الروحانية الإنجيلية

تأملات في مفهوم الروحانيّة

الهدى 1256 – 1259                                                                                                       مايو – أغسطس 2024

إشكالية البَحث في موضوع الرُّوحانيَّة هي دلالة اللّفظ والمعنى فإنّنا نستخدم بعض الألفاظِ وفي عقولنا مدلولات ومضامين ومعانٍ مختلفة ومتنوعة من مصادرَ مختلفة، وبالتّالي فإنَّ مفهوم اللّفظ عند الواحد يختلف عن مفهومه عند الآخر، لذا نريد أنْ نُخرج الرُّوحانيَّة لفظًا ومعنىً واتجاهً وأسلوب حياةٍ من نطاقها الضّيق إلى إطلاق العنان في التّفكير، لنعرف ما مدلول الرُّوحانيَّة الصَّحيحة في عالم اليوم كما يراها كاتب هذه التّأملات التي شغلت بالَه منذ أكثر من عشرين عامًا مضت؟

وبادئ ذي بدء أوضِّح أنَّ الرُّوحانيَّة لا وطن لها، فلا هي شرقيّةٌ ولا غربيّةٌ، ولكنها حالة إنسانيّة مُعاشة لا ترتبط بنمط أو شكل معين في التّفكير أو تتقيد بخبرة واحدة في الحياة، فإذا ارتبطت بأنظمة ضعفت، وإذا تَقَوّلبت وانحصرت تطرّفت. ولكنّ الرُّوحانيَّة تساعد الإنسان على الابداع المستمر، والتّفكير الصّحيح، والانتاج العلميّ، وتوظيف الإمكانيات المتاحة بكيفيّة علميّة لإحداث التّقدم، ومن هنا نرى أنَّها إذا ارتبطت بمكان تجمّدت، وإذا ارتبطت بزمان تغرّبت. ولذا تقاس الرُّوحانيَّة بمدى التأثير الحادث داخل أيّة أمّة وبمدى التّقدم أو التّخلف الحادث كعلامة سببيّة بين الرُّوحانيَّة والتّقدم.

ومشكلتنا الحاليّة أنّنا ميّزنا الشّرق بالرُّوحانيَّة ووصمنا الغرب بالماديّة، وعبّر عن ذلك الكاتب المصريّ المعروف الرّاحل خالد محمد خالد في كتاب “من هنا نبدأ” (ص 52-62) عندما وَصف هذه الفكرة بأنها خبيثة، ووَصف تميز الشّرق عن الغرب في روحانيّته بأنها “روحانيّة الغافلين المنتفعين” فلا روحانيّة في الحرمان أو الكبت، ولا روحانيّة مع الجهل والتّخلف. واستعير هنا من كلامه ص 61 (هذه روحانيتنا) فأقول:

الرُّوحانيَّة ليست ضدّ العقل أو ضدّ الجسّد، بل تعمل على إعمال العقل واحترام الجسّد دون تحقيره، ومن خلال هذه الرُّوحانيَّة ننظر إلى الإنسان كيانًا متكاملًا، لأنَّه خُلِقَ في أحسن تقويمٍ، والتّقسيم الحادث جاء من فلسفة ترى أنَّ المادة شرٌّ وأنَّ الرُّوح خيرٌ، فأنشطر الإنسان إلى كيانين متباعدين قاد ذلك إلى صراعٍ كبيرٍ أدى إلى هجر الدّنيا، واحتقار الجسد، والانسلاخ عن الواقع والفوضى في الغيبيات والخرافة واغتراب الإنسان في الزّمان والمكان.

ولكن عندما ندرك أنَّ الرُّوحانيَّة تنادي بالكيان المتكامل للإنسان روحًا وجسدًا معًا، تربط الإنسان بقضايا بلده في إطار زمانه ومكانه، ويكافح من أجل النّمو والتّقدم ويعمل على التّعايش بفكر مستنير بنّاء، ووعي بمجريات الأمور والعمل على إمكانية التّجديد والتّنمية المستمرة.

وإذا ارتبطت الرُّوحانيَّة بعقلٍ واعٍ ونضجٍ فكريّ قادت إلى نهضة فكريّة، ونبذت أيّ فكرٍ مضَلِّلٍ وغريبٍ حتَّى لو جاء إلينا مُصدَّرًا ومغلفًا بمنطق (الفكرودولار) من الدّول الأجنبيّة أو (الفكروبترودينار) من البلاد العربيّة.

وعندما ترتبط الرُّوحانيَّة بالعبادة فهي موقف الإنسان -أي إنسانٍ- تجاه خالقه. يُنشئ هذا الموقف صحوة في الضّمير، وقوّة في الأخلاق، وصلابة في الإيمان، وقدرة على التّغيير يؤدي هذا الموقف إلى اتجاه أفقي الإنسان نحو أخيه الإنسان في تكامل وتضامن وتقدير وتعايش سلمي وقبول الآخر والتّحاور معه بدلاً من تكفيره وتصفية جسده. هذا الموقف يجاوب على سؤالنا عندما أتعبد لله هل أقتل أخي؟ وهل هناك روحانيّة وراء القتل؟

ليست الرُّوحانيَّةُ أناشيدَ ونصوصًا محفوظةً، أو ألحانًا معزوفة أو لغوًا كلاميًا، ولكنّها إحساسٌ مبنيٌ على الفهمِ، وشعورٌ مبنيٌ على الإدراكِ، وعاطفةٌ متوهجةٌ مضبوطةٌ بالعقلِ.

وعندما ترتبط الرُّوحانيَّة بالسّلوك والعمل اليوميّ فهي تعني نبذ نشر فكر الفهلوة والتّهليب، وتكريس السّرقات، واعتياد التّسيب، من كسر إشارة المرور حتَّى الغِش في الامتحانات إلى ترك صنبور المياه مفتوحًا. فلا تصبح الرُّوحانيَّة يوتوبيا، وطنًا فاضلاً نهفو إليه، ولكنَّها واقعٌ يكرس ويقدّس قيم التّقدم مثل: الدّقة، والعطاء، الفهم، الاحترام، الانضباط، الالتزام، حرية التّعبير، حُسن الإدارة، أمانة الوكالة، إعمال العقل في السّلوك العملي اليوميّ تشمل العامل في مصنعه، والفلاح في حقله، والتّلميذ في المدرسة والأستاذ في التّعليم…إلخ. فترتقي لغة الحوار، وتتهذّب الحواس، ويتقدّم الفكر، ويتضاعف الانتاج، وتصبح المدرسة مدرسةً والمعلم معلمًا. والعامل في عمله رقيبه الضّمير وعنوانه جودة الانتاج. فنصل إلى روحانيّة تهتم بنهضة المجتمع بأسره بأسلوب هادئ طويل المدى وخطط مدروسة ورؤى شاملة يكرِّس لها الإعلام والميديا وقتًا كافيًا لإرساء نهضة شاملة يشترك فيها كل أفراد المجتمع.

ومن هنا نرى أنَّ الرُّوحانيَّة لا تُصنِّف البشر في أيّ عنصريّة، ولا تكرّس التّعالي بين النّاس، ولا تزيد الفجوات بين الغني والفقير، أو بين الشّمال والجنوب، أو بين من يمتلك علمًا وبين آخر لا يملك، أتذكر في هذا الصّدد بطل قنديل أم هاشم في رائعة يحيى حقي “قنديل أم هاشم” حيث يتعالى بطل الرواية -العائد من الغرب والحاصل على درجة الدكتوراه في طب العيون- على المجتمع الذي تربى ونشأ فيه، فلم يستطع التّواصل معه أو البدء في إصلاحه، وبطريقة ثوريّة انقلابيّة خالية من أيّ انضباطٍ، حطَّم قنديل أم هاشم الذي كان يعتبر رمزًا دينيًا شعبيًا فأحدث الفواصل وقطع التّواصل، وفشل في بداية الأمر، وعلى الرغم من تشابه الظروف والاحساس بنفس الظّلام والجهل، قاد طه حسين -العائد من الغرب- أيضًا إصلاحًا هادئًا، وروحانيّة مبنية على الأحساس بآلام البشر، وأنَّ نجاتهم من الوهم والتّخلف هو في تعليمهم؛ فنادى بمجانيّة التّعليم، وأنّ التّعليم كالماء والهواء للجميع، فهو حق لكل مواطنٍ إيمانًا منه أنّ التّعليم الصّحيح يؤدي إلى روحانيّة صحيحة. ما فشل فيه في بداية الأمر بطل قنديل أم هاشم بروحانيّة متعالية، نجح فيه طه حسين في أيامه بفهم واعٍ لطبيعة واحتياجات وثقافة عصره وعمل على تغييرها.

الرُّوحانيَّة الواقعيّة ليست تَرفًا فكريًا، أو رفاهية عقليّة ولكنها مُعاناة تدعو دائمًا إلى التّأصيل والحيويّة والسّير ضدّ اتجاه التّيار وما أكثر التّيارات المعاصرة من مد أصوليّ متطرِّف في جميع الأديان، ولعل مشكلات الشّرق الأوسط السّياسيّة خير دليل على ذلك، والنّموذج هو الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، من اتجاه خطاب الاستهلاك مرورًا بتيارات العولمة، والسّماوات المفتوحة، وما تحمله من عالم افتراضيّ، والسوشيال ميديا وغيرها من التأثيرات التي جعلت من العالم قرية واحدة، فبناء الضّمير أحد أولويات الرُّوحانيَّة التي تدعو على الانضباط والالتزام والثّبات.

ومن هنا نرى أنَّ الانغلاق والانعزال ليس بروحانيّة، فلا روحانيّة في الانعزال، ولكن الرُّوحانيَّة الصّحيحة ليست في الكبت أو المنع، ولكن في بناء ضمير حيٍّ حرٍّ يستطيع أن يقارن، ويحلّل، ويختار، ويرتب الألويات، وينتقي الأفضل الأصلح والأهم للإنسان والبشريّة.

تختلف الرُّوحانيَّة في هذا الاتجاه عن ثقافة العفاريت، وأوهام الخُرافة، والأساطير، والدَّجل، والتَّفسير الخاطئ للدين؛ فهي ليست إرهابًا فكريًا، وليست جمودًا عِقديًا، وليست لغةً ماضويّةً تشدنا للخلف، ولكنّها انفتاحُ العقل والبصيرة في الفكر والاتجاه على كلمة الله (الكتاب المقدَّس)، وعمل المسيح، والرُّوح القدس في ضوء الواقع المُعاش. ولا يمكن فصل الرُّوحانيَّة عن حياة القداسة وحياة العبادة والجهاد اليوميّ ضدّ الشرِّ والخطيّة والجسد.

لا تدعم الرُّوحانيَّة الصّحيحة قيم السّلبيّة التي عمّقت جذور الفوضى في المجتمع المصريّ، بل تنشر قيمًا إيجابيّة أكثر حرصًا على سلامة المجتمع وتقدّمه. فروحانيّة القيم السّلبيّة قادت مجتمعنا إلى الإغراق في الغيبيّات كما قادت إلى تدمير الحضارة بشقيها الماديّ والمعنويّ، وما نراه من تدني في القيم وانحدار في السّلوكيّات هو خير توصيف وتجسيد لهذه القيم ولا ندري إلى أين تقودنا هذه القيم؟ وماذا سيحل بنا من المصائب مستقبلاً؟ فنحتاج إلى روحانيّة تنتشلنا من الإغراق في هذه القيم السّلبيّة.

تعني الرُّوحانيَّة الإصلاح المستمر لموقفنا بناء على النقد الذّاتيّ لنفوسنا بصدق وموضوعيّة فلا نضخِّم من ذواتنا فنصبح “ظاهرةً كلاميّةً” أو نقلِّل من قيمتنا فنصاب بالدُّونيّةِ، ولكنّ الرُّوحانيَّة تساعدنا لكي نعرف من نحن؟ فنعرف عجزنا ونقوّمه ونستفيد من خبرات وتقدم الآخرين.

أخيرًا، ترتبط الرُّوحانيَّة بقضايا الأرض والجسد وتوطّد العلاقة بين الفرد ووطنه، فالوطن وجد قبل أن يوجد الإنسان والدين والفكر والإيديولوجيّا، فأيّة روحانيّة أو أيّ اتجاه يدعو إلى تدمير الأرض أو تخريبها هي روحانيّة قاصرة واتجاه منقوص.

وأفضل من جسّد هذه الاتجاه هو دور عُرابي في مسرحية “عُرابي زعيم الفلاحين” للكاتب المصريّ عبد الرَّحمن الشّرقاوي عندما دار الحوار بين عرابي وبعض من النِّساء والرّجال في حلقة ذكر (الفصل الأول المنظر الثّاني، ص 13-18، طبعة دار الشّروق)، عندما كانوا يتراقصون على أنغام صوفيّة، إذ قال لهم:

عُرابي: فيم اجتمعتم ها هُنا تتراقصون وتركتم البلد المعذَّب في شراك الغاصبين؟

….

عُرابي: ليس التّصوف هذه الأسمال والخرق المرقعة البوالي،

إنَّ التّصوف أن نجاهد في سبيل الحق لا نرجو مكافأة الجهاد.

ماذا؟ أتعتزلون والأهوال تفترس البلاد؟

….

عُرابي: إنَّ التّصوف أنْ تناضل كي يسود العدل والقيم الشّريفة.

إنَّ التّصوف أنْ تكفَّ النّاس عن نزعاتها، كيلا تكون مزخرفًا تبدو بهيًا للعيون وأنت جيفة.

إنَّ التّصوف ليس لِبس الصُّوف، لا بل أن تُلابس عزمة الأمل الجسور.

إنَّ التّصوف أن نصوغ حياتنا الدّنيا على التّقوى ونحسن ضبط ميزان الأمور.

….

عُرابي: إنَّ التّصوف ليس في ترك الحلال، وإنما هو اكتفائك بالحلال.

إنَّ التّصوف ليس الاستسلام، بل هو الاقتحام.

إنَّ التّصوف في انتفاضات القلوب، وليس في هذا الخمول.

إنَّ التّصوف في تحركك النّبيل

ليس التّصوف أن يطول وقوفكم في الشّمس،

بل في جهدكم كي تصنعوا الظِّلَّ الظَّليل.

كانت هذه محاولة جادة صيغت بلغة شعريّة لتوضيح خطورة الإغراق الشكليّ في التّصوف حسب رؤية الشّرقاويّ، أو الإهمال الحقيقيّ لمعنى الرُّوحانيَّة، وما نحتاجه هو إيجاد خطاب ثقافيّ دينيّ معاصر يوضح مفهوم الرُّوحانيَّة الصّحيحة، فنقدم الخبز للجائع، ونقدم الماء للعطشان؛ فيروى وليس العكس.

القس عيد صلاح

* راعي الكنيسة الإنجيليّة في عين شمس القاهرة، مصر.
* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيليّة بالقاهرة، 1994م، ليسانس حقوق. كلية الحقوق، جامعة القاهرة، فرع بني سويف، 2001م.
* دبلوم الدراسات المسكونيّة، معهد بوسي/جامعة جينيف، سويسرا، 2002م
* دبلوم المدرسة الصيفيّة الدوليّة في الدين والحياة العامة، إندونيسيا، 2012م،
* دبلوم حقوق الإنسان، كلية الحقوق، جامعة أسيوط مصر، 2016م.
* ماجستير القانون، كلية الحقوق، جامعة أسيوط مصر، 2017م.
* يدرس الدكتوراه PhD في القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة بني سويف، مصر.
* زميل مركز كايسيد Kaiciid مركز الملك عبد الله ابن عبد العزيز للحوار بين أتباع الديانات والثقافات.
*مسؤول المكتبة الإليكترونية لرابطة شمال إفريقيا والشرق الأوسط للتعليم اللاهوتيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى