الهدى 1256 – 1259 مايو – أغسطس 2024
الروحانية المسيحية، يعتقد كثير من الناس أنّ العبادة تُمارس فقط داخل جدران الكنيسة، وأنّ الروحانية المسيحية تظهر فقط في الاجتماعات من خلال ممارسة بعض الطقوس، أو الليتورجيات، أو من خلال فترات التسبيح والترنيم، أو فترات الصلاة، والاستماع للكلمة المقدسة. وكل ذلك صحيح، لكن مفهوم الروحانية المسيحية أشمل من الممارسات الطقسية داخل جدران الكنيسة، حيث يمكن أن تُمارس الروحانية خارج نطاق الكنيسة بفاعلية عالية جدًا، فتكون بمثابة ترجمة عملية لإيماننا وعبادتنا إلى واقع معاش ومُعلن للجميع، فتتحول الروحانية من نطاق الكلام إلى نطاق الأفعال، لا لتحل الأعمال مكان الإيمان، بل لتكون الأعمال ثمار حقيقية واضحة للإيمان القلبي فيكون الإيمان حيًا وفعّالًا.
لذلك فنحن نخطئ كثيرًا عندما نحد العبادة فقط داخل جدران الكنيسة أو داخل الاجتماعات فقط، لكن الحقيقة العبادة تشمل كل نواحي الحياة. فكما نجتهد أن نعبد الله داخل الاجتماعات في الكنيسة المحلية ومع الكنيسة أي كجماعة مؤمنين من خلال ليتورجية العبادة من تسبيح، وترنيم، وصلاة، وقراءات كتابية، والوعظ والتعليم بكلمة الله، وممارسة الفرائض الكتابية، فهكذا يمكننا أيضًا أن نمارس الروحانية في الحياة اليومية بطريقة عملية من خلال أمور كثيرة أذكر منها على سبيل المثال:
أولًا: من خلال محبة القريب
إن ممارسة المحبة المسيحية بمفهومها الكتابي البسيط، وأخذ زمام المبادرة كما فعل المسيح عندما بيّن محبته لنا بطريقة عملية ملموسة إذ بذل نفسه “وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب.” فممارسة المحبة مع الجميع أعظم تعبير عن الروحانية المسيحية في مفهومها العميق الشامل، والتي تعكس بالطبع العلاقة الأعمق وهي علاقة المحبة الحميميّة مع الله، فكل من تمتع بمحبة الله يستطيع أن يحب غيره.
لكن يأتي التساؤل هنا: “إن أحببنا الذين يحبوننا فأي أجر لنا؟” (متى 5: 46) جاء هذا التساؤل في سياق كلام السيد المسيح له كل المجد عن تقديم المحبة للجميع حتى للأعداء “أحبوا أعدائكم” وذلك بالمقارنة بتعليم الناموسيين والمتدينين في ذلك الوقت أنه “عينٌ بعين وسنٌ بسن.” وهذا أيضًا ما أراد يسوع أن يؤكده في أذهان من يعلمهم آنذاك وبالتالي لنا أيضًا وهو أن المحبة مبدأ من أعظم مبادئ الملكوت، وأكبر تعبير عن الروحانية الحقيقية. فعندما سأله الناموسي ليجربه قائلًا: “يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له: ما هو مكتوب في الناموس كيف تقرأ؟ فأجاب وقال: تحب الرَّبَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك، فقال له بالصواب أجبت أفعل هذا فتحيا.” (لوقا 10: 25-27) وعندما سأله الناموسي: من هو قريبي؟ فضرب له مثل السامري الصالح، والذي مفاده أن القريب الذي يطلب منه أن يحبه ليس هو فقط قريبه في النسب، أو العرق، أو الدين، أو المعتقد أو .. لكن القريب هو الإنسان بغض النظر عن نسبه، أو دينه، أو لونه، أو معتقده أو .. لذلك فصنع الرحمة والخير للجميع دون تمييز هو أكبر ممارسة للمحبة، وأعظم تعبير عن الروحانية المسيحية. وأنت أيضًا عزيزي القارئ يمكنك أن تمارس الروحانية بطريقة عملية عندما تبادر في صنع الخير لقريبك في الإنسانية دون تمييز فتكون رسالة الله المقروءة من جميع الناس.
وهناك مثال آخر لذلك في الكتاب وهو مثال “طابيثا” في (أعمال 9) حيث كانت متعبدة لله في منطقة يافا، وكانت تمارس الروحانية المسيحية من خلال مساعدة الأرامل والأيتام في مجتمعها الذي كانت تعيش فيه، إذ إنها كانت ممتلئة أعمالًا صالحة وإحسانات كانت تفعلها، فحدث أنها عندما مرضت وماتت جاء بطرس فرأى “جميع الأرامل يرين ثيابًا وأقمصة مما كانت تعمل غزالة (طابيثا) وهي معهن.” (أعمال 9: 36). وهناك كثير وكثير من النماذج العظيمة التي عرفت معنى الإنسانية فاتجهت بالخير للإنسان، أمثال الأم تريز، لليان تراشر، الدكتور مجدي يعقوب، وغيرهم كثير وكثير.
ويُعلّمنا الكتاب أيضا: “فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ.” (يعقوب 4: 17). والخير هنا ليس فقط مساعدة الفقراء، بل كل ما يؤول ويعود بالنفع على الناس والمجتمع والإنسانية بصفة عامة، وكم وكم يكون جديرًا بمن تتلمذوا كطابيثا عند أرجل السيد له المجد “يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ، الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ.” (أعمال 10: 38)، فيليق بهم أن يجدّوا في عمل الخير “مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلًا فِي الرَّبِّ.” (1كورنثوس 15: 58).
وأيضًا يُنبر الرسول يعقوب على الديانة الحقيقية في رسالته قائلًا: “الديانة الطاهرة النقية عند الله هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم (يعقوب 1: 27). لذلك عزيزي القارئ أنت أيضًا تستطيع أن تمارس الروحانية بطريقة عملية مثل ذلك وتعبر عن نفسك وعن إيمانك في أفعال معينة تعكس من خلالها إيمانك القلبي بإلهك. فهل تجِدّ في عمل الخير ومساعدة من هم يحتاجون إلى مساعدتك بشكل أو بآخر سواء بكلمة تشجيع، أو بزيارة وافتقاد، أو بمشاركتهم ظروفهم، أو بالتفكير معهم في مشكلاتهم ومساعدتهم على الخروج منها، أو توصيلهم إلى مختصين، أو الأخذ بأيديهم للخروج من أزماتهم سواء بطريقة مادية أو معنوية.
عندما يخرج الإنسان خارج دائرة ذاته المنحصر فيها فإنه يستطيع أن يرى من هم حوله من يحتاجون إلى المساعدة مهما كان نوعها، ويستطيع أيضًا أن يتعاطف معهم، ويضع نفسه موضع المسؤولية مسؤولية الإنسانية، فيتجه بالخير للجميع، فيكون إنسانًا خيّرًا وممتلئًا أعمالًا صالحة، متعلمًا من السيد النموذج الفريد. (أعمال 10: 38)
ثانيًا: من خلال كرم الضيافة
أيضًا يمكن ممارسة الروحانية المسيحية من خلال إظهار الكرم والسخاء عند التعامل مع الآخرين خاصة الضيوف والغرباء، فالترحيب بالآخرين، والابتسام في وجههم، وضيافتهم دليل قوي على المحبة العملية لله وللقريب فيوصي الرسول بولس قائلًا: “عاكفين على إضافة الغرباء.” (رومية 12: 13). وأيضًا يوصي الرسول بطرس في رسالته الأولى على هذا الأمر فيقول: “كونوا مُضيفين بعضكم بعضًا بلا دمدمةٍ.” (1بطرس 4: 9). ويقول بولس أيضًا في رسالته إلى أهل رومية: “يسلم عليكم غايس مضيفي ومضيف الكنيسة كلها.” (رومية 14: 23). وأيضًا يمدح الرسول يوحنا في رسالته الثالثة غايس الحبيب قائلًا: أيها الحبيب أنت تفعل بالأمانة كل ما تصنعه إلى الأخوة وإلى الغرباء الذين شهدوا بمحبتك أمام الكنيسة.” (3يوحنا 5). كذلك إبراهيم الذي كان مثالًا للكرم، ولقد أشار الدكتور “مارك سوانسون” في كلامه عن الروحانية المسيحية في أحد اللقاءات الخاصة بالقسوس إلى بعض الأمثلة منهم هذا المثل عن إبراهيم، ووضح فيه كيف أن إبراهيم كان رجلًا مضيافًا. حيث كان بالفعل رجلًا شرقيًا كريمًا ومضيافًا بكل معاني الكرم الشرقي، ولقد ظهر ذلك عندما ظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض، وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك…وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا.” (تكوين 18: 1–8) وهكذا استضافهم وصنع لهم ضيافة عظيمة. فلقد كان كرمه وسخائه ترجمة عملية لإيمانه العظيم بالله مصدر الكرم والسخاء، فهكذا كان يمارس الروحانية من خلال ضيافته للغرباء، وكرمه، وسخائه تجاه الضيوف وجميع من حوله. وهكذا كان يترجم إيمانه إلى أفعال. وأنت أيضًا عزيزي القارئ تستطيع أن تترجم إيمانك إلى أفعال كأن تبتسم في وجه الآخرين، وأن تكون مُرحبًا بالآخرين في بيتك، في كنيستك، في عملك.
ثالثًا: من خلال الأمانة في الوكالة
أحيانًا كثيرة يكون مبدأ الوكالة المسيحية غير واضح لدى البعض، أو أنه يحتاج إلى التركيز عليه، ففهمنا أن الله بصفته وكينونته أنه الخالق لكل شيء، بما فيه نحن أيضًا، فهو المالك الحقيقي لكل شيء، ونحن لسنا إلا وكلاء فقط على ممتلكاتنا، وعلى أولادنا، وعلى كل ما أعطانا الله إياه، حتى على ذواتنا. وكما نعرف أن الوكيل ليس هو المالك، بل هو شخص أوكل إليه المالك حق التصرف في ممتلكاته وإدارتها. وهكذا كم يعكس فهمنا لمبدأ الوكالة وتطبيقه في حياتنا مدى طاعتنا وخضوعنا لله كالسيد الذي له الجميع. وهذا بدوره ينعكس على كل شيء. فنحن مسؤولون عن كل الوزنات التي أعطانا إياها الله وعلينا أن نكون وكلاء أمناء على وكالته، ولنلاحظ أن الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير.” (لوقا 16: 10)
ونرى في هذا المثل الذي ضربه السيد المسيح لتلاميذه وهو مثل الوكيل الخائن أن السيد صاحب الوكالة أتى ودعا الوكيل وقال له: “أعط حساب وكالتك.” (لوقا 16: 2) لذلك فعلينا أن ندرك أننا مجرد وكلاء على كل شيء منحه إيانا الله فنسعى ونجتهد أن نكون وكلاء صالحين “كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة” (1بطرس 4: 10). وهكذا ينعكس هذا المفهوم على موضوع العطاء أيضًا، فحينما تدرك الجماعة وجميع أفرادها ذلك لا يجري التعامل مع العطاء باستهتار واستهانة، أو كأداء فرض أو واجب بروح الاضطرار، بل بروح الشكر والعرفان والامتنان للرب. لأن العطاء يعتبر تعبيرًا رمزيًا ملموسًا عن تكريس القلب والحياة بالكامل للرب. لذلك فالمؤمن الوكيل الذي أدرك أنه مجرد وكيل، تجده عند تقديم العطاء للرب لا يكون مغمومًا أو مضطرًا، بل مسرورًا ممتنًا مُرددًا في قلبه: “ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي؟ كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو. أوفي نذوري للرب مقابل كل شعبه.” (مزمور 116: 12 – 14).
لذلك عزيزي القارئ يمكنك التعبير عن روحانياتك السامية من خلال أمانتك في كل ما أوكلك عليه الله من وقت وصحة وأبناء وممتلكات وخدمة وعمل وغيره، وثق أن الله يرى الأمناء والوكلاء الصالحين ويكافئهم، أما الوكلاء غير الصالحين فلا تغر منهم ولا من سلامتهم، ولا من ثرواتهم التي جمعوها بغير وجه حق، ولا من مناصبهم ومراكزهم التي تبوؤها بطرق ملتوية لأنه سيأتي الوقت الذي يُقال لهم فيه: “أعطِ حساب وكالتك.” ما أعظم أن يوصف شخص ما بأنه متعبد لله، وما أجمل أن يكون توجهه هو عبادة الله، فما أروع العبارة الشهيرة التي نطق بها يشوع في القديم قائلًا: “أما أنا وبيتي فنعبد الرب” (يشوع 24: 15) وكأنه يعلن أمام الجميع طاعته للوصية الكتابية: “الرب إلهك تتقي وإياه تعبد وباسمه تحلف” (تثنية 6: 13)، وأيضًا نطق السيد بكلمات عظيمة من المكتوب عن التعبد والسجود للرب وحده قائلًا: “للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” (لوقا 4: 8) تلك العبارة التي أشهرها في وجه إبليس الماكر وقت التجربة.
إن التعبد الحقيقي لله هو التعبد الذي يسره ويشبع قلبه، وأيضًا هو الذي يترك تأثيرًا إيجابيًا في النفس وفي الآخرين أيضًا، وكلما كان اتجاه قلبنا صحيحًا وكلما تواجدنا بانتظام في أماكن العبادة، وواظبنا على حضور الاجتماعات الروحية، وكلما زاد تقديرنا لكلمة الله فنصغي لها باهتمام، وكلما اجتهدنا في أن نمارس الروحانية المسيحية بطريقة عملية أيضًا خارج جدران الكنيسة، فنعلن ونشهر إيماننا للآخرين بحياتنا، وسلوكنا، وأقوالنا، وأفعالنا كلما كنا متعبدين مؤثرين في وسط المجتمع الذي نعيش فيه “لكي تكونوا بلا لوم، وبسطاء، أولادًا لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو، تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم.” (فيلبي 2: 15)