الرجاء المسيحي وما هيته
الهدى 1232 يونيو 2021
«لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً؟ وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ» (رومية 8: 24، 25).
بدأت قصة الخلاص بميلاد وفداء المسيح وستنتهي بحصولنا على الجسد الممجد في السماء. وما نحياه الآن في قصة الخلاص نحياه بالإيمان وبالرجاء نبدأ نتذوق هذه البركات، وهذا العربون، فالرجاء يفتح القلب لمعاينة هذا الخلاص. فالمسيح تمم عمل الخلاص ونحن بدأنا، لكن علينا أن نكمل العمل بخوف.
ونتأمل في هذا الموضوع الهام من خلال:
أولًا: «الرجاء» كمفهوم
ثانيًا: سمات الرجاء المسيحي
ثالثًا: تاريخ الرجاء
أولًا: «الرجاء» كمفهوم:
وردت في العهد الجديد 50 مرة، مرتين فقط تشير إلى مجيء الرب (تيطس 2: 13، يوحنا الأولى 3: 2-3)؛ وهناك 8 آيات تتكلم عن أحداث مرتبطة بمجئ الرب (مثل رومية 5: 2، أعمال 23: 6؛ 27: 20).
بينما – يوجد 40 آية في الإنجيل ذُكرت فيها كلمة الرجاء ليست متعلقة بمجيئ الرب. فالرب يسوع عندما يُعطينا الخلاص بالإيمان – فإنه يُنشئ فينا حالة رجاء، بولس يشرح في أفسس 2 ، إن الجميع كانوا أمواتًا بالذنوب والخطايا ولكن الله أحيانا مع المسيح، أقامنا وأجلسنا معه لذا في أعداد 10 –12 «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا لِذلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلًا فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَانًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ أنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِد لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ»
الانتقال الى ملكوت المسيح جعل فينا حالة جديدة:
لم تكن فينا قبلًا: حالة الرجاء. جدير بنا أن ننتبه أن هذه الآيات (وعددها 40 آية) لا تتكلم عن مجيء الرب ولا عن أحداث، مرتبطة بمجيئ الرب – لكنها تتحدث عن حالة رجاء يعيشها المؤمن هنا على الأرض، وهذا أمر هام للغاية ان الرب يربط الرجاء بأحداث حياتنا اليوم وفي ذلك تأهيل بلا شك (status) لرجاء أعمق يتم بمجيء المسيح ثانية.
إذا ما هو تعريف الرجاء؟ إنه حالة «توقّع باستمتاع»؛ الرجاء في مفهوم الكثيرين هو التمني والأمل، مثال: «أرجو أن يحدث ذلك الأمر». ولكن ليس هذا هو ما يقصده الكتاب المقدس بالرجاء. فتعريف الكتاب المقدس للرجاء هو «التوقع بثقة». الرجاء هو يقين راسخ بشأن الأمور غير المعروفة (رومية 8: 24-25؛ عبرانيين 11: 1، 7).
الرجاء مكون أساسي في حياة الأبرار: (أمثال 23: 17-18).
بدون الرجاء، تفقد الحياة معناها (مراثي أرميا 3: 18؛ أيوب 7: 6). كما يجد الأبرار الذين يضعون رجاءهم في الله عوناً (مزمور 28: 7)، ولن يخيب رجاءهم أبداً (إشعياء 49: 23). الأبرار لديهم ثقة في حماية الله (إرميا 29: 11) وليس لديهم خوف أو قلق (مزمور 49: 2-3).
أي إني أعيش مستمتعًا في حالة توقع لحدوث أمر إيجابي ومفرح. إنها حالة فيها القلب فرحان والنفس متيقنة أن:
الله سيصنع في المستقبل شيئًا أفضل في حياتي:
هذا هو معنى الرجاء الحقيقي أي أن الرجاء الذي فينا ظاهر في الفرح الذي يغمرنا. في المسيحية يوجد رجاء للجميع ويوجد رجاء للبلاد ويوجد رجاء للعالم كله. لنا رجاء في افتقاد الرب للبشرية في كل وقت. مهما كانت الصعوبات فإن هذا الرجاء لا يضعف أبدًا.
الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً: لكننا مع وجود الرجاء (الأمل) وهذا يعطينا فرح، فهناك آلام يسمح بها الله للتأهيل للمجد السماوي لأن عيوننا تثبتت على ما نرجوه ولذا فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ. فلذا على سبيل المثال نقرأ عن أبطال الإيمان (عبرانيين 11: 39، 40)، الذين لم يستمتعوا بالمسيح على الأرض «فَهؤُلاَءِ كُلُّهُمْ، مَشْهُودًا لَهُمْ بِالإِيمَانِ، لَمْ يَنَالُوا الْمَوْعِدَ، إِذْ سَبَقَ اللهُ فَنَظَرَ لَنَا شَيْئًا أَفْضَلَ، لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا.»
لَمْ يَنَالُوا الْمَوْعِدَ فحتى نحن الآن نحيا بهذا الرجاء وكلنا ننتظر تمام تكميل المواعيد مع قديسي العهد القديم وذلك حتى يشترك الجميع في الإيمان الواحد وفي الميراث السماوي. وكاتب العبرانيين يضع أمامهم هذه الصورة ليعرفوا أنه يجب عليهم أن يحتملوا الآلام لفترة ليتزكى إيمانهم.
لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا: الله أعطى وعود بالمجد الأبدي ولكن سنحصل عليها كلنا جميعًا، من كانوا من العهد القديم ومن هم من العهد الجديد، الكل سيستمتع معا بالمجيء الثاني.
هذا التمتع الذي رأيناه كقديسي العهد الجديد ألا نشعر بالفخر به فمهما قابلنا من أتعاب أو محن أو أوبئة أو أمراض غريبة غير مألوفة نحن لا نرى إلا الأمجاد ولا ننتظر سوي مجيء الرب. وهذا ليس غيابًا عن الوعي أو اغفال وقع أزمة مريرة ومحنة عالمية مؤلمة بل ثقة في إله حي ووعي بما هو غير المنظور فهو يعني بالنسبة لنا الرجاء العميق والتوقع الأكيد الذي يكتمل ويتوج بالمجيء الثاني المجيد للرب يسوع.
ثانيًا: سمات الرجاء المسيحي
1-الرجاء الدائم:
«كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله» (رو 8: 28): ونقصد الخير بالمقاييس الإلهية وليس الخير بمفاهيمنا البشرية. الله هذا صانع الخيرات، هو الذي نرجوه.
«مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لأَسْنَانِهِمْ. انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ، وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا. عَوْنُنَا بِاسْمِ الرَّبِّ، الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (مزمور 124: 6-8).
فالله يفضل أن نسلك بالإيمان لا بالعيان وأن نثق في حمايته ومحبته دون رؤى أو معجزات، لو زاد الإيمان عند شخص لدرجة أصبحت تقارب العيان نجد أن هذا الشخص ذو الدرجة العالية قادر أن يرى ما لا يراه الإنسان العادي فلقد أصبحت له حواس روحية تعطيه نظرة روحية وإعلانات لا يراها الإنسان العادي، فالله يطلب لنا أن نسلك بالإيمان «الإيقان بأمور لا ترى» (عبرانيين 1:11)
الإنسان الذي عنده رجاء، لا ينظر إلى الضيقات، إنما ينظر إلي الله الذي ينتصر على الضيقات. الذي قال «أنا قد غلبت العالم» ويظل فيه هذا الرجاء إلى أخر نسمة، فيتمتع بطمأنينة في الداخل، ليكن لك نظرة مشرقة للحياة، ولك رؤية للمستقبل متوقعا الخير، ولك رؤية بعيدة الى المستقبل الأبدي في السماء.
لا تنظر إلى الحاضر المتعب الذي يبدو أمامك، بل انظر بعين الرجاء الى المستقبل المبهج في الله.
ثق أن كل مشكلة لها عند الله حلول، وكل باب مغلق له مفتاح، وكل سقوط لابد له من قيام
2-الرجاء وارتباطه بالإيمان والمحبة
«لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ. وَلْيُعْطِكُمْ إِلَهُ الصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ أَنْ تَهْتَمُّوا اهْتِمَاماً وَاحِداً فِيمَا بَيْنَكُمْ بِحَسَبِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (رومية 15: 4، 5).
إن كل ما كتب لأجل تعزيتنا يدعم رجاءنا في المسيح ليس من صنع الخيال بل هو حق متجسد فمحن الحياة مهما ازدادت لا تشكل أي تشكيك لأنَّ « الله معنا» والآلام والأمراض وانتشار الفيروس سواء كورونا أو غيره لا يزيدنا سوي ثباتًا أعمق وامتلاءً أقوى بسيدنا الغالي، فالرجاء الموضوع أمامنا «هُوَ لَنَا كَمِرْسَاةٍ لِلنَّفْسِ مُؤْتَمَنَةٍ وَثَابِتَةٍ، تَدْخُلُ إِلَى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ.» (عبرانيين 6: 19، 20) المسيحي كمن هو في مركب معرَّض للغرق في هذا العالم (بحر العالم) والرجاء هو المرساة التي نستند عليها لذا نرى الثلاثية الخالدة التي أشار لها بولس في 1كورنثوس 13 الايمان والرجاء والمحبة
فالإيمان يلد الرجاء والذي له رجاء في الله يحبه، وهكذا يصل إلى قمة العلاقة بالله في المحبة «أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ هَذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ» (1كورنثوس 13: 13) لذلك نثق في وعود الله لنا «لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ» (عبرانيين 10: 23) الإيمان شعاع والرجاء نـور والحب شمس.
ثالثا: تاريخ الرجاء
إذا عدنا للوراء وسردنا ما نستطيع أن نُطلق عليه «تاريخ الرجاء» وكيف أتى الرجاء إلينا نرى
«متعه الرجاء»
عند كل موقف مرت به البشرية فالرجاء قديم قدم البشرية بل أقدم منها، فأول رجاء عرفة البشر هو رجاء في الخلاص (إن نسل المرأة يسحق رأس الحية) (تكوين 15:3). وظل هذا الرجاء في قلوبهم آلاف السنين حتى تحقق أخيرًا في تجسد الرب، وفي صلبه عن البشرية. وقد كان الرجاء موجودًا قبل آدم وحواء، في قصة الخليقة الأولى، كان هناك رجاء لتلك الأرض الخربة الخاوية المغمورة بالمياه، وعلى وجه الغمر ظلمة (تكوين 1:1).
وحقق الله لها هذا الرجاء حينما قال (ليكن نور فكان نور) فحول الأرض الخربة الي أجمل صورة.
لو فقد الإنسان الرجاء تنهار معنوياته:
حيث يقع في القلق، ومرارة الانتظار بلا هدف فأولاد الله باستمرار عندهم رجاء، يقول بولس الرسول «إن كان لنا رجاء في هذا العالم فقط، فنحن أشقى جميع الناس» (1كورنثوس 15).المسيحية تعطي رجاء حتى للقصبة المرضوضة وللفتيلة المدخنة.»قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ» (متى 12 :20) القصبة المرضوضة قادر الله أن يعالجها، والفتيلة المدخنة قادر الله أن يرسل لها ريحًا فتشتعل من جديد ، ولهذا أعطى في ذلك رجاء حتى للركب المخلعة، وللأيدي المسترخية (عبرانيين 12 : 12).
فعلى الرغم من كل أخطاء يونان وعصيانه لكنه أخيرًا خضع للرب في بطن الحوت. هل إنسان يوجد في جوف الحوت ويكون له رجاء؟ نعم وذلك لأنَّ يونان صلى وهو في جوف الحوت.
وقال للرب «وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ» (يونان 2: 4). وكان هناك رجاء حتى للثلاثة فتية وهم في أتون النار، ولدانيال وهو في جب الأسود ( دانيآل 3 :20 – 23؛ 6 : 14- 22)
بل هناك رجاء حتى للعاقر التي لم تلد، «ترنمي أيتها العاقر… أوسعي مكان خيمتك.. ويرث نسلك أممًا ويعمر مدنًا خربة» (إشعياء 54: 1-3).
هناك رجاء أعطاه لنا الرب في الذين قاموا من الأموات كلعازر الذي أنتن (يوحنا 11: 43-44)
وبالنسبة لما نواجهه اليوم من فيروس غريب طرح البعض مرضي والبعض الاخر ماتوا فهل هناك رجاء أو أمل؟ نعم وبالتأكيد فهناك رجاء قدمه الرب في شفاء الأمراض المستعصية..
في إعطاء البصر للعميان، والصحة للجدع والعرج والمشلولين، وكل ذي عاهة، وصاحب اليد اليابسة، حتى الإنسان الذي قضي ثماني وثلاثين سنة إلي جوار البركة لا يجد من يلقيه فيها، جاء له المسيح وقال «احمل سريرك وامش» (يو 5). مهما كان الأمر مستعصيًا، ومهما بدا للناس معقدًا، هناك رجاء يقدمه الله. ولعل الرب أعطانا مثالًا جميلًا في هذا حينما قال «غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله» (مرقس 9: 23)
وختامًا:
إذًا لا حدود للرجاء في المسيحية
والمؤمن، حينما يقع في تجارب متنوعة، يعرف أن الرب عنده حلول كثيرة، وانه لابد أن يأتي مهما بدا أنه قد تأخر. «أنتظر الرب، ليتشدد وليتشجع قلبك، وأنتظر الرب» (مزمور 27: 14).
أنت لا تؤمن أن الله سيعمل في المستقبل، وإنما ينبغي أن تؤمن أن الله يعمل حاليًا. ولذلك يكون عندك رجاء، فيما لا تراه من عمل الله، ولكن توقن تمامًا وتثق أن الله يعمل.
الله يعمل، أنت لا تراه يعمل لكن تؤمن بذلك، ويكون لك رجاء بنتيجة عمله التي ستراها بعد حين.