألّفها (ق. هنري ملمن) (1791-1898م.)، الذي وُلد في إنكلترا. وهو ابن طبيب الملك جورج الثَّالث. درس في جامعة أُكسفورد، ونال جوائز كثيرة، وقد نال درجة البكالوريوس 1813م. والماجستير 1816 م، وهي السَّنة التي رُسِم فيها قسًّا في كنيسة القديسة مريم. وبقي هناك حتَّى سنة 1835م، ثمَّ صار أستاذًا للشِّعر في جامعة أُكسفورد لعشر سنوات، ثم عُيَّن راعيًا لكنيسة القديس بولس 1849م، حتّى انتقل في سبتمبر/أيلول 1868م. ويُعدّ (ق. هنري) من أعظم الرِّجال في أوائل القرن التَّاسع عشر، إذ كتب كثيرًا من الأدب والشِّعر والقصص والتَّاريخ، وترجم تمثيليَّات من اليونانيَّة إلى الإنكليزيَّة. ويُعدُّ مِن أعظم مَن كتبوا الشِّعر، وتُعدُّ ترانيمه من أبلغ ما كتب من الشِّعر.

كلمات هذه التّرنيمة مبنيَّة على ما جاء في (زكريا 9:9، متَّى 7:21) “ابتهجي جدًّا يا ابنة صهيون… هوذا ملكُكِ يأتي إليكِ… راكِبًا على حمارٍ، وعلى جحشٍ ابن أتانٍ”. وقد ظهرت هذه التَّرنيمة لأوَّل مرَّة 1827 م، في كتاب للتَّرانيم الخاصَّة بالمناسبات في العبادة الكنسيَّة. وكانت هذه التَّرنيمة، وما تزال، أشهر ترنيمة لهذه المناسبة. وهي تتكوَّن من خمسة أبيات يبدأ كلّ منها بالقول: “يا ملك اُدخُل راكبًا”. وهي تصِف دخول المسيح أورشليم بأسلوب تعليمي بليغ.

عرَّبها الأخ (سليم عبد الأحد). يصِف البيت الأوَّل منها دخول المسيح الانتصاري التَّاريخي مع الجمع الذي كان يشدو حوله حاملًا سُعُف النَّخيل وفارشًا الأثواب في الطَّريق. والثَّاني يُعلن نُصرته على الموت والإثم. والثَّالث يصوِّر نزول الملائكة من السَّماء لمشاركة البشر أفراحهم. والرَّابع يُعلن المسيح الذي يقدِّم نفسه ذبيحة على الصَّليب. أمَّا البيت الخامس فيخاطب المرنِّم فيه المسيح طالبًا منه أن يحمل ثِقْل خطايانا وهو يصعد إلى المجد الرَّفيع. وهكذا، بأسلوبٍ بليغ وتعليم صحيح وحقائق لاهوتيَّة تُقدِّم هذه التَّرنيمة المسيح في مجده وفي وداعته، في سيادته وفي كفَّارته، في تنازُله وفي صعوده.

يا ملك اُدخُل راكبًا في مَوكبِ المجدِ البديعْ

واحمِل ثِقالَ إثمِنا واصعَد إلى المجدِ الرَّفيع

  1. خلّني قرب الصّليب

ترنيمةٌ تتغنَّى بأهميَّة الصَّليب في الإيمان المسيحي. مؤلِّفتها السَّيدة (فرنسيس جين كروسبي 1820-1915م.) الأميركيَّة الجنسيَّة، التي فقدت بصَرها وعمرها ستَّة أسابيع بسبب علاجٍ خاطئ، وتوفيت عن عمر 95 سنة. في الثَّانية عشرة من عمرها التحقت بمدرسة للمكفوفين في نيويورك، ثمَّ أصبحت مُعلِّمة للمكفوفين. وتزوَّجت من الموسيقار الكفيف (الكسندر فان) سنة 1858م. وعاشت معه حياة سعيدة. وتُعتبر كروسبي من أعظم مؤلِّفي التَّرانيم المسيحيَّة، حيث نظَمَت حوالي سبعة آلاف ترنيمة، وبيع من كتبها 100 مليون نسخة.

صليب المسيح هو موضوع هذه التَّرنيمة، وهو جوهر العقيدة المسيحيَّة، وعليه ترتكز دعائم المسيحيَّة. أمَّا لحن التَّرنيمة الذي وضعه الأسقف (جورج واشنطن دوان) الذي كان موسيقيًّا لامعًا، فقد سبق كلماتها، ولما وضع ذلك اللّحن أعطاه للسَّيِّدة كروسبي لتضع كلمات مناسبة له، فوضعت ترنيمة “خلِّني قُرب الصَّليب”. وقد نظمها بالعربيَّة الشَّاعر اللّبناني أسعد الشَّدُودي الذي توفي 1906م.

تتألَّف التَّرنيمة من أربعة أبيات شِعريَّة، يتحدَّث البيت الأوَّل عن التماس المرنِّم أن يقف بجوار الصَّليب حيث سالت دماء المسيح. في البيت الثَّاني تبيَّن كيف أنَّ دم المسيح على الصَّليب قد محا ذنوبنا وخطايانا. البيت الثَّالث يحتوي على إعلان صريح وواضح أنَّ قوَّة الله للخلاص قد ظهرت في الصَّليب، فهو ليس نقطة ضعف، بل نقطة القوَّة. أمَّا البيت الرَّابع فيوجِّه النَّظر إلى المسيح الذي يرافقنا في حياتنا، وسوف نراه بعد الانتقال مِن هذا العالم. أمَّا قرار التَّرنيمة فيعلِن الفخر الدَّائم بالصَّليب، الذي يجب أن يكون على الدَّوام محور الحياة، لأنَّه فيه تظهر قوة الله للخلاص.

في الصَّليب، في الصَّليب راحَتي بل فَخري

في حياتي وكذا بعدَ دفنِ القبر.

  1. دمي الثَّمين

مِن أقوى وأشهّر التَّرانيم التي تُرنَّم خاصَّة وقت التَّقدُّم إلى سِرِّ العشاء الرَّباني. مؤلِّفتها الآنسة (فرانسيس رغلي هافرجل) (1836-1879م.) التي كانت مؤلِّفة موسيقيَّة بطبيعتها، لها تذوُّق خاصّ للموسيقى وتأليفها. بدأت مِن سِنّ السَّابعة تنظُم التَّرانيم. وقد نشأت في بيت تتردَّد بين حُجراته الموسيقى باستمرار. كان والدها قسًا أسقفيًّا، أُصيبَ في حادثٍ ألزَمه البيت، فانصرف إلى نظم التَّرانيم ووضع ألحانها. امتدَّت آثار خدمته هذه إلى كنائس كثيرة في إنكلترا. وكانت (فرانسيس) تقرأ الكتاب المقدَّس وهي في سِنّ الرَّابعة، وقد حفظَت عن ظهر قلب أجزاء كثيرة منه، ودرست وأتقنت خمسَ لغات. كانت موهبتها في التَّرنيم رائعة، فكتبت حوالي أربعمائة ترنيمة، بينما كتب والدها مئة ترنيمة فقط. واشتهَرَت بأنَّها أعظم مُرنِّمة في تاريخ إنكلترا، في النِّصف الثَّاني في القرن التَّاسع عشر. وما أقلَّ الذين يقدِّمون إنتاجًا روحيًّا كبيرًا مثلما قدَّمت (فرانسيس)، التي عاشت فقط ثلاثًا وأربعون عامًا. وقد زادت شُهرتها بعد موتها، وتُرجِمت خمسًا وسبعين ترنيمة من ترانيمها إلى عدَّة لُغات.

في 10 يناير/كانون الثّاني 1858م، كانت في زيارة إلى بيت خادمٍ ألماني، ودخلت البيت مُتعَبة وجلست في غرفة مكتبه، فوجدت أمامها على الحائط صورة المسيح مصلوبًا، وقد كُتبَ تحتها هذه الكلمات: “قد فعلتُ هذا لأجلك، فماذا فعلتَ أنتَ لأجلي؟” وعندما تطلَّعت بدقّة إلى الصُّورة كأنَّ عينيّ الرَّبّ تُصوَّبان إليها، فأشرقت على عقلها كلمات هذه التَّرنيمة فكتبتها على التَّوِّ. لكنَّها لم تُعجَب بها، فطوَت الورقة وألقت بها في نار المدفأة، لكنَّ الورقة أخطأت الهدف وسقطت على الأرض. فغيَّرت فكرها والتقطَتها واحتفظت بها. وعندما زارت سيَّدة عجوز قرأتها لها لتختبر مدى تأثيرها، فسُرَّت بها السَّيِّدة سرورًا عظيمًا، ممَّا شجَّعها أن تُطلِع والدها عليها، الذي بدوره أُعجِب بها جدًّا ووضع لها لحنًا. وهكذا ظهرت وانتشرت في كلِّ العالم بلُغاتٍ كثيرة. وقد ترجمها إلى العربيَّة النَّاظم السَّيِّد (أسعد الشّدودي).

أنا أتيتُ بالغفرانِ والنَّجاة، وقَد وهبتُكَ الخلودَ في الحياة

وأنتَ ماذا يا تُرَى وهَبتَ مِن أجلي؟

  1. المسيحُ اليومَ قام

يرجع تاريخ هذه التَّرنيمة إلى القرن الرَّابع عشر، حيث كانت هناك ترنيمة ألمانيَّة مجهولة المصدر مَطلَعها: “يسوعُ المسيحُ قام اليوم”، وقد تُرجِمَت إلى الإنكليزيَّة عام 1708م، وبعد ثلاثين سنة قام (القس تشارلز ويسلي) (1707-1788م.) بإخراجها في صورة جديدة رائعة، فأصبحت هي التَّرنيمة المشهورة في عيد القيامة. وعندما وضعها (ويسلي) لم يكُن بها كلمة هللويا، التي أضافها في كلِّ بيت فيما بعد. وتتردَّد فيها كلمتان تميِّزانها عن كلِّ ترنيمة (اليوم، هللويا). فكلمة “اليوم” تعطي مكانة خاصَّة ليوم عيد القيامة، فالتَّرنيمة تُكرِّر تحيَّة القيامة المألوفة التي عُرِفَت منذ القرون الأولى للمسيحيَّة: “المسيح قام، حقًا قام”. أمَّا كلمة “هللويا” فهي قرار الأنشودة، وهي جرس الابتهاج ونغمة الانتصار وصيحة الفرح التي حوَّلت كآبة الصَّليب إلى فرح إشراق القيامة. وفيها إعلان لبدء فجر جديد على العالم الذي يستحقُّ أن يصيح فيه كلُّ فرد “هللويا”.

والقس (ويسلي) وُلِد في إنكلترا، ودرس في جامعة أوكسفورد وتخرَّج سنة 1727م. وهو أخو القس المشهور (جون ويسلي) مؤسِّس طائفة الميثودست الإنجيليّة، وهي حركة دينيَّة مُصلَحة، ظهرت في أوائل القرن الثَّامن عشر. وبسبب الحياة التَّقيَّة التي ظهرت في هذه الحركة فقد أَطلَق عليها بعض الأصدقاء لقب “ميثودست” التي تعني النِّظامي، وهو الاسم الذي أطلق على هذه الحركة التي عملت على إحياء الكنيسة في إنكلترا. وقد رُسِم (شارلز) قسًّا سنة 1735م، وأخرج هذه التّرنيمة سنة 1738م. أمَّا الملحِّن فلا يزال مجهولًا. لذلك سُمي هذا اللحن باسم ترنيمة القيامة.

نقلها إلى العربيّة ونظمها السَّيِّد (إبراهيم باز)، وهي تتكوَّن من سبعة أبيات متنوِّعة، تمزج بين أحداث الصَّليب والقيامة والتَّعاليم المسيحيَّة الرَّئيسة. كما أنَّها تتنوَّع في أسلوب متنقِّل من الغائب إلى المتكلِّم إلى المخاطَب. وتتنوَّع في نغماتها، ففيها الحرب والصِّدام، وشوكة الموت وهول الجحيم، وآلام الصَّليب ونُصرة القيامة. وكأنَّ ذلك التَّنوُّع كلَّه يتجمَّع في البيت الأخير:

فلنُرنِّم بانتصار، هللويا.. وهتافٍ وسرور، هللويا

ولنعِش بالانتظار، هللويا.. لرجا يومِ النُّشور، هللويا

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى