لا تصالُح مع أعداء العبادة
الهدى 1260 – 1263 سبتمبر – ديسمبر 2024
وهل للعبادة أعداء؟ يقول أحد الكتَّاب: «يستلقي البشَر على ظهورهم ويتحدَّثون عن سقوط البشريَّة، لكنَّهم لا يفعلون شيئًا للقيام منها». هذا ما أودُّ أن أقوله أيضًا: «إنَّنا نجلس مُسترخين في مكاتبنا، أو هكذا نقِف على منابرنا، أو نجلس على مقاعدنا في الكنيسة، ونوجِّه اللَّوم.. تارةً للمنبر ومَن يقفون عليه، وتارةً للمُتعبِّدين، في تلويم شديد على فتور فقرات وفترات العبادة، وعظًا وترنيمًا، وعَّاظًا ومَوعوظين، مُرنِّمين ومُصلِّين، مِن دون أن نُقدِّم شيئًا عمليًّا لإنهاضنا، مع الأسف الشَّديد». وفي كلِّ مناسبة رسميَّة، أو ودِّيَّة، يأتي فيها الحديث عن «العبادة» نشكو كثيرًا من هؤلاء وأولئك، ونُنادي بضرورة الإصلاح والتَّغيير… إلخ، ولا جديد. وفي مناسبة أخرى، أو بعد فترة طويلة، نُعيد الكلام نفسه بالحماسة نفسها، ولا جديد!! أمَّا السَّبب الحقيقيّ فهو أنَّنا ربَّما نعرف ما لا نريده بالتَّحديد، لكنَّنا من المؤكَّد لا نعرف ما نريده بالتَّحديد.
واحدة من أخطر وأكبر نتائج سقوط البشريَّة: مُعاداة العبادة الصَّحيحة. الأمر الذي يجب ألَّا نتهاوَن فيه. لقد خصَّص الله وصاياه الأربع الأولى من الوصايا العشر لمُعالجة تلك النَّتيجة. لذلك، عندما نتناول هذا الأمر ليتنا لا نستلقي على ظهورنا في سلبيَّة واستسلام، أو نُردِّد شعارات إصلاحيَّة في العبادة، أو نُعارض كلّ مَن يريد أن يُقيمنا من غفلتنا بالادِّعاء أنَّنا متيقِّظون تمامًا… بل نفعل مثلما فعل بولس في معركته الفِكريَّة (2كورنثوس 10: 5، 6) «هادمين ظنونًا، وكلَّ علوٍّ يرتفع ضِدَّ معرفة الله، ومُستأسرين كلَّ فكرٍ إلى طاعة المسيح، ومُستعدِّين لأنْ ننتَقِم على كلِّ عصيانٍ متى كمَلَت طاعتُكُم». فما أكثر أعداء العبادة الذين يبدون كأصدقاء، لأنَّهم مِن الدَّاخل، ونحن نُرحِّب بهم ونُزيِّنهم ونُروِّج لهم. هُم ليسوا أشخاصًّا، بل توجُّهات ومُعتقدات ألبسناها ثوب الجاذبيَّة والرُّوحانيَّة، نزولًا على رغبة الزَّبائن. وهؤلاء خمسةٌ منهم:
1. الأجْـر
عندما تكلَّم المسيح عن الصَّلاة والصَّوم والصَّدقة في (متّى 6) علَّم أنَّه مِن الرِّياء أن تُظهِر اهتمامَك بأجْر الله، بينما تسعى في الحقيقة إلى أجْر النَّاس. ذلك ما يهدف إليه المُرائي/المُمثِّل على المسرح. لذلك يقول: «الحقَّ أقول لكم إنَّهم قد استوفَوا أجرهم» (ع 5). يبدو أنَّ أضواء المسرح أصبحت أكثر جاذبيَّة من صوت المِنبر، وبالتَّالي أصبح التَّكلُّم أكثر جاذبيَّة من الاستماع، والأداء أكثر جاذبيَّة من المَضمون، والموسيقى أكثر جاذبيَّة من الكلمة، والإنارة أكثر جاذبيَّة من الاستنارة (مع الأسف الشَّديد). لذلك، فإنَّ مَن يقود فترة العبادة الجماعيَّة يميل عادةً إلى تقديم عرضٍ واستعراض مسرحيّ، وليس خدمة الرَّبّ وعبادته، وينتظر تصفيق الجمهور له ومدحهم إيَّاه على انبهارهم بما قدَّم. أمَّا الطَّامة الكبرى فهي أنَّ المُتعبِّدين أصبحوا يميلون إلى العَرض وليس العبادة. ذلك هو الغَزو الذي تتعرَّض له الكنيسة اليوم، وهو ما يعمل على إعاقة نموّ العبادة. إذن، التَّفكير في ذلك الأجر عدوٌّ لدود للعبادة الطَّاهرة، ولا يجوز التَّصالُح معه.
2. التَّـرفيه
أصبحت الخدمة، لدى بعض الخدَّام، خاصَّة خدمة التَّسبيح، «سبِّوبة»، وذريعة لجمع المال والوصول إلى الشُّهرة. لذلك، يميل هؤلاء إلى إسعاد المُتعبِّدين وإضحاكهم، وليس إلى توبيخهم على خطاياهم وأخطائهم. ولبعضٍ أصبح يوم العبادة هو يوم تجمُّع اجتماعي للتَّرفيه، فيما يُشبه نادٍ كنسيّ للتَّسلية؛ أو سوقٍ خيريّ لترويج بعض مُنتجات أبناء الكنيسة؛ أو مطعَم لتناول الوجبات الشَّهية بتكلفة أقلّ، بذريعة روح الشَّركة والتَّوفير… ورغم وجاهَة تلك الأفكار، إلَّا أنَّها أصبحت الهدف الأساس من الذِّهاب إلى الكنيسة. يظهر ذلك في كمِّ الوقت الذي نقضيه معًا بعد الاجتماع، مُقارنةً بمدَّة الاجتماع نفسه. إذن، مبدأ التَّرفيه أثناء العبادة عدوٌّ لدود للعبادة النَّقيَّة، ولا يجوز التَّصالُح معه.
3. السَّـطحيَّة
المادَّة التَّعليميَّة التي تُقدَّم/الوجبة الرُّوحيَّة أصبحَت أشبَه باللَّبن الذي للأطفال، ولا ترقى إلى مستوى الطَّعام الذي للبالغين (عبرانيين 5: 14). هي مسؤوليَّة المُعلِّم والمُتعلِّم أيضًا، حين يقدِّم مادَّة مُتكرِّرة ومُستهلَكة مِن العظات والتَّأمُّلات والتَّعليقات، التي هي أشبه بإعلانات عن سِلعة الإيمان بالمسيح؛ والخلاص الرَّخيص؛ والاتِّكال على الرَّبّ لتحقيق الأمنيات واستجابة الصَّلوات وعمل المعجزات… إلخ. وما يُسهِم أيضًا في سطحيَّة العبادة رؤية المُتعبِّد لنفسه أثناء العبادة، أنَّه جُزءٌ من جمهورٍ يُشاركه احتفالًا، وليس عضوًا في جسدٍ حيّ يشترك معه في العبادة الرُّوحيَّة. لذلك، يأتي ويخرج كما دخل، ليعود مرَّة أخرى بالتَّفكير نفسه في الأسبوع التَّالي. إذن، السَّطحيَّة فيما يُقدَّم أو يُطلَب هي مِن ألدِّ أعداء العبادة العميقة، ولا يجوز التَّصالح معها.
4. النِّـفاق
ذلك عندما يقول المُتعبِّد، أو القائد في الوعظ أو التَّأمُّلات، في التَّرنيم أو الصَّلاة، كلامًا منقولًا مُترَوحِنًا غير كتابيّ وغير واقعيّ. الحقيقة أنَّنا لا نعمل ما نؤمن به، بل نؤمن بما نعمله، ذلك هو النِّفاق والرِّياء. لذلك، لا تتغيَّر طريقة تفكيرنا، وبالتَّالي لا تتغيَّر أفعالنا. نؤدِّي في العبادة الفرديَّة أو الجماعيَّة دور المُتعبِّد حتَّى تنتهي فصول مسرحيَّة العبادة. نؤدِّي الدَّور كما يقول السِّيناريو المُسبَق الذي تلقَّنَّاه وتلقَّيناه، ذلك هو التَّوجُّه الذي عارَضه المسيح بشدَّة -الرِّياء في العبادة. تلك هي الخطيئة التي تمنع العالم مِن أن يفهَم ويقبَل الكنيسة باعتبارها كيانًا روحيًّا نقيًّا، وجعلته يرفض مسيحيَّتنا مع إمكانيَّة قبوله لمسيحنا وفكره وحياته، لأنَّنا نؤدِّي أدوارًا ولا نُقدِّم حياةً، ونتشدَّق بأنَّنا شعبٌ مُتديِّنٌ بطبيعته. إذن، النِّفاق والرِّياء من ألدِّ أعداء العبادة الطَّاهرة، ولا يجوز التَّهاون أو التَّصالُح معه.
5. اللَّاطائـفيَّة
أيْ التَّعليم بأنَّ المسيحيَّة لا تحتاجُ إلى طوائف، بينما الحقيقة أنَّ الطَّوائف نعمة وأمَّا الطَّائفيَّة فنقمة. لقد أدَّى التَّوجُّه اللَّاطائفيّ إلى تمييع الصَّبغة الخاصَّة بكلِّ كنيسة، تلك التي تُغذِّي الوعي وتمدُّ الحياة بالشَّكل والهويَّة. لقد فشِّلنا في إدراك جمال الآخَر المُتباين المُختلِف عنَّا في أسلوب العبادة، وذلك بسبب أجيالٍ مُضَلِّلة مِن الطَّائفيِّين الذين رأوا أنَّ أسلوب العبادة في طائفتهم، وفكرهم اللَّاهوتي، هو الصَّواب وحده. إذن، اللَّاطائفيَّة تعليمٌ مُعادٍ للعبادة الصَّحيحة، حيث يأخذها بعيدًا عن الالتزام والاتِّزان، فلا يجوز التَّصالُح مع ذلك العدوّ.
هادمين ظنونًا
لا يمكن تجديد وإصلاح العبادة بمُجرَّد تغيير التَّرانيم أو الألحان أو أسلوب عزف الموسيقى، أو بتغيير المسؤولين عن قيادة العبادة، أو بدعوة مُتكلِّمين مَشهورين. فإذا استمرَّ البناء العامّ لخدمة العبادة مُعوِّقًا لقُدرة الشَّعب على العبادة الصَّحيحة، فلن يحدث أيَّ تغيير. لكن، متى كانت هناك رغبة صادقة في ذلك التَّجديد، فكلُّ جُزءٍ في نظام العبادة، وليس في أساسِها اللَّاهوتيّ، يجب أن يُختَبَر ويخضَع للتَّقييم وإعادة النَّظر، وتحديد مدى مُساهمَته في الابتعاد عن الهدف الرَّئيس من العبادة، أو مُساهمَته في تحقيق الهدف المرجو من كلِّ فقرة في العبادة الجمهوريَّة. مع ملاحظة أنَّ لكلِّ كنيسةٍ طابعها الخاصّ بها، وتُخطئ كثيرًا الكنيسة المحليَّة عندما تتبنَّى أسلوبًا لكنيسة أخرى، وبالتَّالي تبتعِد جدًّا عن صحيح العبادة. لذلك، قبل البدء في مُحاولات التَّجديد والإصلاح، يجب أن يكون لدينا فهمًا واضحًا لدور كلِّ جُزءٍ من مكوِّنات العبادة، وقُدرته على المُساهمة في تحقيق الهدف.
سيأتي تجديد وإصلاح العبادة مِن التَّغيير في عادات وتوجُّهات المُتعبِّدين، متى كانت غير صحيحة، الأمر الذي يحتاج إلى حكمة وحساسيَّة، وقُدرة على الابتكار والانتظار لدى الرَّاعي ومجلس الكنيسة والخدَّام. وأيضًا مِن خلال مجموعة مُعيَّنة، يجب اختيارها بدقَّة وحكمة، مُستعدُّون لتقديم جهدهم ووقتهم ومواهبهم لقيادة الكنيسة في العبادة، لتكون: صحيحة لاهوتيًّا؛ مُعزِّية ومُغذِّية؛ مركزها المسيح؛ وتُحفِّز المُتعبِّدين لاختبار أشكالٍ جديدة للعبادة، قد تكون قديمة ويُعادُ إحياءها، بما يجعل المُتعبِّد مُتلهِّفٌ بشوقٍ لكلِّ فقرة من فقرات العبادة، وليس كأنَّه محكومٌ عليه بالعبادة إلى حين وقت العظة. وقد تكون جديدة من حيث أسلوبها.
ما أصعب إقناع النَّاس بأنَّ هناك عبادات يقومون بها، ربَّما بسذاجةٍ ونيَّةٍ طيِّبة، لكن لا يقبلها الله، لأنَّها تتعارَض مع طبيعته وكلمته، وأنَّها باطِلة. فالوصايا الأربع الأولى مِن الوصايا العَشر تُشدِّد على العبادة الصَّحيحة للرَّبِّ وحده. ولا تتحدَّث عن إنكار وجوده، أو عدم عبادته، بل تُعالِج مُشكلة عبادة الله وعبادة غيره معه «لا يكُن لك آلهة أخرى أمامي». لأنَّ الإنسان يميلُ بطبعه إلى رسم تصوُّرات خاصَّة عن الله ويعتبرها صحيحة، ويعبدها ويقول: «هذا هو الإله الحقيقي الواجِبُ العبادة». أمَّا العبادة الحقيقيَّة فهي الأشواق الرُّوحيَّة الحقيقيَّة، التي تُقدَّم للإله الحقيقي وحده «للرَّبِّ إلهك تسجُد وإيَّاه وحده تعبُد». تلك هي الوصايا التي يجب أن نتصالح معها دائمًا.