القيامة الرجاء والإيثار في زمن كورونا
الهدى 1220 أبريل 2020
يكاد يكون من المستحيل التحدث عن أي شيء سوى فيروس كورونا والفوضى التي غطت عالمنا. شاهد الأخبار، وتحقق من وسائل التواصل الاجتماعي، وتحدث مع العائلة والأصدقاء، ويتحول الموضوع حتمًا إلى فيروس كورونا؛ وقد حلَّ علينا عيد القيامة هذا العام وغالبيتنا نشعر بالخوف والهلع، وجميعنا بقينا تحت الحظر الاحترازي، فلا عبادة ولا احتفالات جمهورية في الكنائس، ولا تجمعات عائلية كبيرة في المنازل، وربما أبوابنا مُغلَّقة كما كان التلاميذ يوم قيامة المسيح، خائفون مرتعبون، من الخوف من اليهود، بالرغم من أخبار القيامة، ورؤية بعضهم للمسيح المُقام.
لكن علينا أن نتذكر، أنَّ خوف التلاميذ انتهى، وحلَّ محله الفرح بالرب المُقام، وهكذا ستنتهي أزمة فيروس كورونا، وسنبقى في فرح ورجاء القيامة، وأمام قيامة المسيح من الموت، علينا أن نُفكر بعمق في انتصار المسيح على الموت، وما أثَّر على إيماننا في المسيح المُقام، وفي أزمة كورونا الحاليّة، بكل ما تحمله من معاني للمرض والضعف والموت، علينا أن نرى رجاء القيامة الذي يُغير المفاهيم، ويُصبح حقيقة واقعة لا يفهمها العالم، فلا يُطلق عليها إلا لفظة تحتاج لشرحٍ وتفسير فيقول إنها «الإيثار»، ونقول نحن عنها، إنها الإيمان العملي، والرجاء الحي في المسيح الحي الذي هزم الموت، وأعطانا نصرته.
إنها قصة الكاهن الإيطالي «بيرارديلي»، الذي قدَّم نموذجًا مسيحيًا، لمعنى «رجاء القيامة»، وأنَّ المؤمن لا يموت، بل يرقد على رجاء، ففي الوقت الذي ضرب فيه فيروس كورونا العالم، وأصاب أكثر من ثلاثة ملايين شخص، وأفقد أكثر من مئتي ألف إنسان حياتهم، كان الشمال الإيطالي من الأكثر تضررًا، في عدد الإصابات والوفيات، وأصبح لجهاز التنفس الصناعي ضرورة مُلِحة، لأنه قد يُنقذُ حياة إنسانٍ من الموت، وفي وسط هذا الذعر والرعب والصورة السوداويّة، فجآتنا الأخبار العالميّة بقصة الكاهن الذي تبرع بجهاز التنفس الصناعي الخاص به، لشابٍ لا يعرفه، أملًا في منح هذا الشاب فرصة للحياة، بينما كانت كلمات هذا الكاهن تُعبِر عن إيمانه في المسيح المُقام، ورجاء القيامة الذي عاش له، وتمتع به، مُرددًا كلمات الرسول بولس: «لِهَذَا السَّبَبِ احْتَمِلُ هَذِهِ الأُمُورَ ايْضاً. لَكِنَّنِي لَسْتُ اخْجَلُ، لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ امَنْتُ، وَمُوقِنٌ انَّهُ قَادِرٌ انْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ» (2تيموثاوس 1: 12)، إنَّ ذلك الكاهن كان يُدرِك بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ المسيح الذي آمن به، وكرَّس له الحياة، قام مُنتصرًا على الموت، مُنشدًا «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (1كورنثوس 15: 55)، فلم يخف هذا الكاهن من الموت، لأنَّه تمتع برجاء القيامة.
إنَّ ما نعرفه عن ذلك الكاهن، هو اسمه، «جيوسيبي بيرارديلي»، وعمره «72 عامًا»، وخدمته راعي كنيسة «إبراشية كاسنيجو››، وموقع خدمته الجغرافي، «قرية صغيرة» في الشمال الشرقي لميلانو، وأنَّه كان متواضعًا مرِحًا يُحب الحياة، وعندما أصابه فيروس كورونا، ونظرًا لعمره المتقدم، وخطورة إصابته، نُقل إلى المستشفى، واحتاج جهازًا للتنفس الصناعي، ولأنه كان مُحبًا للجميع، قامت كنيسته بشراء جهاز تنفس صناعي لراعيها، لكنه عَرِفَ أنَّ شابًا جواره يحتضر وفي حاجة ماسة لجهاز تنفس صناعي، وهنا تجلى الإيمان المسيحي، ورجاء القيامة الحقيقي في قرار ذلك الكاهن، إذ رفض استخدام جهاز التنفس الصناعي الخاص به، وقدَّمه لذلك الشاب، مانحًا إياه فرصة جديدة للحياة، ولقد اندهش العالم كله لتصرف ذلك الكاهن، كيف لإنسانٍ أمامه فرصة للنجاة والحياة، لا ينتهز هذه الفرصة، بل يُقدِمها لغيره؟ ماذا يمكن أن يُطلق على هذا التصرف؟ إنَّه الإيثار.
«الإيثار» في قواميس اللغة، هو لفظٌ يُطلق على أي تصرفٍ أو فعلٍ أخلاقي يقوم الشخص بفعله، ويهدف لأن تعمّ الفائدة والخير على غيره من الأشخاص وليس عليه دون انتظار أيّ مقابل لهذا الفعل، فالشخص هنا يُفضل مصلحة الأخر على مصلحته الشخصيّة؛ وإن كنا نرى أن الإيثار أمر نادر في حياتنا اليوميّة، ولكن أن يُقدِم إنسانًا حياته لأجل إنسانٍ أخر، لا يعرفه، فهو أمرٌ ربما نقرأ عنه في القصص الدينيّة فقط؛ لكن ما عمله بيرارديلي كان نموذجًا حيًا وتطبيقًا عمليًا لقول الرسول بطرس: «لأَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1بطرس 2: 21)؛ وقد حقق قول الرسول بولس: «وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أعمال 20: 24).
وإنْ كنا كمؤمنين نتطلع إلى حياة جديدة، خالية من المعاناة والألم والموت، فإنَّ إيماننا بالمسيح المُقام، يمنحنا أملًا في مستقبلٍ أكثر إشراقًا، ورجاًء في انتصارٍ مُحققٍ على الموت، لقد مات ذلك الكاهن، تاركًا هذه الحياة، لكنه رقد على رجاء قيامة الأموات، وتأكيدًا لإيمانه الحقيقي والعملي بشخص المسيح الذي قدَّم حياته عوضًا عن البشرية، وليمنح كل مَن يؤمن به حياة جديدة، أبديّة، تنتصر على الموت، ولا تخشاه.